"الإنسان المهدور" كيف يهدر كيان الإنسان ؟
كثيرة هي الكتابات التي تناولت ظاهرة التخلف في المجتمعات على المستوى الاجتماعي، الاقتصادي، والثقافي. بيد أنها نادراً ما تنفذ إلى مكمن الخلل. فتَعاظُم نظام المحظورات، الذي ما انفكّ يتمدد ويستطيل ليهيمن على حياة الملايين، خلق استحكامات للتخلف يصفها مؤلف الكتاب مصطفى حجازي بـ"ثالوث الهدر والقمقمة"، في إشارة إلى الاستبداد، والعصبيات، والأصوليات التي راكمت في اللاوعي الجمعي ثقافة الخوف والتماهي مع المتسلط.
يُعدّ مصطفى حجازي من الكتّاب القلائل الذين خاضوا هذا المضمار من خلال كتابه "الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية"، الذي جاء بعد سنوات من إصدار كتابه القديم والمشهور "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور". يتناول حجازي في هذا الكتاب هدر طاقات الإنسان وكرامته؛ بمعنى التنكر لإنسانيته، وعدم الاعتراف بقيمته وكيانه وحقوقه.
يقوم حجازي بتشخيص حالات الهدر وخطورتها وألوانها المختلفة، ويربط بين الخاص والعام من خلال إدراج الهدر الذاتي ضمن حالة الهدر العام والجماعي. ينطلق حجازي من مفهوم الهدر الإنساني باعتباره حالة متصلة بمسألة الديمقراطية وغيابها. فلا يرى الاستبداد مجرد حجب للديمقراطية أو منعاً للحقوق، بل يجده علاقة تقوم على اختزال الكيان الإنساني للآخرين إلى مستوى "الرعية". بل إنه يجعل من هدر الدم مسألة مبتذلة، مروراً بهدر الكرامات والعقول، وصولاً إلى هدر الوعي، حيث تسطو السلطة على الوعي، تحاول امتلاكه من الداخل، وتُعطّل الإمكانيات الجماعية والفردية الخلاقة، وتجيرها لخدمة السلطة المهيمنة ورجالاتها. ففي المجتمعات المهدورة، يفترس الطاغية المجتمع بمؤسساته وهيئاته وأفراده. إنه يلتهم الجميع ولا يترك شيئاً خارجه.
هذا الواقع يؤدي إلى إحياء بعض المفاهيم التي تُعد من أسباب الهدر الأخرى، ومنها العصبية، التي تولّد مشاعر الولاء والانتماء بين أعضائها، ما يمنحهم إحساساً بالقوة. لكنها تفرض على الأفراد قبولاً مشروطاً يتجلّى في تمجيد العصبية وأصحاب النفوذ. وتُناقض هذه العصبية ثقافة الإنجاز، التي تحدد مكانة الفرد وهويته وتشكل البنية الأساسية للعملية التنموية للنهوض بالمجتمع. إذ تخضع الأفراد لقيمة الشرف المهني كأساس بديل لشرف القرابة العائلية أو الحزبية الضيقة.
اقرأ أيضاً:
كما أن الحديث عن الطغيان والاستبداد والعصبية لا بد أن يترافق مع الحديث عن الاعتقالات والتعذيب في السجون، وعن هدر الطاقات والفكر والوعي. يرى حجازي أن هدر الطاقات من أخطر أنواع الهدر، لأنه يحوّل المجتمع إلى جثة هامدة فاقدة القدرة على الإنتاج والإبداع. فالفكر والوعي يقفان على طرفي نقيض مع كل من الاستبداد والطغيان والعصبيات. وخلو أي مجتمع من الفكر والتفكير يعني ضياع المجتمع، وبالتالي فقدان الإنسان وعيه بذاته وبمجتمعه، مما يبقيه في الحيز البيولوجي المحض من حاجاته وحياته. وهذا يؤدي إلى تعطيل نسبة كبيرة من خلايا دماغه، فيُهدر كل ما يُنتج الأفكار التي تصنع العالم.
يتحدث حجازي أيضاً عن أهم ثروة في المجتمع، ألا وهي الشباب، الذين يُعدّون محرك التقدم وبناء المستقبل. لكنه يرى أن هذه الشريحة تتعرض للهدر بسبب طريقة التعليم الببغائية والمكرورة التي يتلقونها في المدارس والجامعات، دون مراعاة متطلبات المعرفة في عصر التكنولوجيا.
وفي نهاية الكتاب لا يخفي الحجازي حقيقة وجود هدر من نوع خاص يسمى بالهدر الوجودي في الحياة اليومية، ويرى فيه تجسيداً للهدر العام؛ أي إنها ترجمة مباشرة للهدر الذي يصيب المجتمع برمته، ولا ينسى الكاتب أن يذكرنا في الختام بكيفية مجابهه الهدر والتواطؤ ضده من خلال التركيز على كفاءات يتمتع بها الإنسان، بالاعتماد على نشر الوعي بمخاطر الهدر في المجتمع من الخاص إلى العام، وحث الأفراد على مجابهته بكل وسائلهم، وبكل إمكانياتهم بالاستناد إلى العلم والمعرفة.
ويبدو أن لكل منا نصيبه من الهدر وإن اختلفت مرجعياته ودرجاته وألوانه، فحين نطالع بين ضفتي الكتاب نجد أنفسنا وجهاً لوجــه مــع ذواتنا المهدورة التي تحمل شيئاً من المرارة، أو تنهيدة تشي بكثافة رد الفعل الوجداني.