تجمّع الشباب المدني: صوت العلمانية في مواجهة التيار الإسلامي في سوريا
مع تسيّد الوجوه الإسلامية للمناصب الوزارية والإدارية إثر سقوط النظام السوري، ارتفعت الأصوات المنادية بدولة علمانية في وقت مبكر. ورغم عدم وضوح الرؤية بالنسبة لهذه الأصوات، التي تباينت مطالبها بين الخجولة، التي أرادت أن تحظى باعتراف يقتصر على حماية الأقليات فقط، وبين من نادى بسقف أعلى من خلال انتزاع مشاركة فعلية لسائر المكوّنات في الدولة الجديدة وتحقيق المساواة الجندرية في مختلف القطاعات، وصولًا إلى الرؤى الطامحة لبناء دولة علمانية تعطي الجميع فرصة متساوية، بعيدًا عن الانتماءات الدينية والعرقية والنوعية، في تشكيل سوريا الجديدة.
يستشعر شرائح واسعة من المجتمع السوري والمنادون بالمجتمع المدني خطرًا كبيرًا بعد بروز مؤشرات على أن هيئة تحرير الشام، التي استقدمت حكومة الإنقاذ من إدلب لإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، تحاول فرض نمط من الحكم بخلاف ما نصت عليه المرحلة الانتقالية وفق القرار الدولي 2254. وتبدو محاولات الهيئة وزعيمها الجولاني، عبر التطمينات التي يقدمها، مجرد خطاب دبلوماسي مراوغ ومجاملة سياسية للأطراف الدولية في سبيل شطب اسم الهيئة من لائحة الإرهاب.
ولعل أبرز تلك المؤشرات فرض علم التوحيد إلى جانب علم سوريا الجديد (علم الاستقلال) في أول ظهور تلفزيوني لمحمد البشير، رئيس مجلس الوزراء، بالإضافة إلى التشكيلة الحكومية التي تم اختيار أغلب وزرائها من الإسلاميين. مرورًا ببث أناشيد دينية خاصة بالفصائل الإسلامية بعد سيطرتها على التلفزيون الرسمي، بالإضافة إلى العديد من الإجراءات التي اعتبرها الكثيرون من ملامح الدولة الإسلامية القادمة.
بعد الانتقادات الواسعة التي طالتها، وتحسبًا لردات الفعل الداخلية والخارجية على إجراءاتها، حاولت الهيئة إظهار بعض المرونة، فاكتفت بالعلم السوري الجديد في الظهور الرسمي، ومنعت بث الأناشيد الدينية على الوسائل المرئية الرسمية، وقامت باختيار بعض الشخصيات لشغل مناصب إدارية من المكوّنات الأخرى، مثل تعيين محمد حازم محمد شريف بقله رئيسًا لمنظمة الهلال الأحمر العربي السوري، الذي شغل سابقًا منصب رئيس الجمعية السورية لمكافحة السل والأمراض التنفسية، بالإضافة إلى مناصب أخرى في الهلال الأحمر إبّان حكم النظام السابق.
تغييراتٌ في المضمون والشكل طالت أيضًا تشذيب بعض اللحى وترك الشوارب الحليقة لتنمو، لكنها لم تقنع فئة المتحمسين للدولة العلمانية، في ظل ما تشهده العديد من المناطق من ممارسات انتقامية وانتهاكات وصفتها الهيئة بـ (الحالات الفردية).
اقرأ أيضاً:
لماذا تجمّع الشباب المدني؟
حاول الكاتب السوري رامي كوسا مع اثنين من زملائه حشد التطلعات والمواقف المطالبة بدولة مدنية ليكون لها حضور مبكر في تشكيل سوريا الجديدة.
ورغم عدم اكتمال الصورة أو الملامح التي ينشدها (العلمانيون)، أطلق كوسا مع زملائه دعوةً عبر فيسبوك لما سمّوه (تجمع الشباب المدني)، ودعا إلى اللقاء والتجمع في ساحة الأمويين للحوار حول شكل الدولة العلمانية التي يطمح إليها المؤيدون لهذا التوجه.
كان الهدف من هذا التجمع هو التقاء بضع عشرات (نحو 30 شخصًا) للنقاش بغرض رسم هوية المجتمع المدني المنشود، بحسب المنظمين، لكن سرعان ما انتشرت الدعوة ليتفاعل معها أكثر من 25 ألف سوري من مستخدمي فيسبوك داخل سوريا وخارجها. وامتدت الدعوة إلى ظهور دعواتٍ مشابهة للتجمع في المدن السورية الأخرى، حتى أن مظاهرةً نسائية سبقتها في حمص يوم الأربعاء 18/12/2024، وطالبت بتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة.
التجمع: من الفيسبوك إلى الأرض
مساء أمس الخميس، 19/12/2024، تجمع المئات في ساحة الأمويين في دمشق (ما بين 500 إلى 1000 شخص) تحت مسمى تجمع الشباب المدني. واللافت في التجمع كان الحضور البارز لكبار السن الذين شاركوا مطلب الشباب بـ(دولة مدنية تمثل جميع الأطياف).
شارك ممثل عن هيئة تحرير الشام بكلمة أعلن من خلالها أن القانون الإسلامي يشمل حماية جميع الأطياف في المجتمع. وجاءه الرد من الحشد: (علمانية... علمانية... سورية حرة مدنية). أما دعاة التجمع فقد أعلنوا أن حالة الاختلاف التي يعيشها الشارع السوري اليوم، ولأول مرة، هي ما يحتاجه الشعب السوري، "فنحن بحاجة إلى اختلاف سياسي لا يقصي الآخر".
تحدث المتجمعون عن بعض الإجراءات التي فرضتها الهيئة خلال الأيام الأولى من سيطرتها على الحكم، مثل تحويل المسارح الجامعية إلى مساجد للمصلين. ولم يكن الاعتراض على تخصيص مكان للصلاة في الجامعات، بل على تحويل المسارح والمرافق العامة الأخرى إلى مصلى. "فكما نحتاج إلى المساجد، نحتاج أيضًا إلى المسارح".
بدا واضحًا تصدّر الوسط الفني الصوت المطالب بالدولة المدنية، سواء عبر تواجد مجموعة من الفنانين بين الحشود المجتمعة، مثل المخرج الليث حجو، والمسرحي أسامة غنم، والممثلة لمى بدور. أو عبر تأييدهم للحراك المدني من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مثل السيناريست والكاتبة السورية يم مشهدي، التي كتبت على صفحتها في فيسبوك: "تخيل اليوم وأنت في ساحة الأمويين، تطالب بحقك في مجتمع مدني، ويُطلق عليك الرصاص، ويُستشهد العشرات أو المئات، أو تقضي سنوات وسنوات في المعتقل، هذا في حال لم تنتهِ في مقبرة جماعية... تخيلت؟".
وهذا ما عبّر عنه مجموعة من الشباب المشاركين، رغم مخاوفهم من فرض الدولة الإسلامية كأمر واقع في سوريا خلال المرحلة القادمة. يقول "ض. ب.": "شعور لا يوصف أن تخرج هاتفًا بمطالبك بكل حرية في أهم ساحة في العاصمة، دون خوف من الاعتقال أو الملاحقة"، لكنه يردف مبتسمًا: "لكني أفضل ألا تذكر اسمي صراحةً"
نقطة انطلاق
بعض الحاضرين لم يرضهم الحراك بشكله الحالي، وعبّروا عن تخوّفهم من غياب أهداف واضحة للحراك المدني السوري، مما يقلل من فرصة تحقيق وزن فعلي في تشكيل الدولة الجديدة، خاصةً مع بروز دول اعتبروها داعمةً للسلطة الإسلامية في سوريا، مثل تركيا، في حين تغيب الدول الداعمة للتوجهات العلمانية كثقلٍ ملموس يتجاوز التصريحات والرغبات الكلامية.
المنظمون، الذين نادوا أيضًا بـ"خروج كل أشكال الاحتلال واستغلال الوقت الراهن لتحقيق الحضور الفعلي لكل الأصوات السورية في سوريا الجديدة"، كما قالت هايكي فيبر، المستشرقة الألمانية التي تعيش في سوريا منذ سنوات، اعتبروا تجمع الخميس نقطة انطلاق للحراك المدني السوري في سبيل المطالبة بدولة علمانية تضمن مشاركة الجميع.
ردود على التجمع
أثار التجمع، في المقابل، ردود فعل قاسية من أنصار المجموعات المسلحة ذات التوجه الإسلامي التي سيطرت على دمشق، حيث اتهم بعضهم المجتمعين اليوم بـ"فلول النظام" على حد تعبيرهم. فيما تساءل إسلاميون: "ماذا لو خرجت في الغد مظاهرة مليونية طالبت بدولة إسلامية؟! ألا يكون هذا شكلًا من أشكال الديمقراطية وقرارًا يفرضه الأغلبية؟".
جدير بالذكر أن الاتصالات، التي تسيطر عليها الهيئة في دمشق، قامت ببث رسائل نصية (SMS) في مدينة دمشق ومحيطها تدعو لمسيرة يوم الجمعة 20/12/2024 "احتفالًا بالنصر". وهذا ما فهمه بعض دعاة المدنية على أنه رد عبر الشارع على حراك العلمانيين في ذات الشارع.
وهذا ما يفتح السؤال على مصرعيه بين (الإسلامية) و(العلمانية): هل سيشهد الشارع السوري في الأيام المقبلة مزيدًا من الحراك الديمقراطي بين الاتجاهين؟