الأزمات المؤسساتية فرصة لتعزيز عملية التعلم
إن المؤسسات وقوة تواجدها وتأثيرها تمثل لبنة أساسية في البناء الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، لما تقدمه من خدمات وأدوار هامة لصالح الفرد والمجتمع. والمؤسسات، كغيرها من الكيانات، معرضة بشكل دائم للهزات والأزمات التي قد تخلق لها تحديات وصعوبات تعرقلها عن تأدية مهامها وبلوغ أهدافها. فالأزمات تعبر عن حالة من الإدراك والاضطراب أو الشدة، بوصفها نقطة تحول قد تكون نحو الأفضل أو الأسوأ، حيث تحمل في طياتها إمكانية الفرصة والخطر في آن واحد. كما أنها وليدة الظروف التي تنشأ فيها، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع أو المؤسسة أو الدولة.
تُعَدُّ الأزمات المؤسساتية من المواضيع الهامة التي استقطبت اهتمام الباحثين والمختصين في المجالات الإدارية والتنظيمية. وغالباً ما تكون الأزمات المؤسساتية مادة دسمة تستقي منها وسائل الإعلام المختلفة موضوعاتها الرئيسية، لتتصدر أجندتها الإعلامية، خاصةً إذا كانت المؤسسة ذات وزن على المستويين المحلي والدولي. كما أن النظرة السلبية إلى الأزمة التي أصابت المؤسسة، سواء من قِبَل وسائل الإعلام أو الرأي العام أو حتى الإدارة العليا للمؤسسة، تُعَدُّ حقيقة ثابتة لا مفر منها. وهذه النظرة نابعة من جملة التحديات التي تتسبب فيها تلك الأزمات.
على الرغم مما تشكله الأزمات من تهديدات واضحة على المؤسسة، إلا أن هناك اتجاهات بحثية حديثة تدعو إلى تجاوز النظرة السلبية لتهديدات الأزمة وعدم الوقوف عندها، بل السعي للتغلب عليها وإبراز مدى الكفاءة، وحسن الإدارة، والتفكير العلمي في التعامل مع مختلف الأزمات التي تواجهها المؤسسة. كما أن الأزمات قد تمنح المؤسسة بعض الفرص التي ينبغي اغتنامها لتحسين وتطوير بعض الجوانب الهامة وتحقيق العديد من الأهداف. وعليه، فإن الإدارة الجيدة للأزمة، والتحكم فيها، وسرعة معالجتها تعكس مدى كفاءة وذكاء وجدية وقدرة الطاقم الإداري للمؤسسة في مواجهة الأزمات التي قد تعترضها. وبالتالي، ستصبح طريقة إدارة الأزمة المؤسساتية نموذجًا يُحتذى به من قِبَل مؤسسات أخرى في حال تعرضها لأزمات مستقبلية مشابهة.
اقرأ أيضاً:
إن معظم الأزمات المؤسساتية تحدث فجأة وبشكل غير متوقع، خاصة تلك الأزمات الناتجة عن أحداث سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو طبيعية، والتي تكون خارجة عن إرادة ونطاق المؤسسة. ويتطلب التعامل مع هذه الأزمات اتخاذ تدابير وإجراءات استثنائية بغرض معالجتها، والحد من انتشارها، أو القضاء عليها. وتتعدد عوامل نشوء وظهور الأزمات المؤسساتية؛ فمنها ما هو داخلي، مثل العوامل المتعلقة ببيئة المؤسسة ذاتها، والأسباب الاقتصادية والتنظيمية والسلوكية والقانونية، ومنها ما هو خارجي، ويتمثل في الظروف والمتغيرات البيئية الخارجية للمؤسسة. فالصراعات والحروب والتوترات السياسية، سواء الداخلية أو الخارجية، تؤثر على نشاط المؤسسة. كما أن الأزمات الاقتصادية والمالية والصحية العالمية قد تُسبب كذلك مشكلات وتحديات كبيرة للمؤسسة.
إن إدارة الأزمة المؤسساتية تعني كيفية التغلب على الأزمة باستخدام الأسلوب الإداري المنهجي والعلمي لمواجهة التحديات والآثار السلبية وتعظيم الفرص الكامنة داخلها، من خلال استثمار مختلف الجهود والإجراءات والتدابير الإدارية، سواء المعتادة أو الاستثنائية، التي تتخذها المؤسسة عند حدوث الأزمة. ويشمل ذلك عملية التعلم المؤسسي التي تتضمن تقييمًا شاملاً لما حدث من وقائع خلال الأزمة التي مرت بها المؤسسة، واستخلاص الدروس والعبر. كما تشمل تحديد نقاط قوة المؤسسة وتعزيزها واستثمارها مستقبلًا، واكتشاف جوانب الضعف والقصور فيها، خاصة على المستويات الإدارية والتنظيمية، والعمل على دراستها جيدًا ومعالجتها وتلافيها في المستقبل.
تختلف الأزمات المؤسساتية حسب طبيعة الأزمة التي تعصف بالمؤسسات، ولذلك لا توجد استراتيجية أو أسلوب موحد يمكن الاعتماد عليه بشكل أساسي لمعالجة الأزمة. فلكل أزمة خصوصية معينة، ولكل مؤسسة سياسة إدارية وتنظيمية تعتمد عليها في تدبير شؤونها. ومع ذلك، يمكن الجزم بوجود بعض الأمور والمتطلبات الضرورية لإدارة الأزمات المؤسساتية، وتتمثل هذه المتطلبات في خلية الأزمة التي تشمل فريق إدارة الأزمة، ونظام معلوماتي، ونظام اتصالي متكامل.
إن تهديدات الأزمة المؤسساتية تتطلب من المؤسسة استحداث فريق إداري يتولى مهمة مواجهة الأزمة وإدارتها، بهدف الحد من خطورتها والتقليل من آثارها. ويتم ذلك من خلال اعتماد بعض الأساليب والاستراتيجيات المناسبة لخصوصية الأزمة وملابساتها. ويمكن القول إن نجاح عملية إدارة الأزمة يعتمد على ثلاثة متغيرات هامة: أولها، إنشاء خلية أزمة تشمل العناصر البشرية المؤهلة والعناصر المادية والتقنية اللازمة؛ وثانيها، وجود نظام معلوماتي دقيق يواكب سيرورة إدارة الأزمة، ويوفر المعلومات الضرورية لاتخاذ القرارات المناسبة؛ وثالثها، اعتماد نظام اتصالي متكامل وفاعل يضمن تحقيق التواصل الجيد مع جماهير المؤسسة الداخلية والخارجية، ووسائل الإعلام، والرأي العام، والجهات ذات العلاقة.
تولد الأزمات جموحًا يجبرنا على تعديل تفسيراتنا للنظم القائمة، مما يعزز عملية التعلم. فالتعلم يملأ الفراغ الذي ينشأ نتيجة حدوث الأزمات، وأولى خطوات عملية التعلم هي تحديد نتيجة التعامل مع الأزمة، سواء بالإخفاق أو النجاح. ففي حال نجاح المؤسسة في إدارة الأزمة، فإن ذلك يعني نجاعة استراتيجياتها الإدارية والتنظيمية والاتصالية، لذا ينبغي الاحتفاظ بهذه السياسات والاستراتيجيات في ذاكرة المؤسسة، والعمل على تعزيزها ودعمها. أما في حال الإخفاق في إدارة الأزمة، فلا بد من إعادة النظر في العديد من السياسات والاستراتيجيات التي تعتمدها المؤسسة في تدبير شؤونها، والعمل على معالجة مختلف الثغرات والقصور لتجنب وقوع المؤسسة في أزمات مستقبلية مشابهة