info@suwar-magazine.org

إشارات حول مستقبل الدّيمقراطيّة في سوريا

إشارات حول مستقبل الدّيمقراطيّة في سوريا
Whatsapp
Facebook Share

 

ليست الدّيمقراطيّة وصفة جاهزة يتمّ شراؤها أو استيرادها؛ بل هي عمليّة طويلة، معقّدة وشاملة في الوقت نفسه، ولايمكن اختزالها بالاحتكام لصناديق الاقتراع فقط، والتّجارب القريبة منَّا كسوريّين، كتجربتي لبنان و العراق تثبتان ذلك، فالديمقراطية ليست مسألة حتمية، بل هي نتاج جهد طويل ودؤوب لتفكيك الاستبداد أينما وجد.


بالعودة إلى التّاريخ يمكننا القول إنّه على الرّغم من قِدم التّجربة الدّيمقراطيّة في مدينة أثينا- القرن الخامس قبل الميلاد- إلاَّ أنَّ أنظمة الاستبداد ما فتئت تسود وتتعاقب طوال مراحل التاريخ، وخصوصاً في عالمنا العربي. فالثّابتُ في الشّرق كان الاستبداد، وكلّ ما عدا ذلك كان متحوّلاً إلى حدٍّ ما، الحكّام والأديان والثّقافات، وحتى الشّعوب و الآلهة أيضاً.


فهل يقتصرُ الأمر على وجود إرثٍ تاريخيّ عريق للدّيمقراطيّة في الغرب، تجربة اليونان في زمن الإغريق الّتي تمّت العودة إليها، والاسترشاد بها وبما رافقها من ازدهار للتّفلسف والفلسفة، بما هي إعمال للعقل و للتّشكّك، ومساءلة كلّ البداهات والمحرّمات، ذلك الإرث الّذي ساعدهم على الخروج من عصور الظلمات إلى عصور الأنوار والنهضة؟ وهل يمكن الحديث عن الدّيمقراطيّة في مجتمعات تسود بين أبنائها روابط الانتماء القديمة ،كالعشائريّة والطّائفيّة والعرقيّة، وما ينتج عنها من نظرة تقوم على إلغاء الآخر المختلف وعدم الاعتراف به؟


تعتبر الدّيمقراطيّة بمفاهيمها وآليّات عملها التّضادّ الموضوعيّ للاستبداد والقهر. وقد بدأتْ تظهر الدعوات المناهضة للاستبداد في العالم العربيّ منذ منتصف القرن التّاسع عشر، وإنْ كانت خجولة. ويُعدّ عمل عبد الرّحمن الكواكبيّ" طبائع الاستبداد ومصارعُ الاستعباد" أوّل الأعمال الفكرية أحد أشهرها، التي طالتْ موضوعة الاستبدادومخاطره في عالمنا العربيّ.


بعد سقوط الرّجل المريض وتَحرّر أغلب الدّول العربيّة من الهيمنة العثمانيّة، ظهرت تيّارات فكرية وسياسيّة مختلفة في العالم العربيّ كلُّها تقريباً رفعتْ شعارات الحرّيّة والعدالة والمساواة.

 

لكنّ ما تمّ على أرض الواقع كان مناقضاً تماماً لما هو مرفوع؛ هذا البون الشّاسع بين الطّروحات الفكريّة والسّياسيّة والشّعارات من جهة، والوقائع والنّتائج من جهة أخرى غالباً ما تمّ المرور عليه مرور الكرام، وعوضاً عن تبيان أسبابه الذّاتيّة وتحمّل المسؤولية، مسؤوليّة الفشل.


فهل يكفي القول: إنَّ رفع شعارات الحرّيّة والديمقراطيّة الّتي نراها الآن في زمن الرّبيع العربيّ كفيل باستبدال الاستبداد والتّخلص منه، وبناء دول ومجتمعات ديمقراطيّة؟ وهل يعني زوال أنظمة الاستبداد بالضّرورة ظهور أنظمة ديمقراطيّة؟


   يُستخدم في أدبيات التّحليل النّفسيّ مصطلح "مثال الأنا" وهو مرجعٌ متعالٍ ضمن النّفس، يقوم مع الأنا الأعلى أو من خلالها بدورٍ رقابيّ على الشّخصيّة. وغالباً ما يكون هذا المرجع لاشعورياًّ، أي خارج نطاق الوعي، حيث يتم تشكّلُه في مرحلةٍ مبكّرةٍ من العمر مأخوذاً بصورة الوالدين، ومتأثّراً بسلسلة الآباء الرّموز في الثّقافة السّائدة وفي المجتمع. لاحقاً تطمح النّفس للتّشابه والتّماثل، جزئيّاً أو كليّاً مع هذا المرجع، وتخضع له في الغالب.

 

فلدى المسلمين قدوة يسعى المؤمن للوصول إليه أو الاقتراب منه بالقول وبالسّلوك هو النّبي محمد(ص)، فهو القدوة والمثال، يسعى جميع المؤمنين للسّير على هدي خطاه ومن ثمَّ الصّحابة المشهورين أمثال أبي بكر وعمر وخالد وعليّ وآخرين..

 

ما قادني إلى طرح هذا الموضوع من زاوية الأباء الرّموز هو مشهدٌ استوقفني طويلاً عَرضتهُ إحدى الفضائيّات العربيّة لمظاهرة خرجتْ في موريتانيا عام 2008 تنديداً بالاجتياح والعدوان الإسرائيليّ على غزة، رافعةً صوراً للرّئيس العراقيّ السّابق صدام حسين، ويتكرّر الآن هذا المشهد حيث نشهد مظاهرات عديدة في العالم العربيّ يخرج فيها المواطنين رافعين صوراً لبشار الأسد في مصر واليمن على سبيل المثال تنديداً بما يسمّى العدوان الخارجيّ على سوريا.


قد يقودنا تحليل هذه الظّاهرة إلى كشف النّقاب عن القيم والمُثل الّتي يحملها الإنسان في العالم العربي، فتُسيِّر سلوكه وتؤثّر على مواقفه ونظرته لنفسه وللآخر.


فما هي صورة البطل في عالمنا العربيّ؟ ما هي الصّفات الّتي تجعل منه بطلاً ومرجعاً في أعين الأجيال المتعاقبة ؟ ما هي منجزاته حتّى يتحوّل إلى رمز وقدوة؟ هل هي إسهاماته الإبداعيّة في مجال الفكر والأدب؟ هل هي قدرته العالية على التّسامح وإحقاق العدالة ولو على نفسه؟ هل هي آراؤه وحكمته وإنسانيّته؟ أمْ بطشه وعنفه؟ عناده وصلفه؟ جبروته وقوّته؟


إنَّ تَغيُّر المراجع "الآباء الرّموز" هو ما يدلّ على تَغيّر المجتمعات وتطوّرها، وهو ما يجعلها مؤهلة لبناء ديمقراطيّات حقيقيّة، وليس كمُّ المعلومات والمعارف المُخزَّنة، أو شكل الأبنية وقوّة الجيوش وعدد القنوات الفضائيّة وصناديق الاقتراع. إنَّ ثبات المراجع واستمرار فعّاليّتها يعني ثبات المجتمعات وبقائها على حالها، بغضّ النّظر عن تعاقب الأجيال والأشكال والأسماء. وقد أشارمحمد جابر الأنصاري سابقاً إلى حالة الثّبات الّتي وقعت فيها مجتمعاتنا العربيّة بقوله: إنَّ المسألة ليست في إشكاليّة التّنمية وقضاياها كما يتمّ تداولها في التّقارير الدّوليّة، بل في إشكاليّة تحوّل تاريخيّ لم يُنجز، التّحوّل من المجتمع التّقليديّ ذي النّسيج المتمثّل بالعصبيّات على اختلافها، إلى المجتمع الحديث القائم على المؤسّسات المدنيّة.

 

 ولعلَّ تسليط الضّوء على هذه العلاقة يساعدنا في تفسير الظّواهر المتناقضة الّتي تلمّ بعالمنا العربي بالعموم، وسوريا بالخصوص، ومن هذه الظّواهر على سبيل المثال: الشّعبيّة الّتي حظي بها الحكم العسكريّ في مصر بعد الانقلاب على نتائج صناديق الاقتراع، وكذلك الصّراعات السّياسيّة في صفوف المعارضة السّوريّة بين العرب والكرد على اسم الجمهوريّة، والصّراعات المسلّحة والعنيفة الّتي تقع بين الفصائل المسلّحة العربيّة والإسلاميّة من جهة والكرديّة من جهة أخرى في شمال وشرق سوريا.


وبالنّسبة للنّموذج السّوريّ ضمن ما يُسمّى "دول الرّبيع العربيّ" يغدو الحديث عن مستقبل الدّيمقراطيّة حديثاً شائكاً ومحفوفاً بصعوبات عديدة، نظراً للظّروف الحاليّة الّتي يمرّ بها المجتمع السّوريّ.
حيث أنَّه لابدَّ أوّلاَ من الحديث عن تهيئة التّربة المناسبة لقيام دولة ديمقراطيّة في سوريا، قبل الحديث عن الدّيمقراطيّة نفسها، وذلك يعتمد على تبنّي نهج الاعتراف بالآخر المختلف سواء أكان مختلفاً دينياًّ أو عرقيّاً أو سياسيّاً. فالاعتراف حاجة مُلحّة لدى البشر سواء أكانوا أفراداً أم جماعات وشعوب.


فالمجتمع السّوريّ مجتمع متعدّد الأعراق والطّوائف والثّقافات، وكلّ طرف منها يضمر العداء وسوء النّيّة تجاه الطّرف الآخر. لقد عانت الأقلّيّات الدّينيّة من اضطهاد طويل من قبل الأغلبيّة كما عانى الشّعب الكردي من اضطهاد مماثل من قبل الأنظمة السّياسيّة التي حكمت باسم العروبة ومن قبل النّخبة العربيّة بشكلٍ عامّ.


إنَّ تبنّي سياسة الاعتراف الصّريح والاعتذار والتخلي عن عقليّة التّخوين والتّآمر هي الخطوة الأولى لتهيئة التّربة المناسبة لاحتمال قيام حكم ديمقراطيّ في سوريا بعد قرون طويلة من الاستبداد والظّلم ورفض الآخر المختلف.  

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard