عن المنح المالية... وكالة سورية حصرية
تتالت ما اصطلح على تسميتها بالمنح المالية التي تصدر عن رئيس النظام السوري بشار الأسد منذ بداية الأزمة عام 2011، وكانت تتصاعد قيمها مع هبوط قيمة الليرة السورية، وهي تهدف ـ فيما تهدف ـ إلى أمرين:
الأول تهدئة الشارع السوري، والموالي منه تحديداً، بإبر مخدرة سرعان ما ينتهي مفعولها بعد صرف المنحة الشحيحة، ليعود أعضاء حزب البعث والمؤيدون والخائفون من حلقات الدبكة، ومسيرات التأييد إلى جوعهم وطوابيرهم بانتظار منحة ـ هبة أخرى من القائد المفدّى.
الثاني: التهرب من استحقاق زيادة الأجور التي تحمل صفة الديمومة، حيث أنّ جميع المنح يرد في مراسيم منحها إنها لمرة واحدة فقط ومعفاة من الضرائب، وهذه النقطة الأخيرة هي التي يلقي إعلام النظام ومروجوه من فئة المحلّلين الذين طفوا على سطح الأزمة الأضواء الساطعة مشيدين بها، وكأنها ستخرج الزير من البير كما يقال.
واضح لكل ذي بصيرة أنّ كّل ما فعلته الحكومات المتعاقبة، وتستمر فيه الحكومة الحالية برئاسة حسين عرنوس (وهي في أيامها الأخيرة كما يبدو، وكما تقول تسريبات عديدة) في حقل الاقتصاد ومعيشة الناس، هو اقرب إلى لعبة "الكشتبانات" التي تعتمد على الخفة والمهارة والخدعة البصرية في "تشليح" الضحية كل ما يملكه حتى آخر ليرة عن طريق الإيحاء له بأنه رابح أو في طريقه إلى الربح.
هذا مع الإشارة إلى أنّ الحكومات في سوريا منذ استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963، وخصوصا بعد انقلاب حافظ الأسد على رفاقه من مجموعة صلاح جديد ("الشباطيين" نسبة إلى انقلاب 23 شباط 1966 ـ البعث الديمقراطي لاحقاً وهو ما يدعي أنه يسار البعث)، والذي اسماه بالحركة التصحيحية عام 1970، وأقصى بعدها منافسيه كلّهم، وزجّهم في السجون حتى وفاتهم واحداً إثر آخر، هذه الحكومات ما هي إلا هياكل شكلية لا حول لها ولا قوة في القضايا الجوهرية والرئيسية، وهي ليست أكثر من أدوات تنفيذ القرارات، فيما الخطوط الرئيسية والاستراتيجيات ـ إن كان هناك استراتيجيات ـ تضعها وتنفذها، وتقطف ثمراتها الدوائر الأمنية والحلقة الضيقة حول الرئيس.
طبخة الحصى
إنها حكاية طبخة الحصى المعروفة، إذ تقوم الأم التي تعجز عن إسكات عواء الجوع لدى أطفالها بوضع قدر على الحطب تملؤه بالحصى لتعِدَهم كلما عضّهم وحش الجوع وطلبوا طعاماً بأن الطبخة على النار وأوشكت أن تنضج، فينام الأطفال على حلم الطعام، لكن إلى حين.
الفرق بيننا نحن السوريين وبين أطفال الحكاية إنّ من يضحك علينا بطبخة الحصى لا يفعل ذلك عجزاً عن تأمين الطعام، أو حباً وحناناً، بل لاستمرار آلية النهب التي تعيد توزيع الدخل باستمرار، لتنتفخ جيوب تجار الحرب وشركائهم في مواقع السلطة والنفوذ بتناسب طردي مع ازدياد الجوعى، ومع تفاقم الجوع لدى ملايين السوريين.
فمع كل "مكرمة" زيادة في الراتب أو منحة تقوم الحكومة بسحب أضعاف ما كلفته المكرمة على موازنة الدولة عبر زيادة الأسعار والضرائب وقنوات الجباية الأخرى، وللمفارقة فالمنحة دائما تأتي من الرئيس فيما تأتي زيادات الأسعار من الحكومة ووزرائها الذين يصبحون مصدات لهجوم المؤيدين والمراهنين على إصلاح النظام، فيما تبقى صورة المنقذ والرحيم ونصير الفقراء هو السيد الرئيس الذي "لا ينسى شعبه"!!.
وهو ما يكرّس النظرية التقديسية للقائد الفذ الملائكي بأنه يحاول إطعام الناس ويشعر بمعاناتهم، أما من يقوم بإذلالهم وتجويعهم فهي الحكومة التي (عيّنها هو وسمّى وزراءها ورئيس الحكومة والمحافظين، ولا دخل لأي برلمان أو هيئة منتخبة بتعيين الحكومة والمناصب الكبرى في الدولة، فالأمر كلّه مرهون برضا القائد وثقته، لذلك درجت في الحياة الاجتماعية السورية عبارة "مبروك ثقة القيادة" على ألسنة المؤيدين كتهنئة ومباركة تحمل في مضمونها معاني الحسد والغبطة وعبادة الفرد، لمن يستطيع بالتزلف والتملق وإطعام مراكز القرار، ويصل إلى أحد المناصب العليا في الدولة أو في حزب البعث، حال صدور قرار استلامه للمنصب).
هو "منيح" لكن حوله لصوص
وقد دأبت المواقع والصفحات المدارة من قبل غرف الظل في النظام على مهاجمة الحكومة وبعض الوزراء (غير السياديين)، وكذلك تفعل صفحات المؤيدين على مواقع التواصل، مكرّسين ومثبتين صورة الأب القائد الحنون العطوف فيما من حوله زعران ولصوص يعطونه صورة غير صحيحة عن أوضاع الناس ويتآمرون مع الخارج ضد "السيد الرئيس" بإجراءاتهم القاسية على الناس ومعيشتهم.
وقد أصبح لهذا "التيار" رموزه و"قادته" مثل عضو البرلمان في الدورة السابقة الكاتب نبيل صالح، الذي ما كان لينال في أي انتخابات حرة مائة صوت، وهو كاتب وصحفي وصاحب موقع "الجمل بما حمل" المعروف بنقده اللاذع للحكومة وحزب البعث قبل الأزمة، واليوتيوبر بشار برهوم وآخرين كثر، وهؤلاء يشكلون الجيش السري للنظام، حيث يستبسلون في الدفاع عن لقمة عيش المواطن السوري ويوجّهون أقسى الانتقادات للأجهزة التنفيذية (حكومة، محافظين، بلديات...الخ)، دون أن تطالهم عصا التأديب والزنازين المظلمة المعدة لكل من يحاول المساس بهيبة القيادة.
هناك مقولة معروفة في الاقتصاد تقول: ميزانية الدولة جيوب رعاياها، لكنها في الحالة السورية تصبح بحاجة إلى إضافة كلمة "فقط"، حيث أفرزت الحرب والتدمير الذي طال فروع الاقتصاد، والهجرات المليونية التي ضمّت الشباب والخبرات، هذه الحالة، وحيث تصبح التنمية والتصنيع والزراعة والسياحة وغيرها أموراً نافلة لتأمين الموارد وجيب المواطن إضافة إلى تجارة الكبتاغون هما المصدران الوحيدان لميزانيتها، وهي من أهمّ مظاهر الدولة الفاشلة..
منحة الـ16 دولار...
مناسبة هذا الكلام هي المنحة المالية بقيمة 100.000 ليرة سورية (ما يعادل 16 دولاراً أمريكياً) التي أعلن الرئيس بشار الأسد عن منحها للعاملين في الدولة والمتقاعدين بتاريخ 15/12/2022..
ومصطلح "المنحة" كما أسلفنا إبداع سوري بامتياز، ونستحق عليه براءة اختراع فعلاً، فمن المعلوم إن القاعدة في العمل تقول: "أجر معلوم مقابل عمل معلوم"، أما أن يعلن رب العمل (وهي الحكومة هنا) عن هبات أو منح أو مكرمات مالية كل فترة للعاملين لديه فهي واحدة من سمات الحالة السورية المتفردة شكلاً ومضموناً.
والمنح المالية هي عادة درجت عليها السلطة منذ سنوات كي تتهرب ـ كما أسلفنا ـ من أي زيادة في رواتب العاملين في الدولة التي وصلت إلى قيمة أقرب إلى الصفر كقدرة شرائية، (الحد الأدنى لرواتب العاملين في سورية هو دون المائة ألف ليرة أي أقل من 16 دولار)، لأنها تمنح لمرة واحدة وتعطي بصيص أمل للعاملين بأن هناك من يتذكرهم ولو "كل سنة مرة"!! فيما هم يغوصون في أوحال القلة وانعدام الحيلة أمام متطلبات الحياة الضرورية لاستمرارهم على قيد الحياة التي أصبحت تكلف عشرات أضعاف رواتبهم (تؤكد وسائل الإعلام الحكومية والخبراء الاقتصاديين الذين تستضيفهم مراراً بأن الحد الأدنى الراتب الذي يؤمن البقاء على حد خط الفقر الأدنى (حد الجوع) يجب أن يكون مليونا ليرة شهرياً!! فيما يغيب بدر الدجى ليعود بعد عام شاهراً منحة ال16 دولاراً للجوعى والمعوزين والكاظمين الغيظ.
أي كلام يمكن أن يقال في سلطة تفعل بمواطنيها كل هذا، ولا تقدم لهم سوى التبريرات بالحرب تارة، والحصار تارة أخرى، وبسيطرة قوى غاشمة على موارد الطاقة أحياناً، وكأن كل هذه الأسباب لا دخل لها فيها، ولم تساهم هي في خلقها عبر إغلاق كل منافذ الحوار مع السوريين المختلفين معها وتخوينهم وتجريمهم، وليست مهمتها هي أولاً وآخراً إيجاد حلول للمواطن الذي بقي في البلد، مكرهاً أو راغباً، لكي يستمر في العيش لا في الحياة التي أصبحت حلماً، أي كلام؟!!
ماذا عن الآخرين؟!
النقطة الثانية التي تعيد المكرمة التذكير بها، ماذا بالنسبة لملايين الناس الذين لا يعملون في الدولة، ولا تشملهم المنحة؟!
العاملون في القطاع الخاص، وبالمناسبة فهذا القطاع بسبب شراهته للربح السريع لا تزيد رواتبه عن رواتب الدولة إلا بالقليل (حوالي 300.000 ليرة شهرياً ـ حوالي 45 دولارـ كمعدل وسطي الرواتب في القطاع الخاص، أو ما تبقى منه بعد إغلاق معظم المنشآت)، لا تشملهم المنحة، ولو على حساب رب عملهم.
كان بإمكان المرسوم أن ينص على ذلك دون أن يكلف ميزانية الدولة ليرة واحدة بإلزام أرباب العمل على منحها كمكرمة منهم لعمالهم مثلاً، أليس هؤلاء سوريين؟! ألا يعانون شظف العيش مثل العاملين في الدولة ويدفعون الضرائب ويمضون الساعات بانتظار وسائل نقل شبه معدومة ويدفعون جزءاً كبيراً من رواتبهم كأجور نقل؟!!
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ ما يسمى حالياً بالقطاع الخاص هو في غالبيته شركات سياحية ومالية مهمتها الأساسية تبييض أموال محدثي النعمة، وتجار الحرب شركاء كبار المسؤولين الأمنيين، والحلقة الأقرب لرئيس النظام.
العاطلون عن العمل، جرحى الحرب ومقعدوها، المعوقون، أصحاب الأعمال الحرة الصغيرة التي بالكاد تطعم أطفالهم، الأرامل، المطلقات، العجائز، والمياومون الذين ينتظرون أي عمل على قارعة الطريق.
كل هؤلاء يحترقون بنار الأزمة المعيشية الكارثية دون أن ينتبه لحالهم احد، ودون أن تمطر عليهم غيوم المنحة الكريمة!!
بطبيعة الحال لا أحد من أصحاب القرار يشعر بما يعيشه المواطن العادي، إنهم في أبراجهم العاجية ينعمون بالكهرباء والماء والغذاء والكساء، فيما يحترق المواطن بنار الغلاء والعتمة والبرد والجوع، نعم الجوع الذي تؤكد تجارب التاريخ إنه إذا انفجر سيحرق الأخضر واليابس، حتى قصوركم ومزارعكم لن تسلم منه، صدقوني.