الأكاديمية ريم تركماني
ريم تركماني : الأكاديمية والعضو المؤسس في تيار بناء الدولة السورية
*حاورها: دارا العبد الله
1- مع موجة "الضَّربة" الأميركيَّة المُفترضة ضدّ النّظام السّوريّ، وضعف حساسيَّة الرّأي العامّ الغربيّ تجاه المسألة السّوريّة، برأيك ما هي الأسباب التّاريخيّة والحاليّة وراء التّردّد الأميركيّ، وكيف تقيّمين كلّ ما حصل بخصوص الضّربة الأميركيَّة؟
قبل الحديث عن الضّربة العسكريّة، فإنّ الموقف الأمريكيّ تجاه سوريا اتّسم بغياب استراتيجيّة سياسيّة واضحة المعالم، وعكس عدم قدرة الإدارة الأميركيَّة على فهم تعقيدات الواقع السّوريّ. وفي غياب استراتيجيّات سياسيّة واضحة للتّعامل مع أزمة ما، فإن رسم استراتيجيّة عسكريّة قادرة على حلّها هو شبه مستحيل، وضربة عسكريّة بدون استراتيجيّات عسكريّة وسياسيّة للتّعامل مع مرحلة ما بعد الضّربة هي مغامرة كبيرة؛ وبالتّالي فإنّه ليس من المستغرب ما شهدناه من تردّد حيال الضّربة العسكريّة، خصوصاً أنّ تاريخ أمريكا بالمشاركة في الحروب في الشّرق الأوسط سيّء للغاية.
فقد أثبتت أنّها تعرف كيف تبدأ الحروب، لكنّها لا تعرف كيف تنهيها. وهي على الأغلب تترك المجتمع بعد تدخّلها العسكريّ مقسوماً على نفسه بين غالبٍ ومغلوب، ممّا يترك هذا المجتمع عرضة لنزاعات محلّيّة طويلة الأمد تعجز عن إنهائها. هذا عدا عن كون تدخّلاتها السّابقة قد خدمت مصالح بعض خصومها أكثر من مصالحها هي. عندما نضيف إلى كلّ هذا تعقيدات الوضع السّوريّ، وموقع سوريا بالنّسبة لإسرائيل، ومنابع النّفط الّتي يُعتبر أمنها واستقرارها أولويّة بالنّسبة لأمريكا، وحقيقة أنّه توجد كتلة بشريّة لا يمكن الإستهانة بها تناصر النّظام، عند أخذ كلّ هذه العوامل بعين الاعتبار، لا نستغرب أبداً التّردّد الأمريكيّ حيال الضّربة العسكريّة.
بالنّسبة لنا في "تيّار بناء الدّولة السّوريّة"، فإن رفضنا للضّربة جاء بالدّرجة الأولى من منطلق براغماتيّ، فعندما درسنا احتمالات مآلات هذه الضّربة، وجدنا أنّها لا تخدم المصلحة السّوريّة، وستؤدّي إلى إطالة عمر الأزمة والنّظام، وخنق فرص الانفراج السّياسيّ. لكنّنا في كلّ الأحوال ما زلنا نرجّح كما فعلنا منذ البداية أنّ الحديث عن الضّربة هو للاستهلاك الإعلاميّ، وتصعيد المواقف لتحقيق مكاسب سياسيّة، لأنّه عندما نظرنا إلى السّياق العامّ للأحداث من منظور سياسيّ بحت رأينا أنّه منذ أن أعلنت روسيا وأمريكا عن رغبتهما في التّوجّه إلى جنيف مرّة أخرى في أيار، فإنّ السّياق الدّوليّ العامّ للتّوجّه نحو الحلّ كان سياقاً سياسيّاً، ولم يحدث منذ تلك الفترة وحتّى بدء الحديث عن الضّربة المحتملة أيّ تغيّر سياسيّ كافٍ لحرف هذا السّياق عن مجراه. والآن بات واضحاً أنّ هذا السّياق لا يزال هو السّياق العامّ، وها هي أمريكا قد صرّحت مؤخّراً أنّه حتّى ما قامت به من دعم للمعارضة المسلّحة، كان الهدف منه الدّفع نحو الوصول إلى تسوية سياسيّة. نحن نقول: إنّ منطق قياس القوّة السّياسيّة بالقوّة العسكريّة لا يخدم تحقيق أهداف الثّورة في الوصول إلى الحقوق والحرّيّات، وهو يتيح للنّظام أن يكون الأقوى سياسيّاً، في حين أنّه برأينا إذا نظرنا إلى الأمور من منظور الاستحقاقات السّياسيّة والمقدرات السّياسيّة، فإنّ النّظام بالتّأكيد هشّ في هذا المجال.
للأسف فإنّ بعض الجهات الإعلاميّة والسّياسيّة الأمريكيّة الّتي وقفت ضدّ الضّربة العسكريّة، استخدمت تشويه صورة الثّورة في سوريا كتكتيك لإقناع الأمريكيّين بعدم جدوى الضّربة، وبأنّ أمريكا يجب ألّا تتدخّل في هذا الصّراع، بل إنّها صوّرت كلّ الصّراع في سوريا على أنّه مجرّد حرب أهليّة لتبرير عدم التّدخّل في الشّأن السّوريّ. لكنّ الحقيقة هي أنّ الصّراع له بعد دوليّ كبير، وأمريكا هي بالتّأكيد طرف فيه، وبالتّالي يجب أن تقوم بمسؤوليّتها من حيث القيام بما يخدم إنهاء هذا الصّراع، لكن بالنّسبة لنا، فنحن نريدها أن تعبّر عن هذه المسؤوليّة بالطّرق الدّيبلوماسيّة والسّياسيّة، وبدعم حقوق الإنسان وليس عن طريق التّدخّل العسكريّ.
2- ما زلتم في أدبيّاتكم في "تيّار بناء الدّولة" تدعون إلى السّلميّة وتنبذون العنف، برأيك هل سيستطيع هذا الخطاب مقاربة واقع أصبحت فيه قطع السّلاح أكثر من البشر؟
خطابنا السّياسيّ تقوده بوصلة المصلحة السّوريّة. وبرأينا فإنّه مهما زادت القوى العسكريّة سواء للنّظام أم للأطراف الأخرى، فإنّ محاولة حسم هذا الصّراع بالسّلاح لن تخدم المصلحة السّوريّة، وستأتي بعكس ما يراد منها. خطابنا ليس محصوراً أبداً بالدّعوة إلى السّلميّة، بل هو يتركّز بالدّرجة الأولى على إيجاد حلول سلميّة وآمنة للأزمة بمشاركة جميع الأطراف، أي بمشاركة حتّى الأطراف المسلّحة. الحلّ السّلميّ مختلف النّضال اللّاعنفيّ السّلميّ وكذلك أساليبه، لكنّ النّضال اللّاعنفيّ يزيد من فرص نجاح الحلّ السّلميّ. الحلّ السّلميّ يعني تسخير العمل السّياسيّ، الدّيبلوماسيّ، المدنيّ والأهليّ لحلّ الصّراع، أي بترجيح العقل مقابل القتل. قد تبدو الدّعوة إلى الحلّ السّياسيّ السّلميّ ورديّة وحالمة، لكنّها في الحقيقة مُغرقة في الواقعيّة؛ فما يحتّم هذا المسار بدلاً من غيره هو استحالة نجاح سيناريوهات الحسم العسكريّ لأيّ طرف، وعندما يفشل السّلاح في الحسم، يكون الحسم بالتّسويات السّياسيّة. وفي الحالة السّوريّة، فإن هذه التّسويات من الصّعب أن تتمّ الآن بدون أن تكون مدعومة بتسويات سياسيّة على المستوى الدّوليّ، تُطبّق بإحكام الحلقة الدوليّة حول الجالسين على الطّاولة السّوريّة، فلا تتيح الفرصة لأيّ منهم باستغلال أيّ انشقاقات على المستويين الإقليميّ والدّوليّ لاستحضار قوّة داعمة مقابل الطّرف السّوريّ الآخر. حتّى الآن فإنّ النّظام هو العقبة الأكبر أمام الحلول السّياسيّة، لكنّه ليس العقبة الوحيدة، وجرّه نحو ميدان الصّراع السّياسيّ لا يكون بتوقّع أن يتّخذ النّظام هذا القرار بمبادرة منه، بل عندما يرى فيه أكثر المخارج أمناً بالنّسبة له. ما يهمّنا في هذا المخرج ليس أمن النّظام، وإنّما أمن سوريا.
3- تقولون في أدبيّاتكم بأَّنَّ كل الأطراف مسؤولة على خراب ودمار سوريا، وأنتِ تعلمين بأنَّ الطّرف الأكثر تنظيماً وعسكرة هو النّظام السّوريّ، هل يصحّ توزيع المسؤوليّة الأخلاقيّة بالتساوي على أطراف لا تمتلك القوّة بالتّساوي؟
نحن حتّى لو قلنا: إنّ هنالك مسؤوليّة على كلّ الأطراف المتحاربة، فإنّنا دائماً نضع المسؤوليّة الأكبر على عاتق النّظام، حتّى عندما يكون الأمر متعلّقاً بتفجير انتحاريّ مثلاً؛ هذا لأنّ النّظام هو الّذي يفترض أنّه مسؤول عن البلد وأمنه. كما أكّدنا مراراً أنّنا لا نضع اللّوم على الأطراف المناوئة للنّظام عندما تستخدم السّلاح للدّفاع عن نفسها وأهلها، لكن عندما يكون اللجوء إلى المواجهة المسلّحة هو قرار مخطّط له وليس مجرّد ردّة فعل، فمن الطّبيعيّ أن يتحمّل من يتّخذ مثل هذا القرار مسؤوليّة ما ينتج عنه. المسؤوليّة الأخلاقيّة لسنا نحن من يضع معيارها، وليست القوّة العسكريّة ميزانها. برأينا النّظام يجب تغييره، والوقوف ضدّه حتّى لو لم يقتل سورياً واحداً. وبغضّ النّظر عن قوّته العسكريّة، فهو نظام استبداديّ قمعيّ متخلّف، وخارج سياق التّاريخ، ولا يمكن أن يصبّ استمراره في المصلحة السوريّة.
4- في ظلّ مجتمع سوريّ متعدّد الهويّات، برأيك ما الشّكل الأنجح للدولة السّوريّة المستقبلة ، هل هي دولة مركزيّة أم دولة لا مركزيّة؟ ما هو تصوّرك حول الموضوع؟
الخصوصيّة السّوريّة واللّحظة التّاريخيّة تستحقّ ابتداع شكل جديد للدّولة في سوريا، ليس بالضّرورة أن يكون تكراراً للنّماذج المتعارف عليها، وقد يقتضي الاستعارة من أكثر من نموذج. بدايةً يجب أن تتجاوز هذه الدّولة مفهوم العلمانيّة؛ بمعنى فصل الدّين عن الدّولة، وتتبنّى منع فرض أي أيديولوجيّة معيّنة سواء دينيّة أو غيرها على الدولة. فحزب البعث على سبيل المثال ادّعى العلمانيّة، لكنّه فرض أيديولوجيّته الخاصّة على الدّولة.
التّنوّع السّوري يقتضي أيضاً أنّ حقوق المواطنة المتساوية التي لا تستطيع أيّ أغلبيّة حتّى لو كانت سياسيّة التّعدّي عليها. هي ضرورة حتميّة للوصول إلى دولة مستقرّة لا تشعر فيها أيّة أقلّيّة بالتّهديد. يجب أن يمنع شكل الدّولة الجديد إعادة إنتاج الاستبداد بأيّة طريقة، وهذا له آليّاته؛ مثل فصل السّلطات، وتثبيت الحقوق، وإقامة الدّولة على أسس ديمقراطيّة دستوريّة ثابتة، يتمّ التّوصّل إليها بشكل توافقيّ، بدون إهمال أيّ مكوّن من مكوّنات المجتمع السّوريّ. وبالتّأكيد لا يمكن أن تقوم الدّولة السّوريّة على المركزيّة في السّلطة، بل يجب إعادة صياغة توزيع التّركيب الإداريّ لقانون الإدارة المحلّيّة بشكل يتيح تمكين المواطنين من انتخاب كامل المجالس المحلّيّة، وانتخاب المحافظين أيضاً، ليكونوا خاضعين لمسائلة النّاخبين. ويجب أن تتمتّع هذه المجالس بحيّز من الاستقلال يمكّنها من اتّخاذ القرارات المنسجمة مع الظّروف المحلّيّة، بما يضمن مساهمة المواطنين في تنمية مناطقهم. هذا الأمر يتطلّب توزيع الميزانيّة المركزيّة المتعلّقة بالقضايا التّنمويّة والخدميّة بشكل عادل بين المحافظات.
التّحدّي الأكبر للدّولة السّوريّة المنشودة سيكون في النّظام الاقتصاديّ الأمثل، القادر على دعمها ودعم استمراريّتها. المشروع الدّيمقراطيّ الحداثيّ يحتاج إلى مشروع اقتصاديّ، لا يدعمه كما يدعم المانح برنامج ما يحبّذه، بل نظام اقتصادي تكون الدّولة الدّيمقراطيّة الحداثيّة في قلبه، ومصالحه من مصالحها، ويكون أيضاً متكاملاً مع مشاريعها. وهذا يتطلّب من دعاة المشروع الدّيمقراطيّ الحداثيّ الكثيرمن التّخطيط والدّراسة، للوصول إلى مثل هذا النّظام. برأيي، فإنّ التّركيز على الاستثمار في رأس المال البشريّ السّوريّ، وخصوصاً في مجال التّعليم الحديث، وتحويل إبداعات هذا الإنسان ومنتوجه المعرفيّ إلى منتج له قيمة مادّيّة قادرة على تحريك الاقتصاد، أي بمعنى آخر الوصول إلى ما يعرف "بالاقتصاد المعرفيّ". سيعطي "الاقتصاد المعرفيّ" الاقتصاد السّوريّ دفعاً كبيراً، ويكسبه مصدراً لا ينضب كما تنضب الموادّ الخام، ولا يخضع للتقلّبات الأمنيّة كما هو حال الموارد الّتي يدرّها قطّاع السّياحة مثلاً.
5- كيف تنظرين إلى دور النّساء في الثّورة السّوريّة؟ وإلى تبدّلات هذا الدّور منذُ انطلاق الثّورة؟
أعتقد أنّه مهمّ جداً، ولعب دوراً حيويّاً جدّاً في الأشهر السّتّة الأولى من الحراك. لكنّ العسكرة أرسلت بالنّساء من الصّفوف الأولى، من فضاءٍ سلميّ يمكنّهنّ من القيادة والإبداع، إلى الصفوف الخلفيّة، من فضاء عسكري هن أوّل من يدفع ثمنه، بل إنّه حول الكثيرات منهنّ من رائدات إلى ضحايا. أنا متفائلة بأن يخلق الدّفع نحو حلّ سياسيّ فضاء أكبر للمرأة السّوريّة، لكي تلعب الدّور الّذي تستحقّه في قيادة مسيرة حراك بلدها نحو التّغيير؛ فاتّفاقات دوليّة مثل اتّفاق جنيف ما هي إلا خطوة أولى في مسار يجب أن نكمله نحن –السّورييّن-. وأختم القول بأنّ "لكلِّ زمانٍ دولةٌ ونساءُ".