رفع العقوبات... فرصة لسوريا أم اختبار جديد؟

إن إعلان الرئيس الأمريكي يوم أمس عن رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا يُعَدّ مسألة مهمة ذات أبعاد استراتيجية عالية القيمة على الصعيدين المحلي والإقليمي، وكذلك الدولي. كما أنه يُمَهِّد، بشكل جوهري ومبدئي، لمناخ إيجابي بشأن الاستثمار الاقتصادي في سوريا، سواء للمستثمرين من داخل البلاد أو من خارجها.
ومع ذلك، فإن هذا الإعلان لا يعني إطلاقًا توفير رخاء اقتصادي مباشر، إذ لا تزال سوريا تعاني من تراكم أزمات اقتصادية جسيمة على مدى أربعة عشر عامًا من الحرب، والتي كانت بمثابة عملية اختناق وموت سريري للشعب السوري.
إن رفع العقوبات الأمريكية سيؤثر إيجابًا على الوضع الاقتصادي في سوريا، مصحوبًا بتحولات جذرية تتمثل في مشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية التي تضررت خلال فترة الصراعات والنزاعات، بالإضافة إلى عملية إعادة إعمار شاملة تشمل المباني، والمشافي، والمراكز التعليمية (كالمدارس)، والطرق.
ولا يُستثنى من ذلك الاستثمارات الضخمة التي يُتوقَّع دخولها إلى السوق السورية نتيجة تخفيف هذه العقوبات، وفتح الباب أمام المستثمرين، نظرًا لأن معظم الأراضي السورية أصبحت مؤهلة وخصبة لتنفيذ مشاريع من شأنها إنعاش الاقتصاد في مختلف القطاعات: السياحية، والزراعية، والتجارية، ولا سيما تلك المرتبطة بالنفط، والبترول، والاتصالات، والتقنيات.
ويُضاف إلى ذلك، عودة التركيز على الإنتاج المحلي، الذي توقف معظمه نتيجة الحرب، ما جعل البلاد في حالة هشاشة اقتصادية.
اقرأ أيضاً:
رفع العقوبات عن سوريا والتحديات المقبلة
وفي السياق ذاته، ورغم التمهيد لمرحلة اقتصادية واعدة وتعزيز مساعي تحقيق الاكتفاء الذاتي في سوريا، فإن ثمة تحديات وعقبات لا بد من مواجهتها.
فقضية رفع العقوبات ترتبط بجوانب قضائية وقانونية، وتخضع لسلطة الكونغرس والمؤسسات القانونية في الولايات المتحدة، ما يجعل رفعها يتم بصورة تدريجية، ويتطلب مفاوضات وجهودًا جدية وعملية.
فعلى سبيل المثال، يُعدّ قانون قيصر من أكثر العقوبات صرامة، وإلغاؤه أمر بالغ الصعوبة ويحتاج إلى وقت طويل، نظراً للإجراءات المعقدة التي تتطلبها السلطة التشريعية التي أقرته.
وفي الداخل السوري، لا بد من أن تبادر سلطات الأمر الواقع إلى تنفيذ إصلاحات جوهرية على المستويين السياسي والاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، وإخراج سوريا من قوائم الدول الراعية له، إلى جانب تشكيل حكومة وطنية شاملة، وبرلمان جامع يمثل جميع السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم.
وفي حال تحقق هذه الخطوات، فإنها ستُسهم في تخفيف حدة العقوبات التي شلّت الاقتصاد السوري، وخاصة تلك المتعلقة بتجميد أصول البنك المركزي، وقطاعَي النقل والمصارف. ومن شأن ذلك أن يفسح المجال لانخراط النظام المصرفي السوري في المنظومة المالية الدولية ومؤسساتها.
إعادة الإعمار وتوفير الدعم
أما القضية الأكثر تداولًا بعد رفع العقوبات، فهي مسألة إعادة الإعمار. فهل سيكون هناك دعم ومساندة حقيقية من الدول العربية والعالمية للتعاون بهدف النهوض بالاقتصاد السوري؟
إن هذه العملية تتطلب صياغة خطط تنفيذية عميقة وواضحة، من شأنها إعادة بناء مؤسسات الدولة والعاملين فيها.
وبالطبع، قد يكون هناك دعم متوقَّع، إلا أن الضعف المؤسساتي والفساد المتفشي يُعَدّان من أبرز التحديات التي ستواجه جهود إعادة الإعمار، إضافة إلى صعوبات متعلقة بالجوانب اللوجستية، ما يجعل العملية أكثر تعقيدًا.
ويُضاف إلى ذلك تحدٍّ كبير يتمثل في عودة المهجّرين واللاجئين السوريين المنتشرين في مختلف دول العالم، فضلًا عن الحاجة الملحة إلى فرق وخبراء متخصصين لإزالة الركام المنتشر على امتداد الجغرافيا السورية نتيجة الدمار.
وهذا الواقع يفرض، بصورة مباشرة، ضرورة فتح الطرق دوليًا أمام عمليات الاستيراد والمشاركة في جهود البناء وإعادة الإعمار.
الشباب السوري وإعادة الإعمار
ويجدر بنا ألا نغفل عن الدور المحوري والجوهري الذي يلعبه الشباب داخل سوريا وخارجها في عملية إعادة الإعمار، وهو ما يُعدّ أيضًا تحديًا بحد ذاته.
لذلك، ينبغي على السلطات الجديدة في دمشق تشجيعهم على المشاركة، من خلال تمكينهم اقتصاديًا وتوفير فرص عمل مناسبة، ولا سيما أصحاب العقول المهاجرة الذين يمتلكون طاقات إبداعية كبيرة، وتحفيزهم على العودة في إطار سيناريو مختلف يمهّد لمستقبل أفضل لهم، بعيدًا عن الدور القامع للسلطة الذي يمنحها صلاحيات مطلقة فيما تفعله.
ومن جانب آخر، فإن خلق شراكات استراتيجية مع الدول يتطلب من سلطة دمشق أن تُدرك أن رفع العقوبات الأمريكية ليس بمثابة شيكٍ قُدِّم على طبق من ذهب، بل هو مرتبط أيضًا بتوجهاتها السياسية، وحجم التغييرات التي ستُجريها ضمن مسارها السياسي.
وعليه، فإن بناء علاقات طبيعية وداعمة مع مختلف الأطراف وتعزيزها لإبرام عقود من شأنها تحسين وتطوير الوضع الاقتصادي، يُعد أمرًا ضروريًا.
كما أن الأوضاع الأمنية الهشّة ستشكّل عائقًا أمام تدفّق الأموال والاستثمارات إلى سوريا. وهنا، لا بدّ للسلطات الجديدة من إثبات نفسها كسلطة أولويتها تأمين الأمن والأمان للسوريات والسوريين، والتوقف عن التغاضي عن الصراعات الداخلية التي بثّت الرعب والخوف في نفوس المواطنين. كما ينبغي عليها أن تتصرف بمسؤولية تجاه ما يحدث، وإلا فإنها ستكون فاقدة للشرعية داخليًا وأمام المجتمع الدولي.
وفي هذا السياق، يجب الحذر من التناقض بين القول والفعل، خصوصًا أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب صرّح بوضوح أنه سيمنح سوريا فرصة، وهذا يدل على أن الولايات المتحدة تراقب عن كثب ما ستقوم به سلطات دمشق، ومدى التزامها وجديتها في التعاطي مع الشروط الدولية المطروحة.
إن رفع العقوبات الأمريكية يُمثّل فرصة حقيقية لسوريا، ويستلزم منها الانخراط بشكل أوسع في دبلوماسية العلاقات، وكسب دعم المجتمع الدولي، بدلاً من الاستمرار في العزلة والتجميد التي كانت سائدة في السابق، والتي دفعت بسوريا إلى الاتجار بدماء أبنائها من قِبَل المنظومة الأسدية.
ويتحقق ذلك من خلال اعتماد خطط اقتصادية واضحة تنهي مراحل مشروع زعزعة الاستقرار في البلاد، وترفع من مستوى الحريات، وتعمل على استئصال حركات التطرف العنيفة المتجذّرة، ولا سيما تلك المرتبطة بالسلطة، والفصائل التي تُعَدّ جزءًا أساسيًا من الأزمة، في الوقت الذي يُفترض أن تُسهم في تخفيف الأزمات المالية والاقتصادية التي تشهدها سوريا.
وأخيرًا، فإن سيناريو التعافي الاقتصادي في سوريا يُعدّ ضروريًا لإنقاذ ما تبقى من الأرواح السورية المنهكة والمتهالكة، والتخفيف من معاناتها، حتى وإن لم يكن ذلك حلاً متكاملاً للأزمة السورية، إلا أنه يتطلب، ولو بشكل جزئي، تمويلاً لدعم الخطط الداخلية، والاستجابة لمعالجة العديد من القضايا الأساسية المطروحة، والعمل على إبراز ملامح تسويات تَشي بالتفاؤل على الصعيد الاقتصادي، ضمن أطر قانونية وتشريعية، وبحنكة سياسية.
وينبغي ألا تكون سوريا سلعةً للتفاوض والمساومات، بل دولة ذات سيادة، وشعب يتمتع بكامل حقوقه وواجباته.
ومن زاوية أخرى، لا بد من التنبّه إلى نقطة مهمة، وهي أن الولايات المتحدة لم ترفع العقوبات ثقةً بسلطة الأمر الواقع في دمشق، بل للدفع نحو نهج جديد يتّسم بالتحوّل الديمقراطي على المستوى العالمي.