المنظور الحقيقي للدين في العلمانية (3)
7-رد على الضد-دينيين:
يعتمد الضد-دينيون عند هجومهم على الدين على ثلاثة أمور هي: الشكل البدئي من الدين، والتاريخ الديني، والواقع الحاضر.
الشكل البدئي من الدين يعتبره الضد-ينيون الشكل الأصلي من الدين وهم يعودون إليه ليثبتوا أنّ الدين ككل هو ظاهرة سيئة بطبيعتها، وهم عادة ما يتصرفون بشكل انتقائي، فيركّزون على السيئات الموجودة في الدين، ويغفلون أو ينكرون حسناته، ولا يعترفون له بأيّ دور إيجابي في التاريخ، من ذلك مثلاً أنّهم عندما يتحدثون عن الإسلام، فالشكل الأصلي من الإسلام بنظرهم هو الشكل الذي يُتيح غزو المختلفين بذريعة الكفر، وسبي نسائهم وأطفالهم والاستيلاء على مملكاتهم، أو فرض الجزية عليهم، ويسمح أيضاً بالعبودية والاسترقاق ونظام الجواري، وهو الشكل الذي يعتبر المرأة عورة ناقصة العقل والدين، ويقتل من يخرج عن المذهب السائد بتهمة الزندقة ومن يغير دينه بتهمة الارتداد، وهو الشكل الذي يرجم من يمارس الجنس بشكل يختلف عن الشرعية الدينية، ويجلد شارب الخمر ويقطع يد السارق.
وإذا تحدّثوا عن المسيحية فالشكل الأصلي للمسيحية هو أيضاً الشكل الذي يسمح بالعبودية، ويحرق ذا المذهب المختلف والفيلسوف والعالم بتهمة الهرطقة، ويجلد المرضى بالسياط لإخراج الشياطين التي تقتحم أجسادهم وتسبب لهم المرض، وهكذا دواليك...
ولتعزيز موقفهم هذا يعتمدون على معطيات التاريخ وما فيها من صراعات دينية ومذهبية، وتحالف بين السلطة الدينية والسلطة الحاكمة لتحقيق وضمان الهيمنة على الشعب، وتكريس للذكورية وهدر لحقوق وقيمة المرأة، ونشر للذهنية الغيية والخرافات التي تتناقض مع العقل والعلم ومحاربة للمعرفة العلمية والعقلانية، واضطهاد للعلماء والمفكرين والمختلفين عقائدياً.
ويؤكّدون ذلك اعتماداً على الواقع الراهن في المجتمعات التقليدية، التي ماتزال تستمر فيها إلى حدّ كبير أكثرية تلك الأمور، ولا سيما في مجتمعاتنا العربية التي ما يزال يتفشى التعصب الديني والطائفية والغيبية والذكورية والانقسامات، وتندلع فيها الصراعات الطائفية العنيفة أو أعمال العنف التكفيري والإرهاب، وهذا كلّه بنظر الضد-دينيين يتحمّل وزره الدين.
وهكذا يمكن إجمال خصائص صورة الضد-دينيين للدين بما يلي:
- اللاتاريخية، وهي تعني عدم النظر إلى الدين كظاهرة طبيعية محتّمة الظهور في اللحظة التاريخية التي تتوفّر فيها الظروف الواقعية اللازمة والمناسبة، والنظر إلى الدين وكأنّه بدع اتفاقية شريرة ظهرت في التاريخ البشري بشكل طارئ، وكان من الممكن بنفس القدر ألّا تظهر.
- السرمدية، أو الانفصال عن الواقع والحاضر، فالدين بنظرهم هو دوماً ما كان عليه في نموذجه البدئي وهم لا يرون التغيرات الكبيرة التي تطرأ على نموذج الدين عبر تغير وتطور المجتمع، وإن حدثتهم عندها يقولون لك أنّها حدثت ليس بفضل تغير وتطور الذهن الديني، ولكن لأنّ التطور اللاديني في المجتمع فرض قسراً هذه التغيرات على الوسط الديني رغماً عنه وحسب.
- الانفصالية، وهي تعني انفصال الدين عن بقيّة مكونات الواقع، فالضد-دينيون لا يرون العلاقة الوطيدة بين الجانب الديني وبقية جوانب المجتمع، ولا يدركون التأثير المتبادل بينها وبين الدين في الإيجاب والسلب، الذي يعني تردّي الدين عندما تتردّى جوانب المجتمع الأخرى، وتحسنه عندما تتحسن، كما ويعني بالمقابل أنّ الدين بدوره يؤثّر في تلك الجوانب أيضاً إيجاباً أو سلباً بشكل مباشر أو غير مباشر.
- تحيّز النظرة، وهذا يعني تجاهل حسنات الدين وإنكار أنّ له دوراً إيجابياً في التاريخ، والتركيز فقط على سلبياته، وبشكل يفصلها عن مؤثّرات الواقع الصادرة عن المكوّنات الأخرى الفاعلة في هذا الواقع.
- التوزير بوزر الغير، حيث يعتبر الكثير من هؤلاء اللادينيين أنّ سبب تخلّف وتردي مجتمعاتنا بشكل رئيس هو في تضخّم دور الدين حجماً وتردّيه نوعاً، وأنّه لكي تتطور مجتمعاتنا فلا بدّ من تقليص دور الدين إلى الحدّ الأدنى، وقصره على العبادة وحصره في المعابد حصريّاً، وهم بذلك يتجاهلون الأدوار الفاعلة الكبيرة لكل من الديكتاتوتوريات السلطوية الحاكمة، والأعراف والتقاليد الاجتماعية والثقافية الأخرى غير الدينية (العشائرية والعرقية وسواها...)، والأنماط الاقتصادية المتخلّفة، والتدخّلات الأجنبية الخطيرة المستمرة، وهذا كلّه يلعب أدوراً جدّ جوهرية وخطيرة في تكريس وإعادة إنتاج حالة التخلّف والاستنقاع الحضاري التي ما نزال بشكل عام نتخبط فيها في منطقتنا العربية.
هذه النظرة الضد-دينية للدين، هي جدّ بعيدة عن النظرة العلمانية إليه، فالعلمانية كما سلف الذكر، تنظر إلى الدين أينما ومتـَما وكيفما وُجد كعنصر اجتماعي واقعي، ينتمي إلى واقعه انتماء الجزء إلى الكل، ويؤثّر ويتأثّر بشكل فاعل ببقية أجزاء هذا الواقع، ولذا ليس هناك في العلمانية نموذج أصلي ثابت في الدين، ولا هناك دين منفصل عن بقية مكوّنات الواقع، والدين هو ما هو عليه في كلّ لحظة اجتماعية، وهذه هي أصالته اللحظية كمنتج نهائي بصرف النظر عن الكيفية التي وصل فيها إلى هذا الشكل، وبالتالي فعندما يتحول النموذج الديني إلى نموذج متطرّف عنيف، فهذا لا يعني أنّ ذلك حدث لأنّ هذا الدين هو بطبيعته البدئية متطرّف وعنيف، بل لأنّه في هذه اللحظة وبنتيجة كلّ العوامل والظروف والأوضاع المتعدّدة المختلفة القائمة فيها قد دُفع إلى هذا الشكل المتطرّف العنيف، وكان ليكون مختلفاً في ظروف مختلفة أخرى،
ومن تاريخنا السوري يمكن أن نضرب مثلاً بفترة الخمسينيات التي شهدت تجربة ديمقراطية سوريّة تستحق التقدير الكبير، ففي تلك الأوضاع التي كان المجتمع يمرّ فيها بحالة مدّ نهضوي ونهوض وطني، لم يكن هناك أيّ مجال لنمو حركات متعصّبة متطرّفة تكفيرية، وسوريا يومها حكمها الليبراليون، وأولئك الليبراليون لم يكونوا ملحدين ولا لادينيين، ولكنهم كانوا مسلمين، "مسلمين ليبراليين"، وبنفس الوقت "ليبراليين محافظين"، وهذا ما كان في حينه نموذجاً راقياً من نماذج الواقع الإسلامي، فالمجتمع السوري يومها لم يكن قد فقد إسلاميّته.
ومن النماذج الأخرى التي يمكن ضربها مثالاً على هذا النوع من التطور الاجتماعي الذي يصنع تطوراً مماثلاً في الوضع الديني "هند المؤتمر الوطني" أو "هند غاندي ونهرو"؛ ولكن لا يمكن إنكار أنّ التجربة الديمقراطية السورية فشلت، والتجربة العلمانية الهندية انتكست، وهذا لم يحصل بفعل التديّن حصريّاً، بل بنتيجة كلّ العوامل الفاعلة والمؤثّرة في المجتمع، التي دفعت المجتمع ليتغيّر في هذا المنحى التقهقري.
وإضافة إلى ما تقدم، فالعلمانية قطعاً لا تبخس الدين حقّه، ولا تُنكر حسناته، وهي بنظرتها الواقعية التاريخية إليه، ترى أنّه منذ لحظة نشوئه هو قد نشأ بحكم الضرورة والمناسبة، ولو كان بلا حسنات لاستحال بقاؤه واستمراره، ولكن بنفس الوقت لا تعطي العلمانية لهذه الحسنات صفة مطلقة، بل تنظر إليها أيضاً نظرة واقعية وضعية نسبية، وهذا يعني أنّ حسنة في واقع ما وظرف ما قد لا تعود حسنة في سواهما، بل وقد تتحول إلى سيئة في واقع وظرف آخر.
وعدا عن ذلك فالعلمانية لا تحمّل الدين وزر سواه، وهي وإن كانت تؤكّد على جسامة دور وتأثير الواقع الديني المتردّي في إنتاج أزمة المجتمعات، إلّا أنّها قطعاً لا تربط هذه الأزمة حصراً بالدين، بل -وكما سلف التنويه- تؤكّد وتركّز بشكل مكثّف أيضاً على أدوار بقيّة المكوّنات كالسلطة الحاكمة وطبيعة ووضع الاقتصاد والعوامل الديموغرافية والتأثيرات الخارجية، وسواها؛ وفي اللحظة العربية الراهنة، التي نجد فيها بشكل عام أوضاعاً شديدة التأزّم على الساحة العربية، وإن اختلفت تفاصيلها كثيراً بين بلد وآخر، فالعلمانية لا تربط هذه الأزمة بالدين، بل ولا تحمّله حتى المسؤولية الأكبر فيها، وهي ترى أنّ المسؤولية الأكبر تتحمّلها أنظمة الاستبداد العربية الحاكمة والتدخّلات الأجنبية المغرضة.
اقرأ أيضاً:
8- خطر الدعاية الضد-دينيية:
كلّ إنسان يحبّ ما يخصه ويدافع عنه، وبالأخصّ عندما يكون هذا عقيدة إيمانية مقدسة، وعندما تتعرّض هذه العقيدة للهجوم من قبل جهة ما، فمن الطبيعي تماماً أن يعتبر أصحاب هذه العقيدة المهاجم معتدياً، وأن يستنفروا للدفاع عن عقيدتهم ضدّه، وهذا ما يدفعهم للتشبث بهذه العقيدة وللالتفاف على أنفسهم أكثر فأكثر، وفي المحصّلة، في هذه الحالة التي يصبحون فيها في حالة مواجهة، يغدون أكثر انغلاقاً ومحافظة واستنفاراً، وأقلّ استعداداً للتغيير والإصلاح، وأقلّ تقبلاً للمختلف وقابلية للتعاون معه، وأكثر تقبلاً للأفكار الدينية المتشددة والمتزمّتة، وأكثر استعداداً لقبول التطرّف الديني والقيام بالعنف الديني؛ وعندما تكون هذه العقيدة التي تتعرّض للمهاجمة كثيرة الأنصار، أو أكثرية في مجتمعها، فمهاجمتها كعقيدة تولّد لديها ردّة فعل سلبية قوية، تكون في المحصّلة أحد الأسباب المهمة لزيادة التوتر والانقسام والعصبية في المجتمع، ما يزيد بدوره من عرقلة وحدة وتطوّر هذا المجتمع، ويدفعه في المسار المعاكس.
وهذا ما تؤدّي إليه الدعاية الضد-دينية في مجتمعاتنا!
فالمسلمون يشكّلون الأغلبية الكبرى من سكّان المجتمعات العربية، وعندما يضاف إليهم المسيحيّون، فهذا ينتج أغلبية أكبر تضمّ معظم سكان هذه المجتمعات، ولا يبقى إلّا قلّة قليلة من اللادينيين.
وهكذا فعند مهاجمة وازدراء الضدّ-دينيين للأديان، وبالأخصّ للإسلام والمسلمين، فهجومهم هذا لا يؤدّي إلى أيّ شيء حسن، بل على العكس، وهو يزيد السوء سوءاً في حالة اجتماعية يتفشّى فيها التشدّد والتزمّت كالحالة العربية.
وفي المحصّلة، فهذا السلوك غير المسؤول من قبل الضد-دينيين، ينعكس بدرجة شديدة السلبية على العلمانية، وكذلك على تطوّر المجتمع.
فبالنسبة للعلمانية، وبما أنّ الأميّة المعرفية والثقافية هي حالة متفشية على الساحة العربية، وعادة ما يتمّ الخلط وعدم التمييز فيها بين العلمانية واللادينية والضد-دينية والإلحاد وسوى ذلك، هذا من ناحية، وبما أنّ الضد-دينيون هم أنفسهم يدرجون في عداد العلمانيين، من ناحية ثانية، فهذا الخطاب الضد-ديني سيبدو وكأنّه خطاب علماني تتبنّاه العلمانية، وبهذا الشكل ستتولّد قناعة أو تتأكد قناعة موجودة سابقاً لدى الأغلبية المؤمنة بأنّ العلمانية هي عدوة للدين، وبذلك ستتبنى هذه الأغلبية المتدينة موقفاً عدائيّاً من العلمانية، وتتشبث بالشكل السائد المأزوم من الدين الذي يحتاج بدوره إلى إصلاح جذري، وبذلك يكون هذا الخطاب الضد-ديني قد ساهم في إبعاد الجمهور المتديّن عن العلمانية، بل ووضعها في مواجهته، وساهم في التشبّث بالشكل المتردي السائد من الدين، وفي زيادة حدّة حالة الانقسام والتخندق والانغلاق، وهذا كلّه لا يخدم قطعاً قضية تطوّر المجتمع بل يفعل العكس تماماً.
9-خاتمة:
بناء على ما تقدّم، يمكن القول أنّ العلمانية هي منهجية إنسانية عقلانية واقعية للتعامل مع الواقع وتوجيه حياة الإنسان وبناء الدولة وتنظيم المجتمع، وهذا ما تعرّف نفسها به بشكل مستقل عن الدين والعلاقة القائمة بينه وبين الدولة؛ وهي بما هي كذلك تشكّل منهجية منفصلة عن كلّ المنظومات التي تحدّد نفسها بشكل أو بآخر من خلال علاقتها مع أو موقفها من الدين مثل اللادينية والضد-دينية والإلحاد وسواها؛ ومن منهجية العلمانية الإنسانية العقلانية الواقعية يشتقّ مبدأ "فصل الدين عن الدولة"، الذي يعتبر في العلمانية نتيجة منطقية تترتّب حكماً على تلك المنهجية، الذي يترتّب عليها حكماً أيضاً ألّا تضع العلمانية نفسها بتاتاً في موضع النقيض أو البديل الإيديولوجي للدين، وألّا ترفض قطعاً وجوده في المجتمع.
وفي علاقتها مع الدين، تعتبر العلمانية، كما سلف القول، كلّ الأديان نتاجات بشرية، يُنتجها البشر في الظروف المعيشية والمعرفية الواقعية المناسبة، التي لا يكون العقل البشري فيها قد تطوّر بما يكفي ليفسّر ويفهم العالم بشكل عقلاني علمي ويتعامل معه على هذا الأساس، وهذا معناه أنّ الفكر العلماني يعتبر الأديان ككلّ نتاجات "غير عقلانية الأساس"، وهذا "تحديد طبيعة" وليس "حكم قيمة"، وبناء على ذلك ترى العلمانية أنّ الدين لا يصلح في العصر الحديث لبناء الدولة وإدارة المجتمع، حيث يتوفّر البديل العصري الأفضل المتمثّل بالعقل العقلاني المعرفي.
مع ذلك فالعلمانية التي تقوم على أُسس إنسانية وعقلانية وواقعية، وترى الدين دوماً حيث يوجد جزءاً عضوياً من كليّة الواقع الاجتماعي القائم، يترتّب عليها حُكماً جملة من المآلات، فواقعية العلمانية يترتّب عليها قبول الدين لأنّه عنصر واقعي من عناصر الواقع، وعقلانيّة العلمانية يترتّب عليها الاعتراف بأنّ الدين حيث يوجد فهو يوجد لأنّ أتباعه قلّوا أم كثروا يحتاجونه ويريدونه، وإنسانية العلمانية يترتّب عليها ألّا تفرض على الناس شيئاً لا يريدونه أو تمنعهم قسراً من شيء يريدونه، وفي المحصّلة تكون النتيجة المترتّبة على كلّ هذا هي اعتراف العلمانية بالدين كخيار إنساني، وقبول وجوده ونشاطه في المجتمع استجابةً وتوافقاً مع أُسس ومبادئ العلمانية نفسها بشكل عام، وبشكل خاص مع مقتضيات منظومة حقوق وحريات الإنسان، التي تعتبرها العلمانية ركناً رئيساً من أركانها.
وهكذا، وبناء على حقّ حرية الضمير، تفسح العلمانية المجال الأوسع للدين على المستوى الشخصي الذي يتّسع بدوره في النظام العلماني إلى أقصى الحدود الممكنة، ولكن حرية الضمير، وكلّ حرية أخرى في العلمانية، تبقى دوماً محكومة بأقصى درجات الحزم بألّا ينتج عنها أيّ ضرر وألّا تتعارض أو تتناقض مع المبادئ والقوانين العلمانية، أو تتناقض مع الحريات الأخرى، كحرية النقد مثلاً، فحرية التديّن التي تمنحها العلمانية لمواطني مجتمعها لا تعني قطعاً إعطاء الدين، أيّ دين، الحصانة، وحمايته من النقد، لأنّ هذا بدوره يتعارض مع حريّات الآخرين من ناحية، ويحرّم التقدّم المجتمعي من فوائد النقد العقلاني البنّاء من ناحية أخرى.
ومن المهم جداً تذكره في هذا السياق، هو أنّ حرية الفكر والاعتقاد التي تمنحها العلمانية للإنسان، وتساوي فيها بلا استثناء بين جميع المتديّنين وغير المتديّنين، تمنح للإنسان بصفته الإنسانية والمواطنية في النظام العلماني، ولذا لا يقبل النظام العلماني أيّة مطالبات بحقوق محدّدة خاصّة على أساس أيّ دين أو معتقد أو فكر خاص، فالنظام العلماني في قوانينه لا يتعامل قطعاً مع متديّنين أو متفلسفين أو متأدلجين، وهكذا دوليك، بل يتعامل مع كلّ أولئك، وكلّ من يشبهم في هوية أو انتماء أو صفة خاصّة، كأناس وكمواطنين، وبناء على ذلك يقرّ لهم جميعاً حقوقاً متساوية موحّدة، وفي عدادها يدخل حقّ الاعتقاد والفكر والنقد.
وخلاصة الكلام هي أنّ العلمانية في منظورها الخاص للدين تتعامل معه كعنصر من منتجات ومكوّنات الواقع البشري، وتقبله بهذه الصفة، ولكنّها تعيد هندسته بحيث تجعله قابلاً للتوافق مع المبادئ العقلانية والغايات الإنسانية التي تقوم عليها المنهجية العلمانية، وبحيث يغدو وجوده وفعاليته في المجتمع قابلين وقادرين على المساهمة في بناء عالم إنساني أفضل.
وبهذا الشكل نكون قد وضّحنا ماهية العلمانية وحقيقة موقفها من الدين، كي لا تختلط الأمور ويساء الفهم وتتخذ المواقف على أسس غير صحيحة، ويحدث الرفض والنزاع، في وقت يمكن أن يكون فيه ويجب أن يكون فيه الموجود والسائد هو الفهم الصحيح والقبول والاتفاق بين الأطراف المختلفة، في سوريا، وفي سواها من البلدان العربية، فهذا جدّ ضروري لإيجاد السبل الصحيّة والفعّالة لبناء المجتمعات والدول العصرية الحديثة في هذه البلدان.