info@suwar-magazine.org

حين يغدو التطوع قيمة كبرى

حين يغدو التطوع قيمة كبرى
Whatsapp
Facebook Share

 

طلاب في المشافي ومراكز استقبال الجرحى

 

*ياسمين مرعي 

 

 كان غارقاً بين كتب الهندسة الميكانيكية حين هاتفه صديقه الذي يعمل في المشفى الوطني بغازي عنتاب قائلا:
"أسامة، لدينا جريح سوري ونحتاج مترجماً " ارتدى سترته وخرج مسرعا قاصداً المشفى.


لم يكن أي منهم يدري ما الذي ينتظره، القصة بدأت باتصال له طابع الصدفة، وصارت لاحقاً تفصيلاً أساسياً في كل يوم يقضونه.


 كان عليهم أن يلتقوا بالكثير من الجرحى بعد هذا الاتصال الذي لم يكن سوى البداية فقط، ليتحول بعد فترة قصيرة إلى فرد من مجموعة تضم اثنا عشر طالباً سورياً من كليات الطب والهندسة المدنية والميكانيكية والاقتصاد.


يقيم أسامة في غازي عنتاب منذ أواخر عام 2009، زار سوريا للمرة الأخيرة في أيلول 2011 ، يقول: "بقيت حوالي شهرين في حماه، وخرجت منها مودعاً في السادس من رمضان خلال الاجتياح، ثم إلى المليحة في دمشق ومنها إلى تركيا مجدداً".


عاد إلى خدمة السوريين مجدداً مع أصدقائه، وصارت أرقام هواتفهم مع مجموعة كبيرة من الأطباء.
لم تكن مجموعتهم خارج إطار الحراك فقد خرجوا في أول مظاهرة في غازي عنتاب في نيسان 2011 أمام القنصلية السورية، وطلبهم القنصل بعد رابع مظاهرة ليتعرف عليهم وعرض الخروج بمسيرة مؤيدة للإصلاحات فطلبوا الإذن للتدخين ثم خرجوا ولم يعودوا.


يضيف داوود قائلاً : "التعاطي مع الجرحى السوريين في البداية كان خارج حيز التصديق، كنا نسعى بأيدينا وأرجلنا، نخلع ملابسنا لأي جريح غرقت ملابسه بالدم، نبقى كمرافقة؛ ظروفنا المادية كانت لا بأس بها، لكننا في الفترة الأخيرة اضطررنا للعمل بسبب تراجع ظروف أهالينا".


عمل أسامة مترجماً لمنظمة أطباء بلا حدود، واضطر لإيقاف دراسته لأنه لم يستطع التوفيق بين العمل والدراسة. ثم عمل في لجنة إغاثة السوريين فيما يخص طلاب الإعدادية والثانوية.
يقول: "بتنا نخجل من أهالينا لأننا لا ننجز؛ فنحن خلال العامين الماضيين كنا ننام في المشافي، لا نحضر محاضرات ولا ندرس، نحضر للامتحانات  قبل يوم أو اثنين من تاريخ الامتحان. لكن تغيير قانون الفصل من الجامعات ساعدنا في البقاء، وأنا لا أدري إن كنت سأكمل، فأنا لا أستطيع الدراسة وأشعر أني أكره كتبي... عشت مع أصدقائي ظروف تضحية لم أعرف مثلها من قبل، كنا ومازلنا نجمع المبالغ  من بعضنا، مبالغ لا تتجاوز العشر ليرات تركية، إلى أن تصبح بالقدر الذي يمكن أن تفكّ فيه حاجة أحد المصابين. لقد كنا من أوائل من أدخل أكياس الدم إلى سوريا بفضل هذه التبرعات البسيطة".


في رده على سؤال صور له عن أكثر حالة أثرت به قال: "ما فعله أحد أصدقائي، كان بجيبه حوالي 150 ليرة، اتصلوا به من أحد المشافي فخرج منه دون أن يخبرنا، بقي بصحبة المصاب 15 يوماً ولم يخبرنا إلا بعد أن عاد ولم يترك له حاجةً إلا قضاها مع أنه لا يعرفه ولا يعرف اسمه، هو فقط سوري مثله".


لم يدخل أسامة يوماً إلى غرفة برادات الموتى، لأنه لم يتمكن من ذلك، فلديه حالة دوار وراثي من المشافي، وما يسمى بـ"فوبيا الدم"، ورغم ذلك لم يتوانَ يوماً واحداً عن الذهاب لمساعدة الناس. وفي أحد الأيام التي اضطر فيها للبقاء وحده في المشفى كان هناك ثلاثة مصابين أحدهم انفجر فيه صاعق... أربع ساعات وداوود معهم من طابق إلى آخر، مع أنه عادة ما يدخل 5 دقائق ويخرج ليدخل غيره، لكنه لم يتمكن يومها من الخروج ولو للحظة لأنهم كانوا ثلاثة، وحين انتهت معاينتهم ووصل أسامة إلى بهو المشفى سقط  مغشياً عليه لأكثر من نصف ساعة.

 

يشير أسامة إلى أن معاملة الكوادر كانت ممتازة في البداية، وكانوا يقولون: " إخوتنا السوريين" عن كل المصابين الذين يفدون إلى المشافي، وكان وجود داوود ورفاقه كطلاب يزيد الظرف إيجاباً  كون الطالب له احترامه في تركيا، وقد أسهم تواجدهم مع المرضى في تسهيل التواصل بين المرضى والأطباء لقيامهم بإيضاح ظرف الجرحى من حيث الإصابة بأمراض كالسكري وغيره قبل التعرض لإصابة الحرب،  لكن الأتراك في الفترة الأخيرة تعبوا وملّوا من المشاكل بين السوريين في المشافي، فهناك جرحى يتعاركون بسسب انتمائهم لكتائب مختلفة، ويتبادلون التهم والشتائم في المشفى وتصل الأمور بينهم حد الضرب، وهناك من يتعامل مع الأطباء بلغة (أنت مجبر على علاجي).

 

ورغم كل الظروف القاسية التي عانى منها داوود ورفاقه إلا أنهم لم يخذلوا مصاباً، فمن لا يتمكن من الذهاب يخبر الآخرين، مع أنهم وصلوا لمرحلة لا يملك أحدهم فيها أجرة الطريق إلى المشفى.
حالياً تم تعيين مترجمين برواتب فخف عنهم الحمل قليلًا وبدؤوا يلتفتون لحيواتهم الخاصة، وقد عرض عليهم الدعم من قبل جهات تركية مقابل تجنيدهم لدى هذه الجهات لكنهم أصروا على ألا ينتموا إلا لسوريتهم وإنسانيتهم مستمرين في خدمة أي محتاج لهم .


يعود أسامة إلى الجامعة مجدداً، ولديه ثلاث مواد قديمة ومادتان جديدتان راغباً بتحقيق حلم أبيه بأن يراه مهندساً.
يقول: "باتت ظروف السوريين في غازي عنتاب اليوم أفضل نسبياً مما كانت عليه، سنستمر في العمل، لكني مصمم على توجيه نشاطي نحو الداخل، هناك حيث الكثيرون ينامون بلا عشاء، يضعون أيديهم على أوجاعهم بصمت ويعللون النفس بدواء فد يتمكنون من الحصول عليه. سأتابع من أجلهم ومن اجل أوجاعهم".


في ظل الحرب الدائرة والأعداد الكبيرة من الضحايا والجرحى والمصابين تزداد الحاجة إلى تعزيز قيم التطوع وتقديم الخدمة التي تنم عن وعي وإنسانية ونكران للذات، وتغدو ثقافة التطوع بذلك ملمحاً إنسانياً لافتاً و مهماً ، يحمل من رسائل المحبة والتعاون الشيء الكثير .

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard