ملعون دوستوفسكي
"أفغنة الجريمة والعقاب"
حربي محسن عبد الله
"ملعون دوستوفسكي" إحدى الروايات النفسية للكاتب الأفغانيّ عتيق رحيمي. وقد صدرت، بترجمة راغدة خوري، عن دار دال للنشر والتوزيع في دمشق. والرواية النفسية هي التي تكون فيها الأحداث مسجلةً، على نحوٍ ذاتيٍّ، في ذهن واحدٍ أو أكثر من شخصياتها، وتلعب فيها عمليات الوعي دوراً مشوّقاً يعدل دور الأحداث الخارجية أو يفوقه أهميةً. وفي الرواية النفسية تقدَّم الأحداث لا وفقاً لتسلسلها الزمني، ولكن كما تتداعى في ذهن البطل أو غيره من شخصيات الرواية. نشأت في الفترة التي طلع خلالها (فرويد) بنظرياته النفسية، ولكنها لم تكن بالضرورة نتيجة لذلك. ثم بلغت أشدّها في القرن العشرين. ومن أبرز أعلامها فرانز كافكا ومارسيل بروست وجيمس جويس، دون أن ننسى بالطبع دوستوفسكي.
حاول عتيق رحيمي السير على نفس نهج رواية "الجريمة والعقاب". في مجتمعٍ يحترق بروحه القبلية التي تدعو إلى الحرب والثأر والدوران في طاحونة العذاب والموت بدوائر أبديةٍ لا فكاك من حلقاتها الجهنمية. لتثبت مصداقية نبوءة كارل ماركس، الداعية الأبرز لمقولات الجدل الهيرقلطسية، عن حتمية التغيّر والتطوّر؛ حينما قال: "أفغانستان منطقةٌ عصيّةٌ على التغيير"!!!. يصف رحيمي الشعب الأفغانيّ -في جنبات روايته-، وهم مجموعةٌ من القوميات يصل عددها إلى 16 قوميةً، بكلّ تنوعات وتدرّجات انتماءاته القبلية، قائلاً: لا أحد هنا يشعر بالذنب تجاه التاريخ الدمويّ لهذا البلد، ولا يشعر بوخز الضمير لما تقترف يداه ولمشاركته في دوّامة العنف والدماء. أفغانستان الغارقة في حروبها التي لا تنتهي، وفي قيم الثأر القبلية، وفي أتون نار التخلف والأمية والمخدرات. هذه البلاد التي أصبحتْ رمزاً للفوضى الدامية، حيث القتل ظاهرةٌ يومية، تمرّ مجرياتها في شريط الأخبار دون أن تثير انتباه أحد. من الجملة الأولى للرواية نتلمّس محاولة عتيقي لأفغنة رواية "الجريمة والعقاب" بدءاً من اسميّ بطلَي الروايتين، فبدلاً من راسكولنيكوف، نجد "رسول"، وعوضاً عن سونيا نعثر على "صوفيا". وتجدر الإشارة إلى تكرار المقطع التالي من الرواية ثلاث مرّاتٍ، في أوّلها وفي منتصفها تقريباً كما يختم الكاتب روايته به، وهو ما يؤكّد حالة التماهي بين الروايتين أو، بمعنىً آخر، محاولة عتيقي أفغنة رواية دوستوفيسكي؛ إذ يقدّم لنا الكاتب وصفاً للجريمة بالشكل التالي: "ما كاد رسول يرفع الفأس كي يضرب رأس المرأة العجوز حتى عبرت رواية الجريمة والعقاب في ذهنه. صعقته. ارتعشتْ ذراعاه، تمايلت ساقاه. أفلتت الفأس من يديه، فاخترقتْ جمجمة المرأة وانغرزت فيها. انهارت العجوز فوق السجادة الحمراء والسوداء دون أن تصدر أيّ صوت. يتطاير حجابها المطبّع بأزهار التفاح في الهواء قبل أن يسقط فوق جسدها الممتلئ والمترهل. اهتزّت بتشنجاتٍ، تنفّستْ نفساً واحداً، أو ربما نفسين، حملقتْ عيناها الجاحظتان في وجه رسول المنتصب وسط الحجرة، مقطوع الأنفاس، أكثر شحوباً من جثة. سقط الباتو (وهو شالٌ صوفيٌّ يلتحف به الرجل الأفغانيّ) الذي يرتديه من على كتفيه الناتئين، وهو مستغرق النظر في تدفق الدماء، تلك الدماء التي كانت تسيل من جمجمة العجوز، وتندمج بلون السجادة الحمراء، مغطيةً مساراتها السوداء، لتميل بعد ذلك ببطءٍ نحو اليد اللدنة للمرأة التي لم تزل تمسك بقوّةٍ رزمةً من الأوراق المالية. والتي ستتلطخ لاحقاً بالدماء". هذا هو المشهد الرئيسيّ الذي يبني عليه الكاتب روايته، فيأخذنا نحو المنولوج الداخليّ لبطل الرواية الذي يعاني من حالةٍ نفسيةٍ تتأرجح بين العصاب والذهان. والذهان، كما يعرّفه الطبّ النفسيّ، هو اضطرابٌ يتناول شخصية المريض ككلّ، والعصاب اضطرابٌ يبدو واضحاً في الجانب الوجدانيّ فقط، ولا تضطرب الوظائف العقلية فيه إلا بصورةٍ طفيفةٍ وعارضةٍ وفي الحالات الشديدة منه، على عكس المريض الذهانيّ الذي يظهر لديه الاضطراب في القدرة على التفكير والمحاكمة والفهم والتقدير والتمييز وإدراك العام الخارجيّ ومن طبيعته أيضاً.
في مقابلةٍ لرحيمي للحديث عن كتابه هذا أورد قولاً للفيلسوف "لاكان" يشرح فيه الازدواجية التي اشتغل عليها روايته: "الشعور بالذنب يسبّب نوعين من الأمراض النفسية: إما العصاب، لأولئك الذين لا يزالون منغلقين داخل هذا الذنب ويرفضون الخروج منه، أو الذهان، لأولئك الذين يرفضون الدخول إليه". من هنا نذهب مع حالة البطل النفسية، خصوصاً عندما يحلّق في تهويمات الحشيش المختلطة بوخز الضمير. ثمة خلطٌ بين الواقع والخيال الذي يدور في حلقات دخان الحشيش وحكايات "كاكا ثروت الفنطازية"، وهو شخصيةٌ مهمةٌ في "الساقي خانة"، المكان الذي يرتاده رسول مع شلةٍ غير متجانسةٍ من البشر. وهو تلك الزاوية المنسيّة في عالمٍ منسيٍّ يتمّ فيه تعاطي الأفيون والحشيش على وقع الأحاديث والنوادر والأشعار والأغاني. وتُسمع، كخلفيّةٍ لهذا المشهد، أصوات الرصاص المتطاير هنا وهناك والانفجارات والموت المجانيّ الذي يحصد العشرات يومياً.
لدينا إذن، بطلٌ مدمنٌ على قراءة دوستوفسكي، غارقٌ في عزلته ورفضه للقيم السائدة، كارهٌ لقسوة المجتمع الأبويّ وأخلاقياته ومعايير الخطأ والصواب لديه، مجتمعٍ يؤمن تماماً بمقولة اقتل كي تحيا، وهذا هو مبدأ كلّ القتلة. يكره رسول طبيعة مجتمعه القاسية وتعامله مع المرأة، ولكنه يصبح جلاداً لامرأةٍ يعتبر المجتمع الذكوريّ قتلها مدعاةً للفخر، أولاً لأنها امرأةٌ ليس لديها حقوقٌ أصلاً، فهي تابعٌ لزوجها أو لأبيها أو لأخيها!، وثانياً لأنها تساعد على فعل الرذيلة وتسهم في تلطيخ شرف الذكورة الباحثة عن ضحايا لعنجهيتها وإفلاسها الإنسانيّ، بسببٍ من تخلفها وجهلها وأمّيتها. من هنا يتصاعد وقع الرواية بعد أن يسلّم رسول نفسه للعدالة ليتخلص من عذابه ومعاناته، ليفاجأ بنمط العدالة التي يؤمن بها المجتمع، فيقع فريسةً للحيرة بسبب أسئلةٍ داخليةٍ لا تنتهي تمور في نفسه. فيجد من يبارك جريمته لأنه أسهم في تنظيف المجتمع من الرذيلة، ثم يقاضيه على سرقة الأموال وليس على جريمة القتل. وهو، في الحقيقة، قام بعملية القتل ولكنه لم يسرق المال. فقد تجمدتْ الدماء في عروقه بعد أن أتمّ جريمته وهرب لا يلوي على شيء، إذ كان يفكر في راسكولنيكوف ومصيره. ختاماً، أودّ الإشارة إلى ملاحظاتٍ على الترجمة التي يبدو أنها لم تكن عن الفارسية، فوقعت في أخطاء يتبيّنها سريعاً من له إلمامٌ بهذه اللغة. فكلمة "برادر" تعني الأخ الشقيق في الفارسية القديمة والحديثة على السواء، وليس الأخ غير الشقيق، كما جاء في هامش الصفحة 28. و"شتر مرغ" تعني نعامة وليست شبيهةً بالنعامة، كما جاء في هامش الصفحة 55. بالإضافة إلى أن الأغاني والأشعار التي كانت تتداول في الساقي خانة هي من رباعيات الخيام، فكان من الممكن الاستعانة بالترجمة المشهورة للرباعيات لأحمد الصافي النجفي. بالإضافة إلى أنّ تعاطي الحشيش كان بـ"النارجيلة" التي يطلق عليها "قليون"، وتكتب بالقاف وتلفظ بالغين فتتحوّل إلى غليون، ولا تعني أنهم يتعاطون الحشيش بالغليون. وغيرها من الملاحظات التي لا تلغي متعة قراءة رواية "ملعون دستوفسكي".