النظام السوري 1970-2023 تاريخ حافل بالمؤامرات والانتهاكات
مقدمة أو استهلال لا بدّ منه يجب أن نضعه نصب أعيننا عند مقاربة الأزمة السورية، وهي أنّ النظام السوري نشأ نشأة مشبوهة وتاريخه حافل بالمجازر من عام 1963 ولغاية اليوم. لم يعمل يوماً لمصلحة بلده، بل لم يتوان لحظة عن استغلال آلام وعذابات السوريين لمصلحة الدائرة الضيقة في عائلته. فعل شائن وليس بجديد أو غريب عن نظام تسبّب بكلّ هذا الدمار والقتل والخراب، لذلك لا يجد حرجاً من سرقة المعونات، وتجارة المخدرات، واستغلال الأزمات الدولية، والكوارث الطبيعيّة لإعادة تأهيل نفسه، مستفيداً من علاقات نفعيّة، ودور وظيفي يقوم به.
"الدولة" المتوحّشة
يقول الصحفي الفرنسي ميشيل سورا في كتابه الدولة المتوحشة: "لكلّ طاغية شيطان يعلّمه، ولكلّ عالم حكمة تسيّره، ولكن إذا ما كان الحاكم هو الشيطان نفسه، فماذا يكون يا ترى؟" حال يختصر صورة الأسد الأب، وفرخه الذي تفوّق على أبيه. ولمّا كان الأسد الأب بارع طيلة عقود، في اللعب على التوازنات والمتاجرة بالشعارات، وبنى علاقات مع الدول العربية والأجنبية، و دخل في تحالفات أطالت بعمره، وأطلقت يده، فإنّ الابن ورث كلّ هذا، إضافةّ إلى السلطة. قد لا يوجد نظام في نصف القرن الماضي يتصف بما يوصف به "النظام" السوري، وفق كلّ المقاييس. كما لا يوجد "نظام" أو عصابة كما هو موجود في سوريا. فتشوا فيما وراء الخراب الذي ضرب المنطقة، ابحثوا عن المستفيد وقناصي الفرص للخروج من الأزمات، وستجدون أنّ هذا النظام لا يتوانى عن بيع وإبادة البلد بأكمله مقابل بقائه في السلطة.
قائد المؤامرات
لقد وصل حافظ الأسد للسلطة عن طريق انقلاب عسكري، طريقه إلى الحكم كان معبّداً بالانقلابات والصراعات 8 آذار 1963 1966و 1970" و1984صراعه مع رفعت وكنس البنك االمركزي، وبعدها أطبق على السلطة وارتكب المجازر في حماة وعمل بعد سيطرته على الجيش والحزب إلى السيطرة على المجتمع السوري، وثم عمل على اختراق المجتمع السوري من خلال تكوين شبكة من العلاقات النفعية، واستغلال تشابك العلاقات المجتمعية وتناحرها أو اختراقها، الأمر الذي سهّل له ضمان عدم وجود حراك مجتمعي معاد للسلطة.
تقول كارولين دوناتي في كتابها (الاستثناء السوري) عن تشابك البنية الطائفية مع العائلية في نظام حافظ الأسد: "كثيراً ما قال الأسد باحتمال حدوث حمام دم جديد في معركة الطوائف إذا تخلى عن السلطة. وبذلك ربط إنقاذ الطائفة (العلوية) بمصيره الشخصي، وأكّد للعلويين أنّ دعمهم للأسد هو حماية لهم بصفتهم أقلية. فكان يقول: "أنت مع الأسد، أنت مع نفسك" وهنا نرى مثيل لهذا الشعار 2011 "الأسد أو نحرق البلد "الأسد أو لا أحد ".
خراب ممنهج
في الذكرى السنوية 12 لثورة السوريين، ليس من قبيل المبالغة القول؛ إنّ التدمير والمحق والخراب الذي أصاب سوريا في حكم الأسدين فاق الخيال والوصف، الحديث ليس إنشائياً، الأرقام والوقائع تتحدث عن غياب الدولة، وتوسّع الميليشيا أو تحالف العصابة. كلّ هذا يؤشّر إلى حالة الخراب العام وكيف باتت البلاد التي كانت تفاخر بتقدّمها على كافة الصعد، قبل أن يبدأ التدمير الممنهج عام 1963.
يضيف ميشيل سورا، أنّ حافظ الأسد أقام شبكة معقّدة من العلاقات القائمة على المصلحة والنفعية، إذ أجاد سياسة اللعب على التوازنات، وأوتار التناقضات والمصالح خاصّة الإقليمية منها، وهو ما أورثه إلى بشار إضافة طبعاً إلى سلطة النظام، لكنّ الابن لم يحسن الإفادة منها أو يكون ابن أبيه. ويردف سورا أنّ الأسد الأب استغل تباينات المجتمع واختلافاته بمهارة مذهلة، ولعب على جميع الثنائيات في وقت واحد من دون أن يمنح أيّ طرف السيطرة إطلاقاً على الآخر أبداً، كما لم يكن مهتمّاً بتأسيس نظام حكم، من هنا تأتي صعوبة اقتلاعه من قبل معارضيه.
وبقدر ما استطاع حافظ الأسد الحفاظ على هذه الشبكة، وعاش على علاقات المصالح وتسخير حضوره الخارجي والعربي لإطالة أمد حكمه، لم يستطع بشار الإبقاء على هذه العلاقات وتحوّل إلى تابع وبان ضعفه في 2005 عندما خرج ذليلاً من لبنان، ليعمل بعدها على استغلال علاقاته مع قطر الشيخ حمد وتركيا أردوغان لإعادة تأهيله، لتأتي ثورات الربيع العربي والثورة السورية وتزيد من تبعيّة سوريا لإيران..
شمّاعة القضية
مع احتلال لبنان من أجل ترسيخ حكمه، عمل الأسد الأب على تأمين علاقاته مع محيطه العربي، لم ينجح كثيراً مع الأردن واصطدم في العراق ونشأت قطيعة. كان يتخذ من القضية الفلسطينية طوق نجاة أو وسيلة للبقاء والابتزاز معاً، ولم يكن أسهل من السيطرة على الخاصرة الرخوة أي لبنان، حيث ساد وتمدّد وبدعم عربي، لذلك عمل باطمئنان على نقل تجربته المافيوية، كما عمل على اختراق المكوّنات اللبنانية وشقّ صفوفها، وارتكب المجازر والاغتيالات.
لقد أحسن الأسد الأب استغلال الفترة ما بعد 1990، فعندما أسّس جورج بوش الأب تحالفه ضدّ صدام حسين لتحرير الكويت حرص على المشاركة العربية وانضمت سوريا. كان المقابل غير المعلن وغير المكتوب هو أنّ حافظ الأسد سيحصل على السيطرة الكاملة على لبنان، بعد 15 عاماً من حرب أهلية دامية كانت سوريا طرفاً فيها أيضاً، كان الأسد في اللحظات الحاسمة يُظهر درجة عالية من البراغماتية والمرونة في تكييف سياسته مع الوضع الدولي، لكنّ بشار لم يكن كذلك في عام 2003 عندما وقف ضدّ الهجوم الأميركي على العراق، على الرغم من أنه كان قد جعل من سوريا في وقت سابق شريكاّ لأميركا في الحرب ضدّ الارهاب، وسمح باستقبال بعض الذين أحضرتهم أميركا من بلدان أخرى، ليجري التحقيق معهم في سوريا، على أساس كونهم إرهابيين.
لقد لعب الأسد الأب على التناقضات لإطاله أمد حكمه وتحريك الأوراق في الإقليم، وأُطلقت يده عشر سنوات في لبنان عمل خلالها على إضعاف القوى اللبنانية وإدارة الصراع بينها، وانتهت بسيطرة حزب الله بسبب تنامي النفوذ الإيراني وضعف التأثير السوري مع بشار.
دعم أمريكي للوريث
لقد شكلت وفاة الأسد الأب صدمة قوية في الداخل، نظراً لأنّ جميع الخيوط كانت بيده وتُدار بشكل غامض، وجاء استلام بشار 34 عاماً في حينه ليضيف بعداً آخر للأزمة، ومعروف أنّ بشار استلم السلطة بدعم أمريكي، عقب لقائه الخاص مع وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في 13 حزيران2000، حيث قالت حينها: "لمست بوادر مشجّعة جداً إزاء رغبته في اتباع نهج والده، الذي اتخذ قراراً "استراتيجيا لصالح السلم" في الشرق الأوسط، مضيفة: "يبدو أن بشار يتمتع بعزم كبير ومستعد لإتمام واجبه." ولما كان الابن ضعيف سياسياً، فقد اعتمد على الأجهزة الأمنية، وشهدت تلك الفترة تغُّول هذه الأجهزة التي شرعت في التصدي لحراك لجان إحياء المجتمع المدني مع بداية عهد بشار، ثمّ إعلان دمشق في 2005 الذي ضمّ أهم قوى المعارضة.
تكشّف الحقائق بقيام الثورة السورية تكشّفت الكثير من الحقائق..
وتأكدت مقولة فرخ البط عوام، فقد برّ بشار أباه في الحسابات الطائفية وفي القتل والتعذيب الممنهج، واستراتيجية الاغتيالات السياسة للشخصيات الفاعلة في المنطقة. وإن لم يبلغ مرتبة والده في التخطيط المؤامراتي الاستراتيجي، وفن التكتيك الدبلوماسي، واللعب على الحبال.. فشتّان ما بين الاثنين من ناحية الدهاء والمكر والتصرف الدقيق إلّا أن الثوابت قد بقيت على حالها في القمع والقتل وارتكاب المجازر، وباتت مجازر حماه على فظاعتها صغيرة أمام ما حصل بعد 2011 على صعيد العلاقات الخارجية لم يستطع الأسد الابن أن يكون فاعلاً ضمن الساحة الإقليمية وإنّما أصبح تابعاً.
نظام وظيفي
طيلة ١٢ عاماً صمد نظام الأسد الابن و كان يتخطّى الأزمات تلك، وما زال مستمراً ولعلّ السر يعود، بصورة أساسية، إلى سياسته الخارجية القائمة على استثمار الوقائع وعلاقاته مع الحلفاء (ايران وروسيا ) في سبيل بقاء النظام وتحصينه وتجنّب الضغوط الخارجية. وترتكز سياسية النظام الخارجية على استراتيجية الموازنة بين المصالح المتناقضة للدول، ليتحوّل بفضلها إلى نظام وظيفي يعبّر الإقليم والعالم، ويعبّر عن نفسه بالخدمات التي يقّدمها لهذا كان بصورة ما أخطبوطي، سياسته الخارجية مافيوية وله أيد ومنظمات وجماعات تتبعه أو تناصره في دول الإقليم كلها. لقد اعتمد هذا النظام البراغماتية والدور الوظيفي وتنقلت سياسته بين "الممانعة" والبراغماتية، غير المستندة إلى مبادئ راسخة تتعلق بالمصالح الوطنية، بمعنى كان محرّك سياسة النظام الخارجية خدمة النظام وتحصينه وتأمين مصالحه. وحققت هذه الآلية في الداخل شكل من أشكال الاستقرار، لكنه استقرار سلبي يرتكز على الحفاظ على ركود الحياة السياسية والاقتصادية، استقرار غير منتج للتقدّم في أي مستوى.
استغلال أي كارثة
اعتاد النظام السوري في محطات عديدة مع اشتداد الضغوط الخارجية عليه اللجوء إلى سياسة الانتظار وكسب الوقت إلى أن تتغيّر أحوال الضاغطين عليه، خاصّة في الولايات المتحدة وأوروبا، بحكم أنّ الانتخابات الدورية في هذه البلدان ستأتي كلّ مدّة بأشخاص آخرين وطواقم عمل مختلفة، ما يعني أنّ الحكومات الجديدة سوف تحتاج إلى بعض الوقت لترتيب نفسها وستحِدّد بالضرورة أولويات مختلفة وجدول أعمال، كما يمكن أن تتغير سياساتها تجاهه على الرغم من عدم تغييره سياساته، وقد نجا النظام السوري بفعل سياسة الانتظار هذه من أزمات عديدة. فبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، كان النظام محاصر وتحت ضغط، لكنّ الحال تغيَّر بعد مدة من دون أن يُضطر إلى تغيير سياسة النظام السوري يحاول استغلال أي كارثة أو ظرف إقليمي، من أجل إعادة علاقاته مع دول عربية وأخرى إقليمية. يعيش حالة انتصار لكنّه يقدم كلّ التنازلات من أجل تحقيق هذه المكاسب التي يمكن من خلالها التطبيع مع بعض الدول.
صعود إلى أسفل
يبدو أنّ النظام السوري قد وجد من مأساة الزلزال الذي ضرب سوريا طريقاً لاستغلال الأزمة في محاولة للتطبيع مع الدول التي قاطعته عقب الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين إبان الثورة عام 2011. لم تمضِ ساعات قليلة على الزلزال المدمّر حتّى سارعت بعض الدول العربية إلى استغلال المحنة لمدّ جسور التواصل مع نظام الأسد، الذي تلقّف كارثة الزلزال وعمل على استغلالها وتوظيفها لصالحه من أجل إعادة العلاقات.
كما رأى النظام بهذه الكارثة فرصة لمنجز سياسي يتمثّل بإعادة تكرير نفسها؛ وكأن شيئاً لم يكن. ليس هذا حسب، فقد أفسحت كارثة الزلزال المجال لمنظومة الاستبداد الأسدي أن تستعيد أنفاسها، في وقت كانت تعيش فيه أسوأ لحظاتها جراء الأوضاع الاقتصادية المتردية. قبل الزلزال بدت قبضة الأسد على الأراضي الواقعة تحت سيطرته ضعيفة، مع انهيار الاقتصاد، وانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة متكررة، ومضاعفة إيران سعر إمداداتها النفطية إلى سوريا والمطالبة بالدفع المسبق.
الآن، يبدو أنّ الأسد مستعد للاستفادة بشكل مباشر من المساعدات الدولية الموجّهة إلى السوريين للسيطرة عليها من قبل قوات النظام، وتحويلها إلى مخازن ومستودعات لتباع فيما بعد ضمن الأسواق المحلية. لقد عمد رأس النظام السوري لتحقيق مكاسب سياسية من كارثة الزلزال، وفي الخصوص نشرت صحيفة فايننشال تايمز مقالاً حول زلزال تركيا وسوريا ومحاولات بشار الأسد استغلال الدمار للعودة إلى المجتمع الدولي مرة أخرى، وقالت الصحيفة إنّ الأسد يقدّم نفسه الآن كحل للمشاكل الشريرة التي أوجدها، وهو يمثل ذلك الديكتاتور الذي يستخدم زلزالاً مميتا لإعادة تأهيل نفسه مع المجتمع الدولي أثناء التقاط الصور في منطقة منكوبة مع زوجته.
ويشبه الأمر جولة الانتصار التي قام بها الأسد في حلب الصيف الماضي مع عائلته، كما لو كان في رحلة يومية ثقافية، على الرغم من قيام قواته بإلقاء البراميل المتفجرة على تلك المنطقة لسنوات. وأشار المقال إلى أنّ الأسد، المنبوذ طوال العقد الماضي، لديه سبب الآن للشعور بالثقة مرة أخر، فقد تلقى اتصالات تعزية (في ضحايا الزلزال) من حلفائه، وكذلك من أولئك الذين نبذوه.
لم يتغير
رغم أن "الضحكات والابتسامات" لم تفارق إطلالاته كافة على مدى 11 عاماً من الحرب في سوريا، لاسيما في الخطاب الأول له عقب اندلاع الاحتجاجات، فإنّه لم يكن متخيلاً أن تكون حاضرة على ملامحه بينما كان الوقت ينفد أمام منكوبي الزلزال، وعلى الرغم من أنّ ما أغضب الدول التي قاطعت نظام الأسد كان بسبب الجرائم التي ارتكبها بحق مئات الآلاف من السوريين، فإنّ ذلك الأمر لم يتغير، فقد زار الأسد مدينة حلب المنكوبة في الأصل بفعل البراميل المتفجّرة والقصف بالطائرات، وتجول في محيط المناطق التي أصابتها الكارثة ووزع الابتسامات وكأنه سعيد بالفعل بالزلزال. حيث كسب الكثير من وراء الكارثة.