info@suwar-magazine.org

أفكار متأنّية في محنة السويداء

أفكار متأنّية في محنة السويداء
Whatsapp
Facebook Share

 

محنة السويداء هي طور من أطوار محنة الدروز في المشرق العربيّ منذ "غيبة" الخليفة الفاطمي "الحاكم" وانقلاب الدولة الفاطميّة على دعوة التوحيد. ومن عادة المِحَن أن تُستثمر وتُستغلّ ويُتاجر بها كما أرى ذلك يحدث الآن وأحيانًا في بثّ مباشر وعبر الشبكات والمنصّات التي يوفّرها ويموّلها هذا العرّاب أو ذاك

تتبلور في مشهد محنة السويداء وريفها ثلاث نقاط إجماع بين الدروز ضحايا محاولة الإبادة التي حصلت هناك في تموز الماضي وشركائهم في العقيدة الدينية الذين يعيشون في المشرق وفي المواطن الهجرة.

 

 

 

نقطة الإجماع الأولى تقول إن الهجمة على السويداء وريفها كانت محاولة إبادة محسوبة بدقّة حتى آخر التفاصيل في أروقة أجهزة استخبارات ووفق رؤيا أيديولوجية بشأن سورية والإسلام والدروز والعلاقة بينهما.

 

مع هذا نستدرك ونقول الإجماع حولها لم يكن تاماً في البداية لأن بعض الدروز اتّهموا جهات في الجبل بالتسبب بالهجمة الإبادية علما بأن هذه الهجمة ـ يتّضح ويتأكّد ـ كانت مخطّطة وقيد التحضير قبل أشهر من حصولها. مثل هذه الحملات لا تحدث من ليلة إلى ضحاها.

 

 

 

نقطة الإجماع الثانية في المحنة تتبلور حول فرضية القطيعة مع النظام الذي أشرف على محاولة الإبادة ورفض أي نوع من التطبيع معه. وهنا أيضاً، تُسمع أصوات خارج هذا الإجماع تدعو إلى التروّي وإلى إعادة التأسيس لعلاقات سويّة مع نظام دمشق لأن سورية ليست ملكاً لهذا النظام وأن حلم المجتمع السوريّ الواحد لم يمت وأخيراً، لأن الدروز هم مَن أرسوا أسس الوطنيّة السورية وحصّلوا استقلال سورية بدمائهم ولا يُمكن أن ينحرفوا عن مسارهم هذا.

 

 

 

نقطة الإجماع الثالثة هي تلك المتّصلة بسياق حصول المحنة التي أحاقت بالسويداء وأهلها وهو سياق سيولة شديدة في الإقليم وحضور سياسات ومشاريع تستهدف سورية الجغرافيا والديمغرافيا إذا صح التعبير أوّلها تقسيم الشام فلا تكون مركزاً وموارد الشام الطبيعية ـ نفط وغاز وموانئ حيوية على المتوسّط أساساً. وعليه، فإن المحنة حلقة في سلسلة سياسات ضربت وستضرب سورية. بل أن وصول هذا النظام بالتحديد إلى دمشق هو نفسه جزء من هذه المشاريع أو مقدّمة لها.

 

 

 

 

لو صدّقنا نظام الأمر الواقع في دمشق والأبواق الإعلاميّة المناصرة والمروّجة له أن المحنة وليدة حسابات خاطئة أو هيجان عابر للعشائر التي تحتفظ بثأر ضد الدروز في حوران، لكان عاد المخطوفات والمخطوفين فور انتهاء الهجمة الهمجيّة، لتمّ رفع الحصار التموينيّ عن المحافظة نهائياً وتيسّرت عودة النازحين إلى قراهم. لكان توقّف التحريض ضد الدروز وتوقّف تكفيرهم والتجييش ضدّهم في وسائل الإعلام وتمّ بذل جهود لترميم الخراب والاعتذار من الدروز. لكان تقاطر أهل الخير لإحلال الصُلح ـ ولا شيء من هذا حصل! بل العكس هو الحاصل لفظياً وفعلياً بقيادة النظام نفسه وعرّابيه.

 

 

 وهذا ما يقودنا إلى الاستنتاج أن المحنة حصلت بقصد قاصد لا يزال مصرّا على تحويل المحنة إلى وضع دائم كي يسهل استغلال الدروز وجغرافيّتهم جنوب شرق سورية.

 

اقرأ أيضاً:

     

                         الطائفة.. ذاك "الافتراس الأمومي" النهم

   

 

جزء من موقف السويداء في هذه المحنة يأتي من تاريخ هذا الجبل المجبول في وعي أهله وأدائهم على الكرامة بمعناها عزّة وشمم ورفض الخضوع والركوع. هكذا صاغت الجماعة الدرزية هويتها وحضورها في تاريخ هذا الإقليم والمنطقة. وهي إلى حدّ ما "المادة" الأساسيّة التي تؤسّس عليها الجماعة الدرزية اندماجها في المشرق ومجتمعاته وسياساته.

 

 

 يُضاف إليها ما أنتجه دروز جبل لبنان من وعي مشابه بالعزّة الوطنيّة والكرامة والانخراط في المشاريع العروبيّة. في الحالتيْن، فإن الوعي الوطنيّ الجمعي للدروز يتأسّس على سلسلة من التضحيات الجسام بالروح والممتلكات وبكلّ غالٍ وثمين لا سيّما بالوجود هنا أو هناك.

 ينعطف هذا وذاك على تاريخ للجماعة يمتدّ في عمق القبائل العربيّة الآتية من اليمن والجزيرة ومن كون العقيدة الدرزية ـ عقيدة التوحيد ـ تضرب جذورها في الحضارة الإسلاميّة وتشكّل جناحاً روحانياً (التجربة في شمال أفريقيا من القيروان إلى القاهرة/الفسطاط) وسياسياً (الدولة الفاطميّة) منها.

 

 

والآن، تأتي الأسئلة عن وجهة الجماعة الدرزية في محافظة السويداء بعد هجمة الإبادة في تموز وآثارها المدمّرة. وهي أسئلة لا تنحصر في الجماعة الدرزية في المحافظة بل تطال الدروز عموماً في الشام الكبرى والعالم. فكل خيار سينعكس على الجماعة ووعيها وحضورها في الشام وخارج الشام. ومن هنا أهمّية أن يأتي التحرّك في الردّ على الهجمة الإباديّة من دراسة وحسابات معمّقة.

 

 

 

لدى الدروز في المشرق شعور عام بالمظلوميّة والضحويّة زاد أو خفت تبعاً للأحداث. شعور المظلوميّة الآن بعد حملة تموز طبيعيّ ومشروع وطاغ في ثقله وعمقه وآثاره. يُضاف شعور ممتدّ بالمظلوميّة لدى الدروز في الشام عموماً القائم على حقيقة أن العروبة بأشكالها وعقائدها ودولها خذلت الدروز مراراً  رغم كلّ تضحياتهم لا سيّما في سوريّة (هجوم الشيشكلي على السويداء مثلًا).

 

 

 

مع تأكيدنا على وجود كل الحقائق الموضوعيّة لولادة هذا الشعور نُجزم أنه لا يكفي وحده لتحديد جهة السير إلى المستقبل ولا طبيعة هذا المستقبل ولا الشركاء فيه. مهما تبلغ هذه المظلوميّة من عُمق لا يُمكنها أن تكون وحيدة في استشراف الدروز لمستقبلهم ومسارهم في إقليم تقطعه المشاريع ويحزّزه العرّابون طولاً وعرضاً وشمالاً وجنوباً. فالدروز ليسوا وحدهم على الأرض كما أن المظلوميّة لا ترسم حدوداً سياسيّة ولا تؤسّس كيانات كما يعتقد البعض.

 

 

 

أنا من المعتقدين بأنّه ينبغي ألّا يكون الدروز في الشام أمام خيار واحد وهو خيار الإذعان للنظام الذي جرّد حملة الإبادة عليهم بُغية تدمير حاضرتهم ونجح جزئياً في تدمير جزء من ريفهم. لكنّي وبالقدر نفسه لا أريد أن يصيروا من ليلة إلى ضحاها فريسة لخيار واحد وحيد هو التبعيّة لمشاريع إسرائيل في هذه البقعة من سوريّة.

وهو موقف يتأسّس على سعة رؤية تقول إن إسرائيل كانت جزءاً من التفاهمات مع النظام الذي قام بالحملة وأنه قام بها بما ينسجم مع مشاريع إسرائيل ـ كما يتّضح من تفاهمات الأيام الأخيرة بشأن ترك جنوب سورية لإسرائيل تفعل به ما تشاء.

 

 

 

أما مشروع إسرائيل لدروز هذا الجنوب فلا يرقى إلى دولة أو استقلال أو عزّة كما يُروّج البعض تحت غبار المظلوميّة وضرورة الردّ عليها. وما يحصل هنا من هرطقات وعنتريّات خاصة التي تأتي من أزلام إسرائيل في المنطقة يذكّرني بقصّة سمعتها كثيراً في طفولتي ومحورها أن الغولة الشرّيرة تربّي الطفل في الحكاية وتسهر عليه وتطعمه بما لذّ وطاب كي يكبر ويسمن حتى تأكله فيكون وجبة دسمة. والمعنى أن إسرائيل ليست ضامنة لمستقبل الدروز إلّا بهذا المعنى.

 

 

 

إن الحلم باستقلال دولة جبل الدروز وبعلم وجواز سفر وما أدراك من رموز السيادة فهو حلم جميل دون شكّ من شأنه أن يُداعب مشاعر الجماعات. وهو يضرب في النفوس عميقاً لدى فئتين فيها بوجه خاص. طبقة المُستضعفين الذين أقصتهم جماعتهم وأضافت على استضعافهم حمل الإبادة، والطبقة التي تعتقد أنها ستكون المُستفيدة من تطوّر كهذا. والإغراء في الحالتيْن قاتل، مجازاً وبالفعل.

 

 

 

 إن السيولة في الوضع السياسيّ تغذّي هذا الحلم وتبقيه على نار حامية. ومع هذا علينا أن نؤشّر على الآتي بناءً على كل تجارب الإقليم منذ بدايات الحلم بالدول والاستقلال في المشرق العربيّ مروراً بسايكس ـ بيكو، إن تحقيق الأحلام مشروط ومنها الاستقلال مشروط بقُدرة على التفكير المستقلّ واتخاذ قرارات قابلة للإنفاذ.

وهذا مبنيّ على فرضية توفّر إرادة وقوّة سياسيتيْن لا أراهما في الوقت الحالي.

 

 

 

على أيّ حال فإن الدويلة الدرزية التي أرادتها إسرائيل في البدايات ـ في الثلاثينيات حتى الثمانينيات ـ درعاً لها من شمالها وتحالفاً مع أقليّات الإقليم تُريدها إسرائيل اليوم ذراعاً لمشاريع هيمنة وقمع ضد الإقليم. هذه هي مآلات خيار الاستقلال المتداول الآن وهذه هي وجهته في السياسات الإسرائيلية كما تدلّ على ذلك حالة الثكنة أو اسبارطة التي تعيشها. وكي أكون أوضح قليلاً أسجّل اعتقادي أن إسرائيل الرسمية لا تريد للدروز في الجبل مستقبل مجتمع أبيّ متماسك وموحّد يقوم بأدارة نفسه ويحمل مشاريعه واسمه ويمشي. بل هي تريده تابعاً لها، مهدّداً من شماله وغربه عُرضة لهجمات العشائر أو غيرها يعيش حالة عوز دائم للماء والدواء والتنقّل وأبسط وسائل الحياة ـ من هنا أتت محاولة الإبادة والتمزيق ـ كي يأتمر بأمرها ويصير إلى حالة ارتزاق دائم وفق مشيئتها.

 

 

من هنا ومن منطلقات القطيعة مع نظام الإبادة في دمشق ومن اعتبارات عزّة الجماعة وكرامتها ووجودها، ومن منطلقات الوعي بتفاصيل المشهد والإقليم وطبيعة القوى المتنفّذة ومشاريعها ـ نقترح أن نتخلّص من الأوهام ومن الكذب على الذات استناداً لكذب الآخرين ـ إسرائيل مثلاً وزلمها ـ على دروز الجبل ومن مراهنات أشبه بالقمار على زعماء يعيشون أحلى أيّام دكتاتوريتهم. ليس للدروز غير الريح إن هبّت في ظهورهم. وليبدأ حساب كلّ شيء من جديد على أساس الاعتماد على الذات واقتدارها.

 

 في الجماعة الدرزية كفاءات ومهارات وعقول لا يُمكن اختزالها في شيخ مهما يكن أصله وفصله، ولا في طريقة ولا في رهان خائب ولا في إرهاب داخلي استقواءً بالخارج.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
آخر المقالات
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard