الزواج في المنظور العلماني
ما هو موقف العلمانية من الزواج، ومن الجنس عموماً؟
هذا سؤال هام، ليس فقط من الناحية المعرفية المجرّدة، بل وهذا هو الأهم، لأنّ العلمانية عندما تُطرح كحل أو كمشروع، فيجب أن تكون واضحة بما يكفي، لكي لا تلتبس الأمور، وتختلط الحقائق بالتصوّرات والأوهام والأكاذيب، وتُصبح عرضة للمغرضين ليشوّهوا صورتها، وخصوصاً في ميدان الجنس فائق الحرج والحساسية في المجتمعات المحافظة كمجتمعاتنا العربية، التي غالباً ما يشيع فيها خصوم العلمانية أنّها تهدم منظومة الأخلاق والفضيلة وتنشر الفساد والرذيلة وتقوّض بذلك أمن وسلامة المجتمع.
وفي مقالنا هذا سنسعى لتوضيح حقيقة موقف العلمانية من مسألتي الجنس والزواج، بشكل صريح ودون أيّة مواربة أو تمويه.
الزواج، في بعده الجنسي، هو في المنظور العلماني شكل وضعي لتنظيم العلاقة بين الجنسين، نشأ بحكم الضرورة في المجتمعات التقليدية، وجاء محكوماً بالعوامل التاريخية الواقعية، التي كانت تسود عادة في مثل هذه المجتمعات، وبالطبع فدور الزواج في المجتمعات التقليدية ليس محصوراً في تنظيم العلاقة بين الجنسين وحسب، وما لا يقلّ عن ذلك أهمية هو دوره كمنظّم للأُسرة التي تُعتبر الخلية الأُولى في الجسد الاجتماعي للمجتمع.
والغاية من هذا الشكل من العلاقة كان في أحد مهامه الرئيسة، كما سلفت الإشارة، تنظيم العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، وهذا أمر ذو أهمية قصوى دائماً، وفي كلّ المجتمعات القديمة والراهنة والمستقبلية، وهو جزء جوهري من التنظيم الكلّي للمجتمع، الذي لا يمكن للمجتمع بدونه أن يكون مجتمعاً، ولا لعالَم الإنسان أن يكون إنسانيّاً، ما يعني في المحصّلة أنّ شكل تنظيم العلاقة الجنسية هو في المحصّلة جزء ينتمي بشكل توافقي وجدلي إلى النظام الاجتماعي الكلّي القائم، وهو دوماً جزء جوهري من هذا النظام، ولا يمكنه بتاتاً أن يكون غير ذلك.
لكنّ العلمانية، القائمة على العقلانية الإنسانية، تعي جيداً أنّ الخير الإنساني الحقيقي يقتضي ألّا يكون ثمّة أيّ نظام اجتماعي له صفة القداسة والمطلقية والسرمدية، وأنّ الخير الإنساني يقتضي أن يكون التطور الإنساني دائماً ومستمراً، ما يقتضي بدوره أن تكون النظم الاجتماعية نفسها، وبكافة مجالاتها، متغيرة بشكل مستمر وبشكل يلبّي احتياجات التطور الإنساني.
وهذا يقودنا إلى القول بشكل جازم أنّه عندما يتغيّر النظام الاجتماعي القائم بشكل جوهري في المفاصل التاريخية الكبرى، في محصّلة التفاعل الجدلي المعقّد الحاصل بين جميع العوامل الموجودة والفاعلة في المجتمع، فهذا يؤدّي حكماً إلى تغيّرات مماثلة في المجالات أو النطاقات الجزئية الداخلة في منظومة هذا النظام الكلّي، وهذا ما ينطبق على الميدان الجنسي.
اقرأ أيضاً:
وهكذا، فعندما تعاد هندسة المجتمع على أسس علمانية، أي بناء نظام اجتماعي متكامل على أسس علمانية، فهذا يعني أنّ الميدان الجنسي بدوره ستعاد هندسته وبناؤه أيضا على نفس الأسس العلمانية، التي يبنى عليها النظام الكلي.
في هذه العملية سيعاد تنظيم الجنس على أسس حديثة مختلفة عن الأسس القديمة، وسينشأ بالتالي نظام جنسي جديد مختلف جوهرياً عن النظام الجنسي القديم.
في النظام القديم، أو التقليدي، على مستوى المنظومة الاجتماعية ككلّ، بما في ذلك المستوى الجنسي فيها، يتمّ التنظيم عادة على أُسس الدين والعرف، وهكذا ينشأ تقليد الزواج القائم بدوره على كلّ من هذين الدين والعرف، كشكل شائع من أشكال تنظيم العلاقة الجنسية في هذا النظام، ومع ذلك، فتقليد الزواج نفسه لم يكن التقليد الجنسي الوحيد المشروع في عموم هذه الأنظمة الاجتماعية التقليدية، فهذه الأنظمة التي لم تكن تمنع العبودية، وكانت تسمح بالسبي والاسترقاق، كانت تسمح للرجل بمعاشرة مملوكاته، وهذه العشرة الجنسية كانت مشروعة تماماً، وكان يطلق عليها في الإسلام تسمية "التسرّي"، وعدا ذلك مثلاً فقد عرف الإسلام أيضاً "زواج المتعة" الذي أُلغي في بعض المذاهب في وقت متقدّم من تاريخ الإسلام، فيما لا يزال مُعترفاً به في سواها حتّى اليوم، وإضافة إلى ذلك، فالإسلام يسمح بتعدّد الزوجات، ويسمح بالطلاق، ولكن هناك أديان أُخرى لا تسمح بتعدّد الزوجات، وبعضها لا يسمح حتّى بالطلاق، وبالمقابل هناك أديان وأعراف تسمح حتّى بتعدّد الأزواج، بل وكان هناك أيضاً تقاليد قديمة، وربما أقدم، كانت الممارسة الجنسية فيها غير مقنّنة أو محصورة بأيّ شكل من أشكال الزواج، حتّى أنّ الزواج في أزمنة أكثر قدماً لم يكن معروفاً بعد في أيّ شكل من أشكاله.
وكما نرى ففي كلّ نظام أو تقليد من هذه الأنظمة التقليدية المختلفة، هناك شكل شرعي لتنظيم جنسي مختلف عمّا في سواه من الأنظمة الأخرى، وبالطبع فكلّ من هذه الأنظمة لم يكن يعترف ولا يزال لا يعترف إلا بشرعيته الخاصة، وهو أصلاً لا يعترف بشرعية الأنظمة والأديان الأخرى بكليّتها، ومن الطبيعي عندها ألّا يعترف بها كأسس وكمرجعيات للشرعية، وأن ينفي بالتالي كلّ مشرّعاتها ومحلّلاتها، ويعتبرها بواطل وأضاليل.
وما يهمنا من هذا السرد هو أنّه يبين أنّه ليس هناك مرجعية عالمية متّفق عليها لتنظيم الجنس، وهذا الأمر كان أمراً اختلافيّاً في المجتمعات المختلفة في الزمان والمكان والشكل، ومن الطبيعي أن يمتدّ هذا الاختلاف إلى المجتمعات الحديثة، التي تصبح بحداثتها مختلفة جوهريّاً عن المجتمعات القديمة.
في النظام الاجتماعي الحديث، أو العلماني، يزاح كلّ من الدين والعرف عن أساس تنظيم المجتمع والدولة ويستبدلان بالعقل، من حيث المبدأ، وهذه الإزاحة تامّة، أي أنّها لا تستثني أيّ جانب أو ميدان من ميادين وجوانب الحياة في المجتمع الإنساني، وهكذا تُعاد هندسة وبناء المجتمع الإنساني ككلّ على أساس العقل، ولا يستثنى لا الجنس ولا الأخلاق ولا المعايير من ذلك.
وهكذا يُعاد في العلمانية تنظيم كلّ من الجنس والأخلاق ومعايير الشرعية على أساس العقل، ولا تعود المعايير والأخلاق والتشريعات التقليدية السابقة معترفاً بها كتشريعات أو معايير أو أخلاق.
وعندما يُصبح العقل هو القائد والحاكم والحكم، فماذا سيحدث؟
الذي سيحدث هو أنّ العقل، عندما يتصرّف كعقل حديث، أو كعقل عقلاني، وصفة عقلاني هنا ذات أهمية قصوى، فسيسمح لنفسه بأن يحلّ محلّ الدين والعرف، بل وسيصرّ على هذا الحَلول، لأنّه يرى وعلى أسس منطقية وعلمية أنّ كلّاً من الدين والعرف هما منتجان تقليديان بشريان من نتاجات العقل البشري ما قبل العقلاني، ولا يستثنى من ذلك أيّ دين أو عرف في العالم أو في التاريخ على الإطلاق، وهذا ما يُوجب استبدالهما بالعقلانية والعلم، لما في ذلك من ضرورة قصوى لتطوّر المجتمع الإنساني وتحقيق الصالح الإنساني.
وعندما يصبح هذا العقل في موقع السيادة والقرار في رئاسة المجتمع الإنساني، فهو سيجد كعقل عقلاني أنّ عليه أن يحصر ويركّز اهتمامه على الواقع الإنساني، وأن يستثني من ذلك كلّ الغيبيّات والماورائيات والميتافيزيقيات وما يشبهها، ما يعني أنّ غاية هذا العقل عندها ستكون هي الإنسان والسعي لتحقيق الخير الإنساني المتمثل ببناء العالم الإنساني الأفضل، كما سيجد أنّه ثمّة علاقة تلازمية بين العقلانية والإنسانية والحرية، وسيجد أيضاً حقيقة لا يمكن إنكارها ولا تجاهلها وهي أنّ العقول تختلف، وجميعها تخطئ وتصيب، وإن اختلفت في ذلك الدرجات والأسباب.
وهنا سيعترف العقل بكلّ من العقلانية والحرية والاختلاف، وبناء على ذلك سيعيد تنظيم العالم الإنساني بشكل يقوم على العقلانية ويتوافق مع الحرية ويقبل الاختلاف، وهذا ما سيفعله في ميدان الجنس كسواه من الميادين.
وفي ميدان الجنس، عندما يعيد العقل هندسته معتمداً على معاييره العقلانية الإنسانية، فسيرى أنّ أيّ علاقة بين شخصين راشدين في أيّ مجال من مجالات الحياة هي علاقة مقبولة إن كانت قائمة بإرادتهما ورضاهما، وبشكل لا ينجم عنه قطعاً أيّ شكل من أشكال الضرر ولا يتعارض مع القيم الإنسانية العقلانية، سواء كانت مطلقة أو نسبية، وعندما يطبّق العقل هذه القاعدة في الجنس، فسيجد أنّ الأساس في شرعية العلاقة الجنسية هي الإرادة الحرة الواعية في قيام هذه العلاقة بين الشريكين فيها، ضمن نفس الشروط السابقة، أي عدم التسبّب بأي أذى أيّا كان ولأي كان، وعدم التناقض مع القيم الإنسانية العقلانية.
وهكذا، وبما أنّ العقل العقلاني يعترف بخلافية العقول وبحق جميع المختلفين في حرية الاختيار، فسيجد عندها أن الإرادة الحرة الواعية عندما تقوم بخياراتها في الجنس أو سواه، فهي حكما ستقوم بخيارات مختلفة، وفي النتيجة سيعترف العقل العقلاني بالتعددية والتنوع والاختلاف في الجنس كما في سواه من ميادين الحياة الإنسانية الأخرى.
وفي المحصلة، سيقبل العقل العقلاني بأشكال مختلفة من السلوك الجنسي، كالعلاقة بدون زواج والزواج التقليدي والزواج الحديث والرهبنة وغيرها، وسيعتبرها كلها مشروعة من منطلق أنها خيارات لإرادات حرة واعية.
وبالطبع وكما سلف القول، حرية الإرادة هذه يجب أن تتوافق مع شرط عدم الضرر وشرط التوافق مع القيم العقلانية الإنسانية، وهي، أي حرية الإرادة هذه، عندما لا تفعل ذلك فهي فعليا تخل بشرط الوعي الضمني الذي يقتضيها أن تكون حرية إرادة واعية، ولذلك لن يقبل هذا العقل العقلاني بأي خيار مناقض لشرط الوعي المتلازم مع العقلانية الإنسانية والمتوافق مع قيمها ومعاييرها، وهو بالتالي سيرفض خيار تعدد الزوجات أو الأزواج لأنه يخل بالمساواة الإنسانية بين الجنسين، كما وسيرفض الزواج الذي لا طلاق فيه لأنه يخل بحرية الإنسان عندما لا يعود أحد الزوجين رائدا الاستمرارَ في الزواج، وسيرفض أيضا الخيانة الزوجية لأنها كما يوحي اسمها خيانة لعهد إنساني يقطعه الشريكان الزوجيان لبعضهما بعضا بحصرية العلاقة الجنسية بينهما، وخيانة العهد سلوك يتنافى مع الشرف الإنساني، كما وسيرفض أيضا البغاء لأنه مهين للكرامة الإنسانية، لأن يحول الشريك الجنسي والعلاقة الجنسية إلى سلع، وسيرفض كذاك زواج المتعة لأنه يُشَيئن ويسلعن المرأة، وهلم جرى...
وهكذا نصل في ختام حديثنا إلى خلاصة مفادها أن العلمانية في تعاملها مع الميدان الجنسي، تستبدل النظام الجنسي التقليدي القائم على الدين والعرف والمتمركز حول الزواج بشكل رئيس كشكل شرعي لهذه العلاقة، بنظام جديد يحلّ فيه العقل العقلاني محلّ الدين والعرف في تنظيم هذه العلاقة، ويضع في مركزها حرية الإرادة الواعية كمعيار لشرعية هذه العلاقة في إطار منظومة اجتماعية متكاملة، مبنية لتحقيق الخير الإنساني المتكامل، ولتحقيق وتطوير وحماية إنسانية الإنسان.
أما بالنسبة للزواج، فالعلمانية قطعاً لن تلغيه أو تمسّه بسوء، ولكنّها ستعيد تقنينه وفقاً للقوانين والمعايير العلمانية من ناحية، وستعتبره إحدى الخيارات المشروعة في إقامة الجنس من ناحية ثانية، أي باختصار هي ستقبل به، ولكنّها بنفس الوقت ستقبل أيضاً بسواه، في ميدان الخيارات الجنسية.
لكن دور الزواج في المجتمعات العلمانية، لا يقتصر على كونه خياراً جنسياً تقليدياً أو محافظاً لقسم من أهل هذه المجتمعات، فالزواج ما تزال له أهمية كبيرة في هذه المجتمعات كمؤسسة اجتماعية يتم بواسطتها إنشاء أسرة، وهذا هو الدور الأهم للزواج في هذه المجتمعات التي لم يعد فيها ترخيص وتحليل الممارسة الجنسية مرهوناً بالزواج، فأضحى دور الزواج أُسرّيا، وأصبح الزواج وسيلة لإنشاء وتكوين أسرة، وهذا يعني أنّ الزواج في هذه المجتمعات صار يعدّ ضرورة اجتماعية وحسب، ولا يتضمن وظيفة تشريعية جنسية كما هو الحال في المجتمعات المحافظة.
وبعد ما تقدّم من طرح، يبقى من المهم أن نقول، أن العلمانية هي منهجية تقوم على العقل الإنساني لتطوير العالم الإنساني على أساس هذا العقل، وعندما نقول أنها منهجية، فهذا يعني حُكماً عدم المماهاة الكاملة بينها وبين أي تجربة علمانية يسعى فيها لتطبيقها، لذلك يمكن القول أنّ ما هو قائم اليوم في الغرب من علمانية، هي تجارب أو محاولات لتطبيق العلمانية، وهي كأية تجارب إنسانية أخرى، تنجح في شيء وتفشل في سواه، وتخطئ في أمر وتصيب في آخر، والأدق القول أن ما يحدث في الغرب هو عملية علمنة مستمرة، يتمّ فيها بشكل متدرج التطور الاجتماعي أكثر فأكثر عبر المنهجية العلمانية نحو الغايات الإنسانية المتمثلة ببناء العالم الإنساني الأفضل.
وهكذا، يمكننا القول في خاتمة مقالنا هذا أنّ أي شخص محافظ ستكون محافظته محمية تماماً من قبل العلمانية نفسها، التي ستعترف له بهذه المحافظة وتعتبرها خياراً إنسانياً مقبولاً في حدود توافقها مع المعايير العلمانية، التي تقتضي من هذه المحافظة أن تعترف بدورها بحقّ غيرها في الوجود، وغيرها هنا يشمل المذاهب المختلفة قي كل ميادين الحياة، ومن بينها الجنس بالتأكيد، وهذه الحقيقة تؤكّدها الحياة المعاصرة في المجتمعات الغربية الحديثة، التي يعيش فيها اليوم الكثير من العرب والمسلمين ومسيحيي الشرق، ولا تفرض عليهم أساليب حياة غريبة عنهم أو تمنعهم من العيش وفق تقاليدهم في الحدود التي لا يتنافض فيها هذا مع أركان ومصالح هذه المجتمعات.
لكن معضلة جلّ المحافظين لدينا مع العلمانية، هي في تعصّبهم لمحافظتهم، الذي يصبح تعصباً مُفرطاً عندما يرتبط بالجنس، وبالتالي فالمشكلة ليست في خوفهم من العلمانية على محافظتهم الخاصة أو الفردية، بل في أنّهم لا يريدون أن يوجد سواهم في المجتمع، الذي يعتبرونه مجتمعهم، ويعتبرون أنفسهم أسياده ومالكيه.
وبالتالي فمشكلة العلمانية الرئيسة مع أمثال هؤلاء المتزمتين هي في جعلهم يفهمون أنّ المجتمع ليس ملكية لأحد ولا يحقّ لأحد سيادته، وهو مجتمع الجميع بنفس القدر من الانتماء والحرية.