خطوات لبناء الثقة في الحوار الكردي - نحو شراكة حقيقية ومستدامة

مع تصاعد الحديث عن الحوار الكردي، يترقب الشارع الكردي بفارغ الصبر الإعلان عن اتفاق بين الطرفين الرئيسيين، المجلس الوطني الكردي وأحزاب الوحدة الوطنية، باعتبارهما الطرفين المعيقيين الرئيسيين للتوافق الكردي-الكردي، ورغم الجهود المستمرة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، التي تضمنت زيارات دبلوماسية من الجانب الأمريكي والفرنسي، بالإضافة إلى مبادرات من المجتمع المدني مثل مبادرة “يد بيد”، ومبادرة الصحفيين وغيرها، ومحاولات قيادات كردية مثل الزعيم مسعود البرزاني والجنرال مظلوم عبدي للتقريب بين الأطراف، إلا أن العقبة الأكبر التي تعيق تحقيق هذا الاتفاق هي انعدام الثقة بين الأطراف.
هذه الثقة المهزوزة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج سنوات طويلة من الانقسام والصراعات الداخلية التي عمّقت الفجوة وأثّرت على إمكانية بناء أرضية مشتركة للحوار. ومع ذلك، الشارع الكردي أظهر وعيًا سياسيًا عاليًا بأهمية التوافق عبر رسائل واضحة مثل الاحتفالات التي خرجت عقب اللقاءات السياسية الأخيرة، مؤكدةً أن هذا الاتفاق ليس مجرد مطلب سياسي، بل هو مطلب شعبي يعكس تطلعات المجتمع الكردي بأسره نحو وحدة سياسية قادرة على تحقيق مصالحهم.
لذلك، فإن الحديث عن خطوات حقيقية لبناء الثقة بين الأطراف لم يعد خيارًا يمكن تأجيله، بل هو ضرورة أساسية لا بد منها. هذه الخطوات يجب أن تتضمن جهودًا ملموسة وفعالة تعالج جذور انعدام الثقة تمهيدًا لإرساء شراكة سياسية حقيقية ومستدامة تخدم مستقبل المنطقة برمتها.
- بناء هوية سياسية مشتركة.
ومن أجل البدء بإجراءات بناء الثقة من المهم تقسيم الحوار إلى مراحل زمنية، تبدأ بالقضايا الأقل حساسية وصولًا إلى الملفات السياسية الأكثر تعقيدًا، هذا التدرّج يُتيح الفرصة لقياس نجاح كل مرحلة وتقييم النتائج قبل الانتقال إلى مرحلة جديدة، ممّا يضمن تقدّمًا مستدامًا.
ولكن ونظراً للطارئ المتغيّر في سوريا فإن بناء الأرضية الصلبة المتمثّلة ببناء الهوية والمصالح المشتركة، يجب أن تكون الخطوة الأولى حيث لا يمكن التغاضي عن حقيقة أنّ الأطراف الكردية تشترك في مصالح وطنية واحدة، وهي حماية حقوق الشعب الكردي، والحفاظ على ثقافته وهويته، التركيز على هذه النقاط المشتركة والابتعاد عن الخلافات سيعزّز فرص الوصول إلى اتفاق يخدم الجميع.
اقرأ أيضاً:
- اتفاقيات أولية: بناء جسور الثقة
بعد إنجاز الخطوة الأولى، وبالتوازي مع المسار التفاوضي، يمكن تشكيل لجان مشتركة تضم ممثلين عن جميع الأطراف، تعمل على تنفيذ خطوات بسيطة، ولكن ذات تأثير ملموس، ومن بين هذه الخطوات، توقيع اتفاقيات مبدئية تُلزم الأطراف بعدم استخدام الإعلام كأداة للتحريض أو نشر الاتهامات، مما يخفف من حدّة التوتر ويُظهر النوايا الحسنة، بالإضافة إلى ذلك، يجب معالجة القضايا الإنسانية المشتركة، مثل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وضمان حرية التنقل، مما يعزز الثقة المتبادلة ويدعم جهود تحسين العلاقات.
- التعاون الإنساني والخدمي.
نظرًا لوجود معوّقات مرتبطة بمشاركة الأطراف السياسية في الإدارة الذاتية وإدارة الاقتصاد، وهي قضايا قد تتطلّب وقتًا لمعالجتها، خصوصًا في ظل احتمالات تغييرات مستقبلية على المستوى الإداري في سوريا، يمكن أن يكون العمل على مشاريع إنسانية وخدمية مشتركة خطوة أولية فاعلة.
هذه المشاريع يمكن أن تشمل تحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والصحة، بالإضافة إلى مواجهة التحديات الإنسانية كالفقر والنزوح، التعاون في هذه المجالات سيبعث برسالة إيجابية للمجتمع الكردي مفادها أنّ الحوار لا يقتصر على السياسة، بل يصبّ مباشرة في مصلحة المواطنين، مما يعزّز الدعم الشعبي للعملية التفاوضية.
- منصة حوار محايدة: تعزيز الاستدامة
بما أنّ بناء الثقة ليس عملية فورية أو ناتجًا عن اتفاقيات سياسية آنية فقط، بل هو عملية مستمرة تتطلب تغييرًا في السلوك السياسي بمرور الوقت، فإنّ إنشاء منصات حوار شفافة ومحايدة هو الخطوة الأساسية لتعزيز هذا المسار.
ينبغي أن تُشرف على هذه المنصة لجنة تضم ممثلين عن الأطراف المتحاورة والمجتمع المدني، لتكون مساحة للنقاش الصادق والبنّاء، بعيدًا عن أيّ ضغوط أو محاولات للإملاء، هذه المنصّات يجب أن تضمن مشاركة جميع الأطراف بصدق وأمان دون خوف من الانتقادات أو الاتهامات.
ويمكن للإعلام المحلي أن يلعب دورًا كبيرًا في توسيع نطاق المشاركة وضمان الشفافية، من خلال نقل النقاشات وإشراك الجمهور، يمكن تعزيز الوعي العام ودعم العملية التفاوضية شعبيًا، مما يجعل الحوار أكثر شمولًا واستدامة.
- الدعم والرقابة
لا يمكن أن يُختزل الحوار في إطار القيادات السياسية فقط، بل يجب أن يكون للمجتمع المدني دور محوري في تقريب وجهات النظر وتعزيز التواصل بين الأطراف المختلفة، هذا الدور يمكن تعزيزه من خلال المشاركة المباشرة أو تنظيم ورش عمل وفعاليات مشتركة تسلّط الضوء على أهمية التعاون في تحقيق الاستقرار، وتخلق مساحات للنقاش البناء تسهم في إزالة الحواجز وتعزيز التفاهم.
ولضمان جدية تنفيذ الاتفاقيات، يصبح الاستعانة بأطراف دولية وإقليمية ضرورة ملحة. يمكن للأمم المتحدة والمنظمات والحكومات الداعمة للحوار أن تلعب دورًا فعالًا في تقديم الدعم الفني والسياسي وضمان الرقابة على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.
إلى جانب ذلك، يمكن إشراك الدول الإقليمية ذات المصلحة في استقرار المنطقة، بشرط أن يكون دورها إيجابيًا وبعيدًا عن المصالح الضيقة، مما يسهم في بناء الثقة بين الأطراف الكردية، هذه الخطوات تعزز من شرعية العملية التفاوضية وتضمن استمراريتها، بما يحقق تطلعات الشعب الكردي نحو وحدة سياسية واستقرار دائم.
وفي الخاتمة فإنّ بناء الثقة بين الأطراف الكردية ليس مهمة سهلة أو سريعة، لكنه يبقى هدفًا ممكن التحقيق إذا ما تم اتباع خطوات حقيقية ومدروسة، نجاح هذه العملية يعتمد بشكل أساسي على إرادة الأطراف المتحاورة وقدرتها على وضع مصلحة الشعب الكردي فوق الحسابات السياسية.
تنفيذ إجراءات بناء الثقة لن يمهّد فقط الطريق نحو وحدة سياسية، بل سيساهم أيضًا في تحقيق استقرار حقيقي يخدم تطلّعات الشعب الكردي ويؤسّس لمرحلة جديدة من السلام والتنمية في المنطقة.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل الأطراف الكردية مستعدة لاتخاذ هذه الخطوات الجريئة؟ الزمن وحده كفيل بالإجابة، لكن ما هو واضح اليوم أنّ الشعب الكردي ينتظر قيادة تمتلك الشجاعة الكافية لتجاوز خلافات الماضي والعمل على بناء مستقبل أكثر إشراقًا، يعكس آمالهم في الوحدة والازدهار.