info@suwar-magazine.org

اقتصاد الهامش في سوريا.. الهجرات المليونية تنعش أعمال الظل

اقتصاد الهامش في سوريا.. الهجرات المليونية تنعش أعمال الظل
Whatsapp
Facebook Share

 

في مكتب ترجمة وخدمات وسط دمشق، حيث تتجاور عشرات المكاتب المكتظة بالمراجعين وبالعاملين فيها بمختلف اختصاصاتهم، يجلس السيد عزام مالك المكتب ومديره على طاولة صغيرة ، حيث لا يمكن للمكان الضيق نسبيا أن يتسع سوى لطاولات صغيرة بسبب العدد الكبير من العاملين بين مترجمين ومنضدين وعمال طباعة وتصوير وحسابات وخدمات.

 

يقول السيد عزام: بسبب كثرة الوثائق التي تردنا للترجمة وتعدد اللغات لا يكفينا عدد المترجمين المداومين في المكتب، فنضطر للتعامل مع مترجمين خارج المكتب يعملون في منازلهم "أونلاين"، أو نرسل لهم الوثائق مع عاملين في المكتب ليعيدوها لاحقاً بعد ترجمتها، خصوصاً إنّ كثيرين من العاملين في الترجمة لا يحملون رخصة عمل، وبالتالي يضطرون للعمل مع مكاتب مرخصة مقابل نسبة من الأجر.

 

يضيف السيد عزام بأنهم يقدمون للزبائن الراغبين خدمات تصديق الوثائق لدى وزارتي العدل والخارجية مقابل كومسيون طبعاً، حيث يضطرون إلى تسييرها بالدفع (الرشوة) في غياب صاحب العلاقة مثلاً أو انشغاله بأعمال أخرى، وحتى تسيير أوراق الزبائن لدى السفارات المعنية في بيروت أو عمان أو إقليم كردستان ـ في ظل إغلاق معظم السفارات والقنصليات الغربية والخليجية  في دمشق ـ  ضمن المسموح به لدى هذه السفارات.

 

وعن موضوع إمكانية وجود خدمة تهريب من يرغب إلى تركيا أو أوربا سارع إلى النفي، وعلى وجهه علامات الخوف، لكنه أشار بعد ذلك همساً إلى أنهم لا يقومون بأعمال كهذه، لكن هناك مكاتب ترجمة ومكاتب طيران وسماسرة لديهم قنوات مع مهربين يقومون بتأمين صلة للراغبين مع هؤلاء مقابل كومسيون أيضاً.

 

ازدهرت في العاصمة دمشق وفي المدن السورية الأخرى، بل في المناطق والنواحي والقرى أيضاً، مهن جديدة على السوريين منذ أن بدأت الحرب تلتهم الأخضر واليابس، وامتلأت المعتقلات بالناس، ومات عشرات الألوف فيها، فجاءت موجات النزوح والهجرات الجماعية عبر كل الطرق المتاحة وغير المتاحة، براً وبحراً وجواً.

شبكات تهريب عابرة للقارات

 

المهنة الأولى التي برزت إلى السطح، وهي كانت موجودة قبل الحرب لكن في نطاق ضيق، هي مهنة التهريب، تهريب البشر، وقد اشتركت فيها شبكات تنتمي (أو تعمل مع) مختلف أطراف الصراع في مختلف المناطق السورية، ولكل شبكة امتداداتها وتحالفاتها الخارجية حتى مناطق الوصول للمهاجرين.

الكل استفاد منها سوى الضحايا الذين باعوا كل ما يملكون ليوصلوا واحداً على الأقل من العائلة ليقوم بلم الشمل لاحقاً إن أمكن، أو يساعد الباقون في مستنقع الخوف والجوع الذي اسمه سوريا.

 

الوصول إلى الحدود التركية مثلاً في بدايات الحرب لسكان الجنوب والوسط والساحل كان مغامرة غير مأمونة العواقب، إذ تتطلب مشاركة ميليشيات تابعة للنظام ثم ميليشيات المعارضة التابعة لتركيا في مناطق الشمال المحاذية للحدود التركية، مع ما يعرفه الجميع من وجود ميليشيات تكفيرية لا تتورع عن خطف أو قتل المنتمين إلى  الطوائف الأخرى، أو مجموعات تهريب تعمل في مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية التي تغض النظر عن نشاطها مقابل منافع مالية أو خدمات أمنية أو سياسية والله أعلم.

 

كل هذه القوى المتحاربة كانت تنسق جهودها ـ وما زالت ـ لتهريب ملايين السوريين إلى تركيا أو لبنان، للوصول لاحقا إلى ركوب "البلم" في رحلات الموت التي هزت العالم، ثم أصبحت حدثاً اعتيادياً لا يهز شعرة لدى أي مسؤول سوري أو أممي. يدفع السوري الهارب من بلده كل جنى العمر حتى يصل أو يغرق دونه، حيث تتراوح تكاليف التهريب بين (10000 ـ 15000) دولار.

 

الخيار الآخر هو الوصول تهريباً أو بشكل نظامي  إلى بيروت للسفر جواً إلى مطارات عدة، يتم فيها تزويدهم بوثائق مزورة من قبل عصابات التهريب الدولية توصلهم إلى المكان الذي يقصدونه في أوربا الغربية أساساً أو أستراليا أو كندا بدرجات أقل، أو تنكشف أمورهم  فيتعرضون للتوقيف والإعادة إلى حيث كانوا مع ما يعنيه ذلك من دخول أقبية الموت في دمشق، وهنا تكون التكاليف أكبر طبعاً حيث إن المخاطرة أقل بالنسبة لحياة المهاجر ولا يوجد احتمال غرق على الأقل، إنما الاحتمال الوحيد للفشل هو إعادته بعد رحلة توقيف متعددة المراحل.

 

هذه المهنة خطيرة ونتائجها وخيمة على الفاعلين والمفعول بهم أيضاً في حال انكشافهم، أو في حال اختلفوا مع قوى الأمر الواقع التي تسهل عملهم أو تشاركهم فيه.

لكن مع كل مخاطرها على المهربين و"الزبائن" بقيت تتوسع وتتمدد.

 

اقرأ أيضاً:

 

            الاستبداد والحرب.. كسورٌ مخيفة في الروح

 

خدمة تصديق وثائق السفر وتوصيلها

 

على هامش مهنة تهريب البشر، أو حتى حالات الهجرة الشرعية عبر عمليات لم الشمل أو الدراسة أو العمل . ..الخ، نَمَتْ أعمال متممة أو مساعدة لا يمكن الاستغناء عنها، مثل أعمال تأمين الأوراق المطلوبة للسفر أو تصديقها من السفارات والقنصليات وإعادتها، ويختص بها غالباً سائقو سيارات الأجرة بين دمشق وبيروت، أو بين دمشق عمان، إضافة إلى متعاملين معهم في العاصمتين اللتين تحملتا العبء الأكبر في مرور السوريين بهما في طريقهم إلى المهاجر والخلاص من مستنقع الخراب والفساد، كون السفارات الغربية أغلقت قي دمشق منذ بداية الثورة، ولم يبق أمام الراغبين بالهجرة سوى مراجعة سفارات وقنصليات البلدان المجاورة (لبنان، الأردن، تركيا، إقليم كردستان العراق)، ويحقق العاملون في هذه المهنة أيضا أرباحا خيالية، فمجرد أخذ جواز لـ"تفييزه" في السفارة يكلف صاحبها بين (70 ـ 100) دولار، وهو مبلغ كبير بالنسبة للسوريين في الداخل، إضافة إلى أن القائم به مسافر يوميا بطبيعة الحال إلى البلد الذي تتواجد فيه السفارة (عمان أو بيروت غالباً)، وقس على ذلك جميع الخدمات التي يتم تقديمها عبر هذه القنوات غير المرخصة طبعا مثل معظم الأعمال المتعلقة بالهجرة، حيث تأخذ السلطات السورية وضعية المزهرية تجاه ظاهرة الهجرة وآثارها وحلولها، بل تستغلها مثل أي شبكة مهربين أو عصابات، وتزيد تكاليف إصدار جوازات السفر كل فترة (وصلت إلى أكثر من 4 ملايين ليرة مؤخرا للجواز الفوري أي ما يعادل 300 دولار تقريباً)، لتستفيد هي أيضاً مثل أي مهرب أو سمسار معاملات، لكن الفرق بين السلطة وتلك الشبكات إن الأولى تبتز المواطن رسمياً وتعلنه عبر وسائل إعلامها، وتستمر في تعقيد إجراءات الحصول على الجواز لجني المزيد من الأموال لها والرشاوي لكبار موظفيها، بينما تخفف شبكات الخدمات غير الرسمية أعباء السفر المتكرر على طالبي الهجرة كـ"بيزنس" مقابل مبالغ معلومة، دون التبجح بخدمة المواطن وبيعه شعارات مكررة وممجوجة عن قيمة المواطن وكرامته.

 

مكاتب ترجمة دون مترجمين

 

من المهن التي ازدهرت إلى درجات خيالية مهنة الترجمة عبر مكاتب الترجمة المحلفة لترجمة ملايين الوثائق يوميا للسوريين الذين اندفعوا لتأمين حياتهم بالهروب إلى أي بلد يمكنهم الوصول إليه، وقد مررنا على ذكر أحد هذه المكاتب في مطلع المقال، إذ لا يخلو حي أو شارع من شوارع المدن والبلدات من مكاتب ترجمة وبسبب الإقبال الهائل على ترجمة الأوراق والوثائق المطلوبة للسفر أو التقديم إلى السفارات والمنظمات الخاصة بالمهاجرين وضحايا الحروب.

 

وخلقت هذه الحالة الشاذة مشكلة كبيرة تمثلت في دخول الآلاف من غير المختصين في الترجمة أو غير المتمكنين من اللغة التي يترجمون إليها فيلجئون إلى ترجمة غوغل البائسة والمليئة بالأخطاء المضحكة، وأصبح من يملك رخصة ترجمان محلف يشغل معه جيش من المترجمين غير المرخصين وغير المؤهلين، ويضع ختمه على ترجماتهم دون النظر إلى الضرر الكبير الذي يتسبب به للزبون فيما إذا كانت الترجمة ركيكة أو غير دقيقة، بعدما يأخذ الوثائق إلى الجهة المعنية.

 

أعمال مكملة

 

هناك مهن هامشية أيضاً نمت على هامش الهجرات المليونية، مثل مهنة طباعة الصور والوثائق من الموبايل مثلاً،  فقد فوجئت منذ فترة في حي عشوائي بدمشق بوجود مكتبة صغيرة تقوم بسحب وطباعة الصور والوثائق الموجودة في موبايل الزبون، وتعمل على مدار الساعة رغم انقطاعات الكهرباء الطويلة، حيث يؤمن لوح طاقة شمسية أو مولدة بنزين صغيرة  تكفي لتشغيل الكومبيوتر والطابعات.

 

وهذا يعود بشكل أساسي إلى تعذر أو صعوبة الوصول إلى المحافظات البعيدة، والتي يخضع بعضها لسيطرة قوى الأمر الواقع، حيث يصبح "الوتس اب" ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى الطريقة الوحيدة المتاحة لإرسال الوثائق إلى العاصمة، أو الطريقة الأقل كلفة أحياناً ليتم تصديقها واستكمالها من قبل أقاربه أو بالاعتماد على سماسرة مرتبطين بأجهزة السلطة مقابل مبالغ مالية كبيرة.

 

في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية للناس،  وتغوّل الفساد في الدوائر الرسمية، وممارسته علنا من قبل الجميع حتى يستطيعوا الاستمرار في العيش مع رواتب لا تتجاوز 15 دولار شهرياً، وانتشار البطالة بنسب تجاوزت كل الحدود مع توقف الدورة الاقتصادية بسبب الحرب والفساد، ونهب ما بقي من معامل ومنشآت من قبل الشبيحة والميليشيات المتعددة، يضطر السوريون الباقون في الداخل إلى ابتداع وسائل جديدة ومتجددة للعيش بما يحقق لهم دخلا إضافيا يقيهم شبح الجوع الذي أصبح ظاهرة مكشوفة وبادية للعيان لدى كثير من العائلات السورية.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
آخر المقالات
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard