info@suwar-magazine.org

بين المناضل والمغامر

بين المناضل والمغامر
Whatsapp
Facebook Share

ريدي مشو

 

تراودني، بين الحين والآخر، نوبة مراجعةٍ لمفارق حياتي. والآن، إذ لم أزل حياً بعد هذه السنوات الأربع من الحرب، يبدو لي أن المراجعة أصعب وأشقّ مما سبق. بقائي على قيد الحياة كان نتيجة العديد من الخيارات المصيرية التي اتخذتها حينها دون تردّدٍ ودون كثيرٍ من المراجعة، وكأنني كنت كاملاً بالفعل وكنت مدركاً لما ستؤول إليه الأمور! الديباجة هذه هي الدارجة بين شريحةٍ واسعةٍ من الشباب والصبايا الثوريين، إضافةً إلى مخضرمي السياسة والمعارضة في سوريا.

يبدو شكل التبرير هذا متمظهراً بمعرفةٍ منبثقةٍ من نواة الحقيقة. وفيه، في الوقت ذاته، شيءٌ من الإهانة للثورة بذاتها؛ فعملية الإدراك في الزمن الثوريّ ناقصةٌ دائماً، سواءً أكنتَ مندفعاً إلى الثورة أو تتجنبها أو تعارضها، ثلاثة إدراكاتٍ تنطوي دائماً تحت بنودٍ واضحة؛ المصلحة الشخصية، والسعي إلى البطولة، والضياع في الذات الجمعية المستمرّة في التاريخ.

من هنا يتبدّى لي أنه لزومٌ علينا أن نراجع مجدّداً رؤيتنا للنضال وللمغامرة، للمناضل وللمغامر، "ولو أن المغامر والمناضل لا يتعارضان كمحض مفهومين مجرَّدين، فهما يتواجهان، يتعارفان، يعترف كلٌّ منها بالآخر، تارةً يتحالفان وطوراً يتحاربان".

وربما يبدو التمييز بينهما صعباً، فشرط الالتحاق بالثورة يكون متماثلا أحياناً، لكن ما هي إلا بضعة أشهرٍ حتى يتبيّن النمطان بوضوح، ويتّضح مسار المغامر بشكلٍ أبرز من المناضل الذي يبقى مغموراً لأنه لا يسعى إلى إبراز ذاته وسط الجماعة، بل يمنحها كلّ ما يملك دون مقابل. فقضيته التي يؤمن بها ليست متعلقةً بالظرف المرحليّ الذي يعيشه، بل هي ممتدةٌ إلى حيواتٍ لاحقةٍ لن يكون موجوداً فيها، وإرادته ستستمرّ حتى بعد فنائه.

المغامر مختلفٌ عن المناضل إلى درجةٍ كبيرة؛ فطغيان الأنا لديه هو المبرّر الرئيسيّ لفعله الثوريّ، ولا يرضى أن تمنحه الجماعة شخصيةً جديدةً، بل يسعى إلى المجد بشخصيته السابقة. بصورةٍ ما فإن المغامر لا يمكنه أن يمنح الثورة أناه ولا يرضى أن يُمنح واحدةً، فحياته الثورية تدور حول محور عزلته الأصيلة ضمن جدران الذات الساعية إلى تحقيق البطولة والمجد.

يمكن للمغامر أن يحرق كلّ ما يحيط به، فعليه أن يبقي نيران الثورة مؤجّجةً لأبعد حدٍّ ممكنٍ، لأنها تمنحه الخلاص وتحقق غاية البطولة لديه، لذا فإنه سيحرق ويرمي بنفسه إلى الحريق في الوقت ذاته!. أمثال هؤلاء المغامرين يقدمون إلى الثورة بعيونٍ منتفخةٍ من السهر الطويل، وأيادٍ مرتجفةٍ من شدّة الاكتئاب، محمّلين بأمل أن الثورة ستشفيهم ولا بدّ!!.

المقامرة الثورية، أو المقامرة بالانضمام إلى جماعةٍ ما من أجل تحقيق المجد المشتهى أو الميتة الابهية التي يمكنها أن تخلق شرخاً واضحاً في رتابة الزمن؛ بهذا الشكل يصف سارتر المغامر الذي يجد السبيل إلى الحياة ويخلق مسيراً جديداً للزمن في لحظة موته التي ستلده بطلاً بعد مماته! إنها مفارقةٌ جليةٌ أن هذا المغامر الموصوف ليس له سببٌ للحياة وليست لديه أدواتٌ لخلق الحياة، وفقط يملك إرادة الموت. أمثال هؤلاء، مهما كانت مرجعيتهم الأخلاقية، دينيةً أم قومية، لا يمكنهم إلا أن يدجّجوا الأسلحة لكلّ غدٍ قادمٍ. هم لا يرتاحون حين الانتصار، لا يرتاحون حينما يرون الآخرين كذلك، فقط تقودهم اللهفة والومضة التي تتجاوز الزمن الصلب إلى زمنٍ يمكنهم فيه أن يحرّكوا عقارب الساعة كيفما شاؤوا، رغبة تتجلى في المطلق. إنهم لا يطيقون الواقع ولا يمكن للمنطق أن ينطقهم بأيّ حال، فرسالتهم كاملة، تلك الرسالة التي تشكّلت على عجلٍ في إحدى الزوايا أو بينما كانوا يمشون في شارعٍ ما، وحدث ما حدث ليندفعوا إلى خفايا الجماعة الثورية في المحيط، فيقوم كلّ واحدٍ منهم بشحذ همّة الآخر ليخلق الظرف الثوريّ الأمثل ويدفع بالحياة إلى جحيمها الأكيد، حيث يمكنهم الابتهال لزمنٍ لن ينتهي أبداً حين موتهم. صراع المغامرين هو الأكثر اتساعاً في زمن الثورات، فهؤلاء يشعرون بأن الآخر -ومهما كانت تضحيته- إنما يشكل تهديداً للمجد الذي يسعون إليه. وهكذا يتناحر المغامرون فيما بينهم، وتولد لكلٍّ منهم ثورة مجده العادلة التي تستدعي عدوّاً مشروعاً في كلّ حين!.

 

في الطرف الآخر هناك المناضل المستكين إلى صمته، إذ لا تحرّكه سوى إرادة الحياة، هذه الإرادة التي لا يمكن امتلاكها إلا حينما تهبُ ذاتك للآخرين، ولا ترى نفسك إلا فيهم، ولا يرونك إلا غصناً متفرّعاً من شجرتهم. ليس هناك مفهومٌ يدعى بالتفرّد بين المناضلين، فهم يفعلون ما ينبغي أن يفعلوه. ولا يخطر ببالهم أن يمنّوا على الآخرين بنضالهم ولا أن يتهموهم بالخيانة أو بالجبن، لأنهم يدركون أن الفعل الثوريّ ينبغي أن ينتج من حاجة الانتماء الكلية، حيث لا مجال للتراجع أو للبقاء في سكون، فالحاجة إلى النضال أعظم من أيّ مبرّرٍ آخر. توريط الآخرين في الفعل الثوريّ إنما يخلق الكثير الكثير من المغامرين الذين سيتكالبون على المكتسب الثوريّ ويلتهمون المناضل على موائدهم المتكرّرة. غالباً ما يفشل المناضل أمام المغامر في التجربة الثورية، فالمناضل يبدو دائماً وكأنه مستهلَكٌ في رؤاه المثالية ولا يمكنه مجاراة تحويرات الواقع التي تنصبّ في جعبة المغامرين الكبار ممن يسعون إلى خلق مجدهم ولو كان مختلقاً كلياً.

على أية حال، كنت أتحدث عن فئة المغامرين المقاتلين لحدّ الآن، ممن لا يمكنهم إثبات أيّ شيءٍ إلا حينما يُراق دمهم. ولكن هناك فئةٌ أخرى منهم لا يمكننا أن ندعوهم بالمغامرين حقاً، لأنهم تركوا كلّ شيءٍ خلفهم ولم يعد لديهم إلا ذكريات معارك، براميل، جثث وشهادة أحد الأقارب أو الأصدقاء. هؤلاء يعيشون على الذكريات المصنوعة من دماءٍ أريقت أمامهم، وينطلقون منها كإثباتٍ لفعلهم الثوريّ الذي انتهى فعلياً، لكنهم مصرّون على تحويل لحظاتهم تلك إلى أوسمةٍ وتقارير إعلاميةٍ عن نضالهم، ويمنحون أنفسهم كلّ الحرية والحقّ في اتهام الآخرين وتوزيعهم ضمن خانات الثورة التي تتنوّع ما بين النضال، والارتزاق، والانتهازية، والخيانة.... إلخ.

لدى المغامرين، دائماً، إحساسٌ بأنهم مميّزون جداً، وأنه لا يمكن استبدالهم إطلاقاً، وأن الثورة بدونهم لن تكتمل أبداً!. الثورة ليست في حاجةٍ إلى كائناتٍ لا يمكن استبدالها، الثورة متغيرةٌ دوماً. وهنا يقدم المناضل الذي يقف في منتصف الطريق بين الكائن الذي ليس له من بديلٍ وبين الكائن الذي يمكن استبداله بغيره: إنه يخدم، هذا كلّ شيء.

 

ملاحظة:

النصّ مستمدٌّ من قراءةٍ لجان بول سارتر "صورة المغامر".

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard