"استنساخ" النوع الإنسانيّ
نارت عبد الكريم
يُعتبر التدجين واستئناس الحيوانات من أهمّ إنجازات الإنسان في صراعه الطويل من أجل البقاء والحفاظ على النوع البشريّ. وقد قام بذلك من أجل الاستفادة من لحوم الحيوانات ومنتجاتها الأخرى، ومن أجل تسخيرها لمصلحته في التنقل وحمل الأثقال وجرّ العربات والعمليات الزراعية أيضاً. ومع مرور الزمن طرأتْ تغييراتٌ بيولوجيةٌ كبيرةٌ على الحيوانات المُدجّنة حتى غدتْ مختلفةً عن أجدادها البريَّة التي انقرضَ بعضها نهائياً ولم يعد له وجودٌ على سطح الأرض. ويمكننا اعتبار هذه الأنواع المُدجّنة، الموجودة حالياً، بمثابة نسخةٍ عن الأصل المُنقرض.
في عصرنا الراهن تقوم شركات صناعة الأغذية بإنتاج بذورٍ مُهجَّنةٍ ومُعدَّلةٍ وراثياً، من أجل استخدامها في الزراعة. وتعتبر شركة "مونسانتو" الأمريكية العملاقة، على سبيل المثال، إحدى أكبر الشركات التي تخصصتْ في هذه المجال. وهي تحتكر، إلى حدٍّ كبيرٍ، سوق الحبوب الغذائية في العالم.
ومع اعتماد المزارعين على المنتجات الحديثة، أي البذور المُعدّلة وراثياً، اختفتْ من الأسواق ومن الحقول تلك الأنواع القديمة التي يُطلق عليها في بلادنا "الأنواع البلديَّة"، من مثل البندورة البلدية والخيار البلديّ والقمح البلديّ وأنواعٍ كثيرةٍ أخرى. وقد أضحتْ هذه المحاصيل والأنواع الحديثة بمثابة النسخة عن الأصل الذي طاله الانقراض، أو كاد أنْ يطاله في أحسن الأحوال. إلاَّ أنَّ كلّ ما تقدّم ليست له علاقةٌ بموضوع خطاطتنا هذه؛ فموضوعنا هو النوع البشريِّ في حدِّ ذاته، أي الإنسان، وليس النوع الحيوانيّ أو النباتيّ. إذ يقول جاك لاكان في إحدى محاضراته: إنَّ اللغة هي التي تصنع الإنسان بما هي نظامٌ رمزيٌّ سابقٌ لوجوده.
ولكن من الذي صنع هذه اللغة التي "نستخدمها" منذ آلاف السنين؟ وهل يمكننا اعتبار الإنسان الحاليّ الذي صنعته اللغة، بالقياس إلى ما سبق، بمثابة النسخة المُعدّلة؟ وإنْ كان كذلك، فأين هو الأصل وما مصيره وما هي صِفاتهُ؟ هل انقرض وتلاشى مثلما حصل للحيوان الأصليّ وللنباتات "البلديَّة"؟
ما تقدّمنا به آنفاً يدفعنا كذلك إلى التوقف والتساؤل حول دور وسائل الإعلام الحديثة، وخصوصاً المرئية منها، في صناعة الإنسان؛ إذ تشير بعض التقارير إلى احتكار عددٍ محدودٍ جداً من الشركات العملاقة والعابرة للقارات لأكثر من 80% من قطاع الإعلام في العالم. ذلك ما دفع تيودور أدورنو إلى التحذير من عواقبه في عمله المعنون "صناعة الثقافة"، عندما أشارَ إلى أنَّ صُنَّاع الثقافة يتودّدون كثيراً للجماهير من أجل تعزيز وتثبيت رأيهم، وتمريره كمعطىً طبيعيٍّ، وإقصاء أيّ موقفٍ يمكن أن يغيّر هذا الرأي، فهم –بحسب أدورنو– بحاجةٍ إلى جماهير مروّضةٍ وقابلةٍ للخِداع. فهل يمكننا الحديث، في ضوء احتكار صناعة الثقافة، عن ظهور نوعٍ إنسانيٍّ جديدٍ هو، في حدِّ ذاته، بمثابة نسخةٍ مُعدّلةٍ ومُهجّنةٍ بما يتوافق مع مصالح الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال؟