info@suwar-magazine.org

عن أقنمة الثورة

عن أقنمة الثورة
Whatsapp
Facebook Share

جاد الكريم الجباعي

 

في أوّل مقاربةٍ للحراك الشعبيّ في سورية، ربيع 2011، وصفتُ ما كان يجري بأنه "حدثٌ تاريخيٌّ"، زلزاليٌّ، له قبلٌ وبعد، ومن ثمّ، لن تكون سوريا بعده مثلما كانت قبله. (وكنت واحداً من ثلةٍ من الصديقات والأصدقاء تناقشنا ملياً وتقاربت وجهات نظرنا، وكان من الواجب أن أسمّي أفرادها لولا احترامي لخصوصية كلٍّ منهم ورؤيته وموقفه، وخشية أن أحمِّلهم مسؤولية ما قد أقع فيه من أخطاء). ولم أدخل في تحديد أسباب الحدث، لكي لا أتسرّع في استخلاص النتائج، والانسياق في تيار "التفاؤل الهيِّن" بتعبير ياسين الحافظ، وخشيةَ أن أدخل في جوقة من يُرجعون الحدث إلى سببٍ واحدٍ، أو سببٍ رئيسٍ، من المحتم أن يؤدّي إلى النتائج التي يرغبون فيها، ولا سيما أولئك الذين يعزون أيّ حدثٍ إلى الصراع الطبقيّ، أو الصراع المذهبيّ، السنيّ الشيعيّ، أو السنيّ العلويّ و"تحالف الأقليات"، أو بين "الأمة" والنخبة، وهؤلاء يمثلون تيارين رئيسين في "التحليل السياسيّ"، الأيديولوجيّ والإعلاميّ، على ما في كلٍّ منهما من تلاوين.

كشف ما وصفتُه بالحدث التاريخيّ الزلزاليّ عن انقسامٍ مجتمعيٍّ حادٍّ وعميقٍ، ليس سياسياً بالمعنى الضيّق والحصريّ للعبارة، وليس أيديولوجياً صرفاً، بل انقسامٌ اجتماعيٌّ - اقتصاديٌّ وسياسيٌّ وثقافيٌّ وأخلاقيٌّ، وكشف عن وجود مجتمعين متوازيين في سوريا: المجتمع، ومجتمع السلطة، الذي أسمّيه "المجتمع الموازي"[1] أو المجتمع الحكوميّ، يصلح كلٌّ منهما أن يكون نموذجاً يبيّن درجة الانحراف عن نموذج المجتمع المدنيّ، بصفته نموذجاً معيارياً قوامه ما تحقّق بالفعل في غير مكانٍ من العالم المتقدم أو المتمدّن، بل يبيّن قبل ذلك درجة التمدّن التي بلغتها سوريا، منذ استقلالها حتى عام 2011. والتمدّن معيارٌ أساسيٌّ للتنبؤ بالممكنات التي ينطوي عليها الواقع، على اعتبار أن المستقبل هو ممكنات الحاضر فقط.

في ضوء هذا الانقسام الذي كشفت عنه الثورة السورية السلمية، وهي ثورةٌ فريدةٌ، لا في تاريخ سوريا والعالم العربيّ فقط، باستثناء الثورة التونسية، بل في تاريخ العالم، ومن أهمّ مزاياها أنها زحزحت مفهوم الثورة المقترن بالعنف والإرهاب، وأشارت إلى إمكانية التغيير الاجتماعيّ سلماً، في ضوء هذا الانقسام، تبيّن أن مجتمع السلطة، الذي نواته الجيش والمخابرات، مجتمعٌ معسكَرٌ، وأصوليٌّ، مشكَّلٌ على مبدأ الولاء والبراء، ومبدأ الامتيازات (الإقطاعيّ)، علاوةً على العصبية المُحدَثة المغلفة بسلوفان "القومية العربية" الإحيائية أو البعثية، والتي تقودها رأسمالية المحاسيب (الفلاحية)، كما وصفها حنا بطاطو، في كتابه المهمّ "فلاحو سوريا"، وكان ياسين الحافظ قد سمّاها تأخرالية. هل هذا إزراءٌ بالفلاحة؟ أجل، الفلاحة غير الزراعة الحديثة، والعمل الاجتماعيّ ذو البعد الإنسانيّ غير الكدح. منطق العمل الاجتماعيّ غير منطق الكدح، وثقافته وقيمه غير ثقافة الكدح وقيمه.

هذا المجتمع الأصوليّ المعسكر بنظامه التسلطيّ، أو السلطانيّ المحدث، كان متأهباً دوماً للحرب على المجتمع. والحرب شكلٌ من أشكال "السياسة الثورية" والسياسة السلطانية، إن لم تكن شكلها الرئيس. وكان لهذه الحرب بوادرها الباكرة، منذ عام 1964، وأشكالها العسكرية المتواترة، التي بلغت ذروتها في أحداث حماة (2 شباط 1982)، علاوةً على أشكالها الأيديولوجية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والأمنية، مثلها في ذلك مثل الحروب التي شنتها السلطات الشمولية على مجتمعاتها، في غير مكانٍ من العالم، منذ ظهور النازية والفاشية وصولاً إلى الشيوعية السوفييتية والثورة الثقافية في الصين وعبادة كيم إيل سونغ. (راجع/ي، حنة أرندت، أسس التوتاليتارية).

وكان من البديهيّ أن يبادر مجتمع السلطة، الذي تحوّلت أيديولوجيته (= ثقافته وسياسته = شعاراته) من الثورة إلى "الصمود والتصدّي"، ثم إلى "المقاومة والممانعة"، إلى ضرب الحراك السلميّ "بيدٍ من حديدٍ"، وفقاً لطبيعة علاقته بالمجتمع (الأهليّ)، وأن يباشر ثورته المضادة التي تتسق مع سياسة حلفائه الإستراتيجيين: إيران وروسيا الاتحادية وفنزويلا شافيز وحزب الله الذي يحتلّ لبنان نيابةً عن الإيرانيين، وغيرهم، وتتسق من الجانب المقابل (الداخليّ) مع أيديولوجية الأحزاب التقليدية، سواءً منها أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية أو انشقاقاتها وشظاياها المعارِضة، التي سارعت إلى احتواء الثورة والتنطع لقيادتها، بالتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في سوريا. فقد أدركت هذه الأحزاب والقوى بحدسها النفعيّ أن الثورة السلمية ثورةٌ عليها أيضاً، ولا سيما أن بعض "رموزها" و"قادتها" ممّن يلعبون بالبيضة والحجر.

 

 

إذا كانت هذه المقدّمات صحيحةً أو معقولةً، فإن الثورة، منظوراً إليها على المدى القصير، قد أُجهضت وغدت من الماضي القريب، (بدلالة الاحتفاء بالذكرى الرابعة للثورة، كما عنون أحدهم مقالته أو مداخلته مؤخراً على صفحة "حوار الجمهورية" على الفيس بوك)، وكان مصير قادتها الفعليين، غير المكرَّسين وغير المعترف بهم، ومصير ناشطاتها وناشطيها مأساوياً، وكارثياً على المجتمع. فقد توزّعن وتوزعوا بين المقابر والمنافي والمعتقلات، وبين العمل الإغاثيّ، في الداخل، والإعلاميّ والثقافيّ في الخارج. ولا شك في أن كثيرين ممّن سمّاهم مصطفى حجازي "شباب الظلّ" المهمّشين والمقصيين من الحياة الاجتماعية القائمة على التراتب القيميّ، قد التحقوا بالجماعات المسلحة، على اختلافها، لأسبابٍ شتى، قد تكون مبادئ الثورة أقلها شأناً، إضافةً إلى الذين التحقوا من هؤلاء بميليشيات السلطة وكتائبها، للأسباب ذاتها، عدا مبادئ الثورة، أي الحرية والكرامة الإنسانية، والاستقلال الذاتيّ والمساواة في الحقوق المدنية والسياسية.

ولكن تداعيات الحدث الزلزاليّ، أو تداعيات الثورة، منظوراً إليها على المدى المتوسّط أو البعيد، مستمرّةٌ، أهمّها يجري تحت، تحت سطح الواقع المنظور، تحت الدمار والخراب المتعدّد الأبعاد، وبعضها صار منظوراً وقابلاً للملاحظة والقياس، كالاستضافة، أو حسن الوفادة، والتفاعل الإنسانيّ، الذي يؤسّس لمواطنةٍ مؤنسنةٍ، على نحو ما نظَّر لها الفيلسوف الألمانيّ، كانط، مع الفرق، لأن الوافدين، هنا، هم وهنّ ممن يفترض أنهم مواطناتٌ ومواطنون تربط بينهم صداقةٌ مدنيةٌ، لا شخصيةٌ، باعتبارهم من أبناء الوطن وبناته وأعضاء أصيلات وأصلاء في المجتمع والدولة. إضافةً إلى انتظاماتٍ وتنظيماتٍ ومؤسّساتٍ نشأت سرّاً في الداخل وعلناً في الخارج، هي تباشير مجتمعٍ مدنيٍّ ممكنٍ، وإلى أعمال الإغاثة المتعدّدة الأشكال، التي تؤسّس لنوعٍ من الثقة الاجتماعية والتعاون والتآزر.

ما نحن فيه اليوم ليس الثورة، بل وجهان من وجوه التاريخ، الوجه الأوّل هو الحرب، وهذه، في حالتنا، هي "مكر التاريخ"، بتعبير هيغل، أو جزاؤه "العادل"، بتعبير ياسين الحافظ، جزاءٌ عادلٌ للتأخر والاستبداد. والوجه الثاني هو سير التاريخ أو سياقه العقلانيّ، أعني عملية التشكل الاجتماعيّ البادئة بالثقة المدنية والصداقة المدنية بين النازحين والمضيفين، وفي أوساط كلٍّ من الجانبين، عسى أن يكون هناك ما يشبهها بين المهجَّرين والمهاجرين. ثمة قائمةٌ طويلةٌ من الأدلة على ما أدّعيه، وقائمةٌ أقصر بكثيرٍ على نقيضه، وهذه طبيعة الأمور.

الذين لا يريدون أو لا يحبون الاعتراف بأن الثورة أجهضت وانتهت لا يهتمون، أو لا يهتمون على نحوٍ مناسبٍ، بعملية التشكل الاجتماعيّ، التي لا تجري وفقاً للرغبات والأهواء، ولا يولونها عنايتهم، أو لا يولونها على نحوٍ مناسبٍ.. هؤلاء حوّلوا الثورة إلى أقنومٍ، أي إلى مجرّد كلمةٍ مقدّسةٍ أو لفظٍ، يتكرّر في تحليلاتهم وتصريحاتهم لوسائل الإعلام. تحويل الثورة إلى أقنومٍ أو لفظٍ، ورفعها إلى مستوى المقدّس، يعني نزع طابعها التاريخيّ ومحتواها الاجتماعيّ والإنسانيّ، وجعلها معياراً ذاتياً للوطنية والخيانة هو غطاءٌ لمصالح خاصّةٍ عمياء. والمصالح الخاصّة عمياء دوماً إذ استقلت عن المصلحة / المصالح العامة.

ليس لدى النازحين والمهجَّرين والمعتقلين والمنكوبين والمفجوعين ما يشترون به أوهاماً جديدة، بعد أن خبروا صناعة الأوهام وتسويقها، منذ أكثر من نصف قرن.

 


[1] - راجع/ي، جاد الكريم الجباعي، المجتمع المدني والمجتمع الأهلي في سوريا، مجلة عمران المحكّمة، العدد السابع، مجلد 2، شتاء 2014، ص 153.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard