سُباتٌ أم موت في قراءة أحوالنا
ما المعنى من إدراك الحال العربي، وكثرة القيل و القال حول تخلّفه وإنحطاطه، إذا لم يفضِ إلى تغيير، واكتفى فقط باللطميات.
على كثرة الدراسات والتحليلات وراء هذا التردّي و البؤس، إلّا أنّها تبقى عاقر عن إنتاج هوية جديدة تحفظ ماء الوجه. أو بأسوأ الأحوال هي عاجزة عن تقديم رؤية في فهم الحاضر بكل تشاباكاته.
تناول العديد من الباحثين ظاهرة صعود الأمم وأفولها بناء على مرجعيات مختلفة، منها الأخلاقي والإقتصادي ومنها من ارتكز على الميتافيزيق أو من أسندها لجملة قوانين فلسفية واجتماعية.
و بالنظر إلى الإمكانيّات و الطاقات التي تمتلكها المنطقة لن نجد مقال لهذا المقام، سوى أحقيّتنا بجدارة للمسميات التي ينعتنا بها الغرب، وصورة العربي الوضيع في وجدان العالم.
وقبل أن نرصد مآل الواقع و جوهر الحال، لا بدّ لنا من تشريح الجثمان السياسي، والهذيان الإجتماعي للواقع العربي.
تقصدّت توصيف الواقع السياسي بكلمة جثمان، للدلالة الواضحة التي يعلمها الصغير قبل الكبير، حول تبعية الحكومات منذ أمد طويل للقوى الإمبريالية العالمية، على إختلاف الأزياء التي ترتديها منظومتنا السياسية من حين لآخر، فحتّى لو ارتدت بعض دول الخليج العربي شكل الزي الأنيق، وما يوحي بشكل الدولة الحديثة ومظاهر الحضارة، لكنّنا لن نختلف على التبعية السياسية و الاقتصادية لعالم الغرب، بل نستطيع الذهاب لأبعد من ذلك في إرساءها لقوى الغرب وتثبيت عمادها من خلال عدة عوامل، كربط سعر النفط بالدولار كمثال صغير على ما بدأنا به حديثنا.
سلطة الجماعات وغياب مفهوم الدولة
لكي نتحدث بالسياسة علينا أن نقرأ خارطة العالم، ونعي تاريخه. لن نرجع كثيراً للوراء في رصد الواقع العربي، فمنذ انتهاء الاحتلال العثماني في العالم العربي، والذي تمّ بالتنسيق والمساعدة من الدول الإستعمارية، حتّى يومنا هذا لم تقم قائمة للعرب بالمعنى الحضاري وبمفهوم سيادة الدولة. حتّى بعد جلاء الدول الإستعمارية، بقيت الحدود الجغرافية التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو متجذّرة في جسد الوطن العربي، بل ترسّخت في وجدان المواطن العربي، بل أخذه الاعتزاز بإنتمائه أيضاً، وذلك بغالبيته يعود للحال الذي مرّت به المنطقة تحت وطأة الاستعمار والاستعباد، إضافة إلى تشوّه الهوية الثقافية بفعل الموروث الإيديولوجي الذي خلفّه إنهيار العصور الثلاثة لدولة الخلافة، وقيام دول ودويلات هنا وهناك على أسس مؤامراتية وصراعات قديمة تدور حول أحقيّة الملك وعداوة المذاهب.
إذن لم يكن لدى العرب مفهوم دولة بالمعنى الحقيقي، إنّما جماعات تصل إلى السلطة، وتحكم من خلال الإيديولوجيا التي تنتمي لها وغالباً ماتكون على ارتباط بقوى خارجية.
ونتيجة هذه التراكمات مع مرّ العصور، تشكّلت الهوية العربية بشكلها الحالي، الغارقة في الدونية والغيبيّات، مع إبقاء صورة الحاكم في إطار القداسة و المبعوث المخلّص. ولو تحدثنا عن المزاج العام للشعوب نجد أنّ الشأن العام منعدم في قائمة اهتماماته، وخلاصه الفردي فوق كلّ القيم. وهذا شأن كلّ المجتمعات المقهورة، فالاهتمام بالبُنى الفوقية و الشأن العام يصبح متاحاً للغالبية في ظلّ تأمين بعض الأمان لمتطلبات الحياة الأساسية ووجود هامش بسيط يسمح للفرد بتناول القضايا العامة.
أثبت مشروع الدولة القُطرية في مجتمعاتنا فشله، إذ من البديهي أن تقمع سلطة العسكر كلّ مظاهر الانفتاح الفكري و التنوّع الثقافي في المجتمعات، بل ويكون الجهل سياسة ممنهجة تفضي إلى استعباد الشعوب.
الثورة الفكرية و التوعية هي أساس التحرك الجماهيري الحقيقي وهي عماد التغيير الإجتماعي، فكيف يمكن الحديث عن استبدال أنظمة أو تغيير ديناميكي في المجتمعات دون وجود خطّة واضحة المعالم لشكل الحياة القادم.
أرادوا إسقاط الأنظمة ولم يتفقوا على شكل النظام الجديد.
أرادوا الحرية وليس لديهم تعريف جامع للمعنى و الشكل.
حملوا السلاح بدوافع عاطفية وانتقامية و حاقدة أحياناً، وليس ثمّة مرجعية سياسية متفق عليها.
وماذا بعد..
اقرأ أيضاً:
ها نحن نُورث الجيل الحالي والقادم كمّاً هائلاً من التشوّه والانحطاط. فهو سطحي مُهمّش ومثير للشفقة.
لتوصيف الواقع السياسي نحن لا نحتاج للكثير من الذكاء أو التحليل، فهما اتجاهان، واقع ارتضى العبودية و التبعية للامبريالية المهيمنة فحظي ببعض الاستقرار والانتعاش الاقتصادي، والاتجاه الثاني الغارق بالفقر والحروب والقهر، وهو بالضرورة كان يبني عزلةً وسدّاً مع المجتمعات ولا يأبه لشأنها، إضافة لحمقه السياسي وتبعيته للمعسكر العالمي في الطرف المقابل المناهض.
نحن إذ نتحدّث عن الواقع السياسي العربي، ففي حقيقة الأمر نتحدّث عن الثقل الحقيقي الذي يوجد في عواصمه الأربع ( دمشق، بغداد، القدس، القاهرة) هذه العواصم تحديداً شكّلت الهوية العربية، وكانت محرّكاً وسبباً ومركز الثقل عبر العصور السابقة.
هذه العواصم اليوم في أسوأ أحوالها وجميعها واقعة تحت الاحتلال، على اختلاف صوره بين الإيراني و الإسرائيلي و الأميركي و البريطاني ووو. يتحدّث حكامها بلسانٍ عربي وطني (مع استثناء القدس من هذه الصفة إذ يبدو شكل السلطة هو النسخة الأكثر تشوهاً لهذا الحال). وبالتالي كيف يمكننا الحديث عن مشروع للنهضة في الواقع العربي. ذاك السؤال كان دافعي للخوض في هذا المبحث.
غياب المشاريع والمؤسسات الفكرية
فالحديث عن ثورة فكرية تنويرية هو مشروع حالم ومراهق، فالمؤسسات التي من شأنها بثّ الأفكار التنويرية، و قرار المناهج الدراسية و الإعلامية هي في يد السلطات التي ستواجه هكذا مشاريع بالدم وقوّة السلاح، وقبل أن يخطر في بال أحد بالتوجه (للمنابر الحرة) السوشيال ميديا في تشكيل مؤسسات ونخب حقيقية لريادة الشأن العام، فالجواب جاهز لهكذا تساؤل سطحي، فهي أحد أدوات التجهيل وتعويم للتفاهة و الحمقى، تتحكّم بها مؤسسات عملاقة وإدارات كانت قد وضعت خططها مسبقاً قبل نشرها في يد المستخدم.
الثورة الفكرية والتنويرية هي حجر الأساس في أيّ حراك يقود المجتمعات للانتقال والتغيير، وأيّ حديث يناقض هذا الشأن فهو مجرد لغو، تتمتّع دول الخليج العربي بالعديد من المزايا التي تبدو في ظاهرها حضاري وحداثوي، ولكن هيهات لها أن تُنتج أيّ ثقافة خاصة أو منتجاً وطنياً سواءً كان على شكل أفراد نخبويين أو ابتكار ما يُنسب لها دون تدخّل المؤسسات الأجنبية في هذا الشأن، وهذا ما قصدتّه تحديداً في سياق التنوير والفكر السابق لأيّ حراك وتغيير نهضوي في المجتمعات.
المشروع النهضوي في ظلّ وجود احتلال هو ضرب من المستحيل، ولإزالة الاحتلال أيضاً نحتاج لتعبئة إيديولوجية يجتمع حولها الناس لإستئصال السرطان الذي يقف في وجه أي مشروع نهضوي.
تبقى إسرائيل في هذا السياق الإشكالية الأكبر، الدالة على جسد الوطن العربي بكل أمراضه وازدواجية معاييره، فتاريخ هذا الصراع يحمل عناوين كبيرة في رصد تغييرات الحال العربي.
التاريخ يسير وفق قوانين وصيرورة قام برصدها كبار الفلاسفة والباحثيين الاجتماعيين، وما تساؤلي الحالي عن مشروع قيام نهضة إلا استفسار عن إمكانيات ومقدّمات حدوثه في الزمن الحالي.
إنّ فلسفة التاريخ قائمة على أساس أنّ لكلّ أمّةٍ روح تسوقها، فإذا كانت هذه الروح مثلاً تتطلّع إلى الحرية، فحتماً سيكون تاريخ هذه الأمة هو تجليات متطوّرة لمفهوم الحرية.
تاريخنا الراهن مرتبط بالضرورة بالحقبة الزمنية التي سبقته ونتاجها بالمعنى التطوّري، ومتواتر بحسب الصيرورة التاريخية. ولنكن دقيقين أكثر فإنّ مشاكل عصرنا الراهنة لا يمكن لنا قراءتها وفهمها بالمعنى الناضج كما ستراها الأجيال القادمة، حيث يسير التاريخ بصورة على هيئة أحداث وايديولوجيات وحروب، ولكنّ البشر في كلّ مرّة كانوا ينظرون للوراء و يقولون لن نكرّر خطأ أجدادنا، ويعتقدون أنّهم تعلّموا الدرس من الماضي ليرتقوا بالحاضر وهذا ما يستحيل حدوثه وفقاً لفلسفة التاريخ.
سيادة الماضي والدوران في فلك الاديان
يعلم المختصين بالشأن الإجتماعي، بأنّ الحامل الروحي والإيديولوجي للمنطقة العربية هو ديني مترسّخ ومتجذّر، فمنذ بدء عهد الأديان الإبراهيمية والتي تمركزت جميعها في بلاد العرب، انتهت جميع أشكال الحضارات التي سكنت المنطقة، بل ولم يعد هناك أيّ روابط أو بقايا من الموروث الفينيقي أو الكنعاني و البابلي، ومنذ ذاك العهد لم تشهد المنطقة قيام أيّة دولة أو تغيير أو تعاقب حقبات تاريخية فوق حيّزها الجغرافي إلّا وكان للدين اليد العليا. سواء في سياسة وشكل الدولة أو العقد الاجتماعي المتداول بين الناس، يظهر في القانون و التعليم و شكل الحكم و المُثل العليا للناس.
بل وتفرّعت المذاهب و كثرت الانشقاقات داخل الدين لتقوم بعض الدول والدويلات هنا وهناك على أساس هذا الحامل التاريخي (كالدولة السلجوقية، الأيوبية، الفاطمية، الغساسنة، الأنباط، والمناذرة و غيرهم طبعاً).
وفي يومنا هذا يتضح بأنّ أي اعتداء على مقدّساتنا الدينية قد يُفجّر الشارع ويخلق ردود فعلٍ، لا تقارن بردود الفعل التي تتأتى جراء القتل و التدمير هنا وهناك. (فالاعتداء على المسجد الأقصى مثلاً، له وقع هائل وردة فعل ستكون أكبر من ردة الفعل التي يُحدثها قتل مليون فلسطيني ).
نشأت بعض الإتجاهات و النظريات في عصرنا الحديث لتضفي تنوعاً في أشكال الحكم و ثقافات الناس، كالاشتراكية، والقومية والعلمانية والليبرالية على سبيل المثال، لكنّها ورغم أثرها المتواضع في التأثير وانتشارها في الأوساط، كانت لا تخلو من التأكيد على ضمان أهمية وقداسة الموروث الديني في الدساتير والأخلاق و ثقافة الشعوب رغم محاولاتها للفصل في بعض الأحيان عن توجهات الدولة و أنماط العيش .
وبالتالي يكمن المأزق العربي اليوم في استعصاء أي ولادة جديدة، من شأنها جعل العالم العربي مواكباً للعصر و تسارع العالم في قفزاته العلمية و الاقتصادية والسياسية، فروح الماضي عاقر، والحامل الروحي له أصبح كسيحاً. وكما يقول الفيلسوف الألماني هيجل (الفكرة التي تزوجت هذا الزمن، ستصبح أرملة في الزمن القادم). فكيف لنا بالحديث عن مشروع نهضوي في المنطقة قبل أن نجد عقداً اجتماعياً جديداً، ونعالج أوهامنا بأنّ سيادة الماضي والعودة به هي الحل، كيف للدين أن يكون جزءاً من رحلتنا وتطورنا وليس خلاصنا ودليلنا أنّنا الأصح والأجدر و الأعلم وبأنّنا على خُلق عظيم.
المأزق التاريخي والرهانات المستقبلية
هذه الكوارث في الذهنية العربية و عقلية الخرافة في التفسير والعيش، هي الجدار الصلب في وجه أيّ مشروع نهضوي، أما عن حال النخبة في قيادة أيّ حراك أو أيّ مشروع تنويري فهو حال يرثى له، فهم إمّا نخبة بلاط، أو مُغيّبون مُحارَبون، أو أنّ محاولاتهم الفردية لا تحُرك في المياه الآسنة قيد أُنملة، ذلك أنّهم يحتاجون إلى مؤسسات حقيقية تتبنّى عملية التغيير الاجتماعي والمشروع التنويري.
نحن في مأزق تاريخي، فالأدوات و المؤشرات تكاد تكون معدومة، لكن ثمّة ضوء في هذا الظلام، وهو أنّ حالة الاحتقان لدى الجماهير في أوجها، وهناك تعطّش واضح للقيام بأيّ فعل، فالضمير الجمعي العربي كامنٌ ومستتر. والتاريخ بذاته لا يسمح للركود بأن يطيل إقامته في أيّ مكان.
ولكن كيف يمكننا الرهان على تحرّكٍ للجسد دون رأس، كيف يمكن للربيع العربي الحقيقي أن يأتي حاملاً هذه الجموع مرةً أخرى، مع ضرورة امتلاكه لمضمون حضاري يقوده نهجٌ واعٍ بأدوات عقلانيةٍ تعي طريقها.
إنّ البحث والتقصّي وراء إمكانية وقوع هذا الحدث، يجعل الباحث بين فكَّي كماشة، فمن جهة الضرورة و الصيرورة التاريخية، لا بدّ من ارتكاسٍ للأمّة يعيد إنتاج حضورها، فالحضارات يجرّها ثقلها، وهي تتأرجح بين مراحل انحطاطها وعودة نهوضها، ووضعها الراهن لديه من المؤشرات ما يكفي حول الوعي الجمعي الذي أدرك قاعه واغترابه، وعزلته عن الأنظمة الحاكمة.
ومن جهة أخرى، قد تكون كلّ هذه العوامل ليست من طبيعة المنطقة، فالشعوب تعايشت وتصالحت مع كونها مستهلكة، و تتمحور تطلّعاتها حول تحقيق بعض الأمان على مستوى الغرائز. وهي بمعزل عمّا يواكبه العالم من تغييرات، إذ أنّ الثورات الأخيرة في العالم المعاصر وأقصد الثورة الصناعية، السرعة والاتصالات، وحاليّاً ثورة الذكاء الصنعي. لم يكن للعرب فيها أي شكل من أشكال الحضور والتواجد، وهذا الأمر قد يُفسّر على أنّه واقع طبيعي في ظلّ مرحلة الهزيمة والانحطاط، وقد نعزوه إلى روح المنطقة في إهتماماتها ودوافعها.
فالحامل الروحي للمنطقة هو ديني بجدارة، وبالتالي تلعب الأسطورة و العامل الوجداني الدور الأكبر في سير هذه المجتمعات.
السؤال الذي بدأت به سأقف عنده الآن، لأتوسّع في بحثٍ لاحق حول المقدمات و الإستقراء التاريخي، ما بين غزو الثقافات والحضارات لمجتمعٍ ما، وبالتالي اندثار مرحلة وهوية هذا المجتمع، ليأخذ شكلاً وهويةً وربما لغةً جديدة، والتاريخ لديه أمثلة كثيرة عن هذا الحال، أو ثمة ارتكاس مختبئ كامن في أعماق الحضارات، يظهر في سياق تاريخي محدّد، فيُعيد البعث في روح الحضارة لتعود بكامل ثقلها من جديد، أيضاً لدى التاريخ أمثلة كثيرة على هذا الحال.
..............................................................................
* معاذ حسن : كاتب فلسطيني سوري مقيم بالنمسا
نُشرت له العديد من المقالات في الصحف و المواقع الثقافية
باحث في الشأن الإجتماعي له العديد من الدراسات الفلسفية والثقافية
في عدة هيئات مختصة بالعلوم الإنسانية.