لا شراكة -لا عداء: تركيا والسوريين
لم تنقضي الحالة التي عاشها السوريون في تركيا والشمال السوري من رعب وقلق وخوف مصيري. فأحداث قيصري وتنامي النزعة العنصرية عند بعض الأتراك ضد السوريين، والتلويح بإمكانية عودة التطبيع مع النظام السوري دون حل سياسي للمسألة السورية وبالضرورة إمكانية العودة الآمنة لديارهم، وضع الجميع أمام سؤال مصيري. فماذا لو تخلّت تركيا عن حماية السوريين في الشمال السوري واستعاد النظام سيطرتها عليها؟ مقابل ماذا لو بقي السوريين تحت رحمة الأتراك وما يتعرضون له كلّ فترة من عنف واستخدامهم كورقة سياسية في معادلات المنطقة؟ أضف إلى سؤال الوجدان السوري المضطهد والمهضومة حقوقه: إلى متى سنبقى رهينة بين فكي كماشة إرهاب النظام وإرهاب سلطات الأمر الواقع التي تساندها تركيا؟
أسئلة متعددة لم يحسم السوريون إجاباتهم حولها، خاصة وأنها متباينة بين عدة مؤشرات. منها ما يعالج الوضع التركي من بوابة أنها وريثة للدولة العثمانية والتي تسعى لعودة هيمنتها التاريخية على سوريا أو الجزء الأكبر منها، معززة بأيديولوجيا الرفض الكلي لكونها تحتضن الإسلام السياسي! مقابل إجابات نفعية، تبرر بالواقعية، قوامها الرضا بالوضع القائم والتنازل عن بعض الحقوق مقابل الاستقرار والسلامة والأمان بدل العودة لحاضنة النظام وهيمنته مرة أخرى! وبين هذه وتلك، تبدو المسألة الكردية معضلة تركية تعمل على زعزعة وجودها والتهديد بغزو المنطقة بين الفترة والأخرى. وكل من هذه الإجابات تجد لها مبرراتها الفعلية وبشكل جزئي في معاناة السوريين أجمع، لكن المعادلة والسياسة التركية دائمة البحث عن حضورها الإقليمي والدولي بين كل من روسيا وحلف الناتو، على إثر المسألة السورية وأزماتها المتتالية والمتصاعدة وأطماع الدول في كسب رهانها.
ليس أمام تركيا خيارات مفتوحة للعمل بساحة متسعة دولياً، بقدر العمل بين متناقضات متعددة الاتجاه والاستقطاب، حيث أنها تشكل عقدة الوصل والتنافس بين المشروع الروسي الأوراسالي ومشروع حلف الناتو أساساً، وكل منهما يعمل على استمالتها لمصلحتها. وهنا جذر العقدة التركية من حيث أنّها لا يمكنها أن تدير بظهرها كلية لإحداهما، ما يؤهل سياستها الحالية لوصفة معقدة عنوانها: لا شراكة- لا عداء، كعنوان رئيسي لحلول مشاكلها الراهنة عبر ملفات تفاوضية سياسية تساعدها على تماسكها الداخلي، والحفاظ على محيطها الحيوي الآمن، كما الحفاظ على موقعها الجيوسياسي على الخارطة الإقليمية والدولية كجسر عبور وعقدة اتصال دولية لخطوط الطاقة وخاصة الغاز بين أسيا وروسيا وأوروبا.
سياسة لا شراكة –لا عداء التركية نموذج جيوبوليتيكي لا يمتلك مقومات التوجه التوسعي كروسيا، وإن كان جزئياً يشبهها، ولا يمثل حالة استقرار كاملة كما أرادتها سياسة صفر مشاكل السابقة، بقدر احتمالها المزيد من التعقيدات القابلة للتنامي بازدياد حدة الصراع الجيوبوليتيكي العالمي الروسي مقابل الأوروبي-الأمريكي. كما أنها تحتمل المزيد من الاتفاقات السرية الأمنية والحلول العسكرية الجزئية وتجنب اشتعالها بجبهات عريضة إقليمياً مع كل الأطراف الدولية. هي سياسة براغماتية مبنية على الحذر والتوجس، والتي تحتمل الارتدادات المتعددة على الداخل التركي اقتصادياً وسياسياً، وعلى محيطها الحيوي عسكرياً وأمنياً.
اقرأ أيضاً:
المسألة السورية أدخلت تركيا بين تناقضات متعددة: ناصرت الثورة السورية بالمقابل حاربت مشروع الإدارة الذاتية الكردية، ما جعلها بتباين مزدوج مع الروس والأمريكان. استقبلت اللاجئين السوريين وفرضت منطقة وصاية وحماية على الشمال السوري، فدخلت في معادلات الحرب جيوعسكرياً عبر اتفاقات أستانة مع كل من الروس والإيرانيين، وبحضور القوى العسكرية المعارضة، وهذه تتنافى مع مفاعيل الحل السياسي السوري الدولي بحضور قوى المعارضة السياسية وطموح السوريين عامة! ما جعل الحلول المطروحة أمام تركيا معقدة تتراوح بين المواجهة المباشرة وخوض مغامرة التنافس الجيوبوليتيكية المعقدة مع روسيا، أو اللجوء لحلول جزئية مفروضة بملفات معينة ومحددة مع احتفاظها بمحيطها الآمن إقليمياً. ما يعكس حدة التناقضات التي تتشابك فيها المعادلة التركية:
- عضوية الناتو والإندراج في المشروع الروسي الأوراسي.
- محاولة الانضمام للاتحاد الأوروبي ووجودها الشرقي الأسيوي.
- علمانية الدولة ونموذجها الديموقراطي الحديث وعضوية المؤتمر الإسلامي العالمي وحاضنة للإسلام السياسي.
- عقدة اتصال برية وموقع اتصال لخطوط الغاز الواصلة لأوروبا، مع الانغماس في المشاكل التي نشأت عن الربيع العربي، خاصة في المسألة السورية والكردية على وجه التحديد.
- التناقض الأشد، والذي يعتبر خلاصة الموقع التناقضي التركي، عنوانه تجنب الموجهات العسكرية كبرى، بمقابل التمدد الجزئي الجيوبوليتيكي بين كل من روسيا وأمريكيا، وكليهما يعرقلان مساعي بعضهما بفرض سياسته المنفردة بالمنطقة. ما جعل تركيا بالنتيجة، تلعب دور سياسة الأمر الواقع مع كل الأطراف المتناقضة حولها، ضماناً لمصالحها وموقعها الجيوبوليتيكي المتقدم بموازاة القوى العالمية الكبرى، هذا إن لم تفترض لنفسها موقع القوة الكبرى قريباً. ما قد يفسر تناقضاتها تجاه المسألة السورية، فمرة مع الحل الدولي وفي أخرى مع التطبيع مع النظام ومحاربة الكورد، والحالتين تبدوان مجرد سباقات سياسية لا يمكن خوضها للنهاية ما لم تضمن مصالحها الداخلية والإقليمية والدولية.
السياسة التركية الحالية كسياسات نفعية تفكيكية جزئية محفوفة بالمخاطر من كل الاتجاهات، تبرز فيها المسألة السورية في ترسيماتها الجيوبوليتيكية، وتشهد المزيد من الضرر بالمصلحة السورية. ومهما حاولت تجنب المشاكل المعقدة المفروضة عليها بطرق جزئية تفاوضية متشابكة، لكن معيار نجاحها أو فشلها الاوضح هو المسألة السورية وطريقة حلها المفترضة كمقدمة أولى لنموذج مستقبل تركيا المفترض. والمسألة السورية كحالة دولية معقدة تنذر بخطر على جميع اللاعبين فيها ومنها تركيا. وبالضرورة من غير الممكن ان تفرط تركيا بنقاط قوتها في هذا الملف والتخلي عن حماية السوريين، مهجرين ومعارضة، دون مقابل. فإن كان المقابل هو منع قيام كيان كردي سوري مستقل بذاته، لكنها بذات الوقت ستقدم عطايا مجانية للروس والإيرانيين يهدد بعودة الأعمال العسكرية بين قوى المعارضة المسلحة والنظام، وبالضرورة عدم تمكن تركيا من تجنب مفاعيلها مرة أخرى.
بات من الضرورة اليوم، فهم سياسة تركيا المتناقضة هذه بعنوانها العريض البراغماتي، فهي ليست شريك أو عدو عقائدي للسوريين سواء المعارضة أو النظام! فيما مصلحة السوريين تتجلى بإمكانية استعادة قرارهم الوطني وليس الثوري وحسب، والمتمثلة بعدم العداء المطلق، وبذات الوقت عدم الارتهان كلية لتركيا. ما يتطلب من قوى المعارضة السورية ممثلة بالائتلاف بشكل خاص أن يخوض امتحانه السياسي الفعلي، وفتح ملفات السوريين الذي يتعرضون للعنف والاضطهاد بمرجعية القانون الوضعي في الدولة التركية، والانفتاح على الداخل السوري أيا كانت تصنيفات السوريين فيه، عرب وكورد أو غيرهم، والعمل العلني والواضح على استقلالية القرار السوري عن التجاذبات الإقليمية والدولية. فلا أمان لسوري إلا بالحل السياسي العام وتغيير النظام القائم، وهذا ما يجب أن يطرح بوضوح ودون مواربة.