حياة السوريين مهدّدةٌ بالأمراض الوبائيّة
دمشق تسجّل أوّل حالة موتٍ بمرض الكبد و1500 مصابٍ أسبوعياً
بورصة اللقاح تشتعل والسماسرة يبيعونه بـ10 آلاف ليرة
طبيب: إفراغ طوابق في المشافي لاستقبال المرضى
خيّمت على الشارع السوريّ حادثة وفاة الطفل الدمشقيّ سامي جبري بمرض التهاب الكبد الوبائيّ A، منبهةً إلى مخاطر انتشار هذا المرض الذي، حتى الآن على الأقلّ، تصرّ وزارة الصحّة في حكومة وائل الحلقي على التقليل من خطره، فيما حذّرت ممثلة منظمة الصحة العالمية بسوريا من احتمال "التزايد بحالات الإصابة" به. المآل الذي انتهى إليه الطفل جبري يهدّد حياة أكثر من 31460 إصابةً بالتهاب الكبد الوبائيّ، رصدتها منظمة الصحة العالمية في سورية لغاية نهاية 2014. ومع استمرار تسجيل المزيد من الإصابات التي تبلغ، حسب تقديرات وزارة الصحة، أكثر من 1500 حالةٍ أسبوعياً، يشتدّ الخطر، وتزداد احتمالات توسيع مروحة مرضٍ أسهمت الحرب، التي باشرت عامها الخامس على التوالي، في ظهوره من جديدٍ وانتشاره على نطاقٍ واسع. بينما أظهرت الحكومة لامبالاةً واضحةً في البداية، لكنها أُرغمت على التعاطي معه، إعلامياً على الأقلّ، في الفترة الأخيرة.
أسرةٌ منكوبةٌ
والد الضحية الأولى المعلن شبه رسمياً عن وفاتها نتيجة المرض، حمّل، في تصريحاتٍ صحفيةٍ، مسؤولية موت ابنه إلى "مسؤولي وموظّفي وزارة الصحة" الذين اتهمهم إياد جبري، والد سامي، بأنهم مقصّرون في عملهم. عائلة جبري أسرةٌ منكوبةٌ الآن، إذ سبقت وفاةَ ابنها وفاةُ خالته بذات المرض، فيما تماثل شقيقه للشفاء. تقف هذه الأسرة حائرةً بين حال الذهول الذي أصيبت به نتيجة فقدانها سامي، وبين السبب الذي أفضى بها إلى هذا القدر، وهو وجبة طعامٍ تناولتها الأسرة في مطعمٍ، تبيّن أن العدوى انتقلت إليها منه، بعد أن أسفرت تحرّيات وزارة الصحّة عن اكتشاف أنّ أحد عماله مصابٌ بالمرض، مرجّحةً انتقال العدوى منه إلى أسرة جبري. وفي وقتٍ لا ينفع اللوم، أو جلد الذات، تتكتّم أسرة جبري على تداول قصة ابنها، وتمضي وقتها مكظومة الغيظ، لا سيما بعد أن قال والد سامي، مكرهاً أو عن قناعةٍ، إن وزير الصحّة لا علاقة له بموت ابنه.
انتشارٌ واسع
جعلت حادثة وفاة الطفل الدمشقيّ، متأثراً بإصابته بالتهاب الكبد الوبائيّ A، من كل الطمأنات التي قدّمتها وزارة الصحة في دمشق أثراً بعد عين، وزوبعةً في فنجان الانتشار الواسع للمرض. وكما تفيد مصادر طبيةٌ لمجلة (صوَر)، تتجاوز الإصابة بالمرض 1500 مواطنٍ أسبوعياً، ما يثير القلق والخوف لدى الناس الذين يتساءلون عن جدّية وزارة الصحة في متابعة هذا المرض؟ ووفقاً لاعترافات الوزارة المعنية، فإن حصيلة الإصابة بالمرض قد تكون تجاوزت عتبة 20 ألفاً، منذ مطلع العام الجاري وحتى أواخر آذار 2015. ويؤكد معاون وزير الصحة، الدكتور أحمد خليفاوي، أن الأسبوع العاشر من العام الحاليّ سجّل 1512 إصابة التهاب كبد A في سورية، مقارنةً بـ2584 في الأسبوع الذي سبقه.
خريطة توزّع المرض
ووفقاً لبياناتٍ حصلت عليها مجلة (صوَر)، سجّلت إدلب، في الأسبوع الثامن من العام الجاري، أعلى نسبة إصاباتٍ مقارنةً بالمحافظات الأخرى، إذ بلغ عدد الحالات الجديدة المكتشفة فيها خلال تلك المدّة 296 إصابةً. ثم جاءت على التوالي محافظات: دير الزور 144 إصابةً، دمشق 115، حمص 78، ريف دمشق 61، حماة 58، اللاذقية 36، حلب 34، الرقة 20، السويداء 14، درعا 14، القنيطرة 13، طرطوس 9، الحسكة 7 إصاباتٍ مسجّلةٍ وأجريت لها تحاليل مخبرية. ويتّضح من توزّع انتشار المرض تسجيل المحافظات الخارجة عن سيطرة النظام، كإدلب ودير الزور، أعلى النسب، فيما ظلت المسألة في المحافظات التي لا وجود للنظام فيها، كالرقة، وفقاً للتقديرات. إضافةً إلى أن معظم المحافظات يصعب فيها توفر الرعاية الصحية الكافية.
ويرى مراقبون أن دمشق، ونتيجة اكتظاظها السكانيّ، من المفترض أن تكون الأولى في عدد الإصابات، إلا أن السلطات، وفي محاولةٍ منها لتخفيف الخوف، لا تسمح بنشر الأرقام الحقيقية، وتكتفي بانتقاء أرقامٍ وإحصاءاتٍ تسهم في خدمتها، وتعبّر عن توجّهاتٍ معيّنةٍ تريد إيصالها إلى الناس.
التخوّف من الانتشار في المدارس
الحرب وقلّة النظافة وعدم العناية بها وغياب الخدمات وتدهور أوضاع البنى التحتية؛ تتصدّر أسباب عودة انتشار أمراضٍ ساريةٍ في سوريا، ومنها التهاب الكبد الوبائيّ A، الذي سُجّلت أوّل حادثة وفاةٍ به في دمشق، بينما هناك حالاتٌ أخرى يثار حول مصيرها التساؤل. وبصمتٍ مطبقٍ، ومحاولاتٍ مقصودةٍ لعدم التعامل مع هكذا حالاتٍ مرضيةٍ تهدّد الصحة العامة، وحياة ملايين الناس؛ حافظت وزارة الصحة على التعامل مع المرض بسرّيةٍ، وفقاً لطبيبٍ متخصّصٍ بهذا النوع من الأمراض، أعرب عن قلقه من تقليل وزارة الصحة من مخاطر انتشار المرض، عازياً السبب إلى أن المرض، الذي يعدّ غير قاتلٍ، يُخشى من انتشاره الكبير في أوساط طلبة المدارس المكتظة بالتلاميذ، إذ تجاوز عدد طلبة الشعبة الصفية الواحدة 60 طالباً، بينما هي مخصّصةٌ لنصف هذا العدد. كما يحذّر الطبيب من انتشار التهاب الكبد في أوساط أصحاب الأمراض المزمنة، وهم شريحةٌ يتهدّدها المرض بالموت المحتم. وتقدّر منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 1.5 مليون إنسانٍ يقضون سنوياً بسبب هذا المرض، فيما تبلغ نسبة موت المصابين به من كبار السن 1 بالألف.
بورصة اللقاحات
في وقتٍ يكشف فيه طبيبٌ لمجلة (صوَر) أن وزارة الصحة قامت بإفراغ طابقين في مشفى المواساة، وطابقٍ آخر في مشفى الأسد بدمشق، استعداداً لاستقبال الحالات المصابة بمرض التهاب الكبد الوبائيّ، أو غيره من أمراضٍ منتشرةٍ تسمّى الأمراض الوبائية؛ ينفي مسؤولو وزارة الصحة أن انتشار مرض التهاب الكبد A وصل إلى حدّ الوباء، مستندين إلى أن سوريا هي بلدٌ متوسّط التوطّن. إلا أن حديث الشارع السوريّ، وما يشاهَد بالعين المجرّدة، يثير الكثير من المخاوف حول مدى انتشار المرض وغياب اللقاحات والتحصينات الطبية لمواجهته. بينما يكتفي الناس باتباع طرق الوقاية التقليدية، لا سيما مع ظهور بورصةٍ حقيقيةٍ لأسعار اللقاحات المضادّة للمرض، في ظلّ غياب الرغبة الصادقة لوزارة الصحة في تقديم اللقاحات.
ويؤكد (ص.ب) من دمشق أنه اشترى عدداً من اللقاحات ضد التهاب الكبد الوبائيّ المنتشر حالياً، وسدّد 10 آلاف ليرةٍ ثمناً لكلّ لقاح (يحتاج الشخص الواحد إلى لقاحين على مدى ستة أشهر). مبيّناً أن هذه اللقاحات تتوافر في عيادات بعض الأطباء، بشرط تسديد نصف قيمة اللقاح أوّل يومٍ، وعند إعطاء اللقاح يسدّد النصف الثاني، في إشارةٍ ذات دلالةٍ بالغةٍ على الإتجار بلقاحات هذا المرض.
سماسرةٌ ومتاجرون
ألمح عددٌ من الناس والأطباء إلى شكوكٍ حول فاعلية هذه اللقاحات، وغياب المادة الفعّالة منها، كما عبّر عددٌ ممن التقتهم (صوَر) في ضواحي دمشق. إذ قال الشابّ (ع.ج) إنه رضخ لرغبة أهله في أخذ اللقاح، لكنه على قناعةٍ تامةٍ من أنه غير فعّالٍ. فيما يرى طبيبٌ، فضّل عدم ذكر اسمه، أن كلّ هذه اللقاحات، التي تأتي عن طريق لبنان من خلال سماسرةٍ، مشكوكٌ في أمرها ولا يمكن الوثوق بها. وردّاً على سؤالنا لماذا يصرّ الناس على أخذ اللقاح إذاً؟ أجاب الطبيب: لغياب أيّ خيارٍ آخر، فهم يحتاجون إلى شيءٍ ما يقلّل من مدى تعرّضهم لخطر المرض. إذ تكفيهم معاناتهم المتعدّدة، وهم غير مستعدّين لأيّ طارئٍ صحيٍّ قد يودي بحياتهم.
لم تحذّر وزارة الصحة من مخاطر هذه الحالة، واكتفت، على لسان عددٍ من مسؤوليها، بدعوة الناس إلى الاهتمام بالناحية الوقائية. فيما أعلنت معاون وزير الصحة، هدى السيد، عن استعداد الوزارة لاستيراد اللقاحات وبيعها في الصيدليات التابعة لها، دون إطلاق حملةٍ في هذا المجال.
المدارس والنأي بالنفس
لكن ماذا بشأن سبل انتشار المرض، ووجود مناطق موبوءةٍ به، وغياب الرقابة الحقيقية عن مصادر انتقاله، كالمياه مثلا؟ تسجّل المدارس أعلى نسبةٍ لانتشار المرض، رغم محاولات وزارة التربية لدى النظام اتباع سياسة النأي بالنفس، واعتبار القضية مجرّد حالةٍ طبيعيةٍ، وانتشارٍ دوريٍّ للأمراض السارية كما في كلّ عامٍ حين تنتشر هذه الأمراض، لا سيما التهاب الكبد الوبائيّ A، الذي يرى عددٌ من أطباء الوزارة أنه لا يخيف، وهناك تشابهٌ بين أعراضه وأعراض أمراض الشتاء كالرشح والكريب، بينما لا تعكس الإحصاءات المسجّلة لحالاتٍ في المدارس أيّ تخوّفٍ أو انتشارٍ يصل حدّ الوباء، على حدّ تعبير أولئك المسؤولين.
ويعبّر عددٌ من أهالي الطلبة في ضاحية حرستا بريف دمشق عن تخوّفهم الكبير من خزّانات المياه الموجودة في المدارس -والتي لا يتمّ تنظيفها أو تعقيمها على الإطلاق، فضلاً عن شكوكهم تجاه وسائل تعقيم مياه الشرب- كأحد أهمّ مصادر انتقال المرض والعدوى به. ويقولون إن هذه المياه في أيدٍ غير أمينةٍ، إذ إن تعقيمها يقتصر على الكولرة (أي استخدام مادة الكلور)، وهي طريقةٌ متّبعةٌ علمياً، إلا أن الكميات التي تحتاجها مياه الشرب من مادة الكلور غير كافيةٍ، وأحياناً تباع ويتاجر بها. ومع ذلك لاحظت مجلة (صوَر) أن وزارة الموارد المائية لدى النظام زادت من كميات الكلور في الماء، حتى باتت تُرى أحياناً بالعين المجرّدة، أو تُحسّ من خلال الرائحة أو التذوّق، مقارنةً بالفترة السابقة عندما لم يكن هذا الوضع موجوداً. فيما اعتبرت ممثلة منظمة الصحّة العالمية في سوريا، اليزابيث هوف، أن الأرقام والمؤشرات المتعلقة بالمرض تدلّ على أن شريحةً واسعةً جداً من الشعب السوريّ لم يعد بإمكانها الوصول إلى مياهٍ صالحةٍ للشرب، الأمر الذي يسبّب هذا التزايد في حالات التهاب الكبد الوبائيّ A.
ضدّ السوريين
وكأن حرب أربع سنواتٍ لم تكفِ سوريا وشعبها، ليأتيَ الموت أيضاً عن طريق مياه الشرب والطعام وغياب النظافة والرقابة كأحد طرق انتقال التهاب الكبد الوبائيّ A، وانتشاره المخيف. فتلتقي الحرب والأمراض الوبائية، متكاتفةً، لنشر الموت والرعب في سوريا.