حوار مع الكاتب الصحفي والشاعر نارت عبد الكريم

حوار مع الصحفي والشاعر نارت عبد الكريم

                         "أنَّ نقارع الاستبداد ونناضل ضده لا يعني بالضرورة أنَّنا أقل منه استبداداً"

حاوره : بيروز بريك

كنت أحد الناشطين والمثقفين المهتمين بالشأن العام من الشباب الذين واكبوا "ربيع دمشق" وتحركوا بصعوبة ضمن متواليات القمع الموجّه ضد أي حراك مدني أو سياسي ما قبل الثورة /الأزمة السورية وأثناء انطلاقها وخلال شهورها السلمية الأولى. أين ترى نفسك من كل ما يجري الآن من غياب للصوت المدني الديمقراطي، ووصول للقوى المتطرفة إلى حالية فعالية ونمو ضمن مناطق تسمى مُحررة خرجت عن سيطرة النظام؟
 بحكم وجودي خارج سوريا، منذ عامين تقريباً، أرى نفسي كمراقب ومتابع للوضع السوري وبعيد عن الشأن العام، منكفئ على مشاريعي الفردية في عالم الشعر والكتابة، وربَّما ذلك ما سمح لي برؤية الواقع بقدر أكبر من الحيادية والموضوعية. أمَّا بالنسبة للشق الأول من السؤال والذي يتمحور حول غياب الصوت الديمقراطي وظهور قوى متطرفة وخصوصاً في المناطق (المُحررة)، فذلك ليس بمستغرب نظراً للصعوبات التي واجهت الثورة وناشطيها في سوريا خلال أعوامها الثلاث، من عدة جهات:
قمع النظام الوحشي والمتواصل، تخلي المجتمع الدولي عن مسؤولياته، تفكك المعارضة وهزال أدائها، وأخيراً ظهور الجماعات المتطرفة في المناطق المحررة.
إنَّ فشل المعارضة السورية، التي قدمت نفسها كممثل للثورة ومتحدث باسمها، في إدارة الصراع الدائر، وتقديم نفسها كبديل مناسب في حال سقوط النظام، هو السبب الرئيسي في ظهور تلك التنظيمات المتطرفة في المناطق المحررة، بالإضافة إلى تخلي المجتمع الدولي عن مسؤولياته في حماية المدنيين.

 ضمن خارطة الصّراع السّوري المتعدّد الأوجه والرّؤوس والإرادات أين يقبع مشروع الدّولة المدنية الديمقراطية برأيك؟ هل كان السوريون الذين ثاروا بغية إحراز تغيير حقيقي حالمين وطوباويين؟ أمْ أنَّ الإرادة السورية استلبت على مراحل، وبات اللّاعب الدّولي مسيّراً ومجيّراً لعناصر الصّراع ومناطقه؟
هنالك عدة تحولات حصلت في العالم خلال العقدين الآخرين – وجاء الربيع العربي محصلة طبيعية لها - وإنْ بدا ظاهرياً أنّ المواطن العربي، عموماً، لم يكن مشاركاً فيها أو متأثراً ولكنه كان على الاقل مراقباً لها وعلى علم بها. منها سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي واندلاع الثورات الملونة في دول المعسكر الشرقي وترافق ذلك مع غزو الفضائيات للعالم العربي الذي ساهمَ بدوره في تحرير الخيال، فحتى الخيال كان تحت سيطرة وتحكم الدولة، بأجهزتها الأمنية والثقافية والتربوية، أو في أحسن الأحوال كان يرتع في الماضي والتراث. والحدث الأهم كان اكتشاف العالم الافتراضي وما قدمه من امكانات لامتناهية لمستخدميه، عبر الانترنت ووسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، حيث تذوق المواطن العربي، ولأول مرة، طعم الحرية، حرية التعبير قولاً وكتابةً ورسماً، قبولاً ورفضاً، لقد سقطت جدران كثيرة وزالت حواجز صعبة، حواجز المكان والزمان والمكانة الثقافية والاجتماعية، في هذا العالم الافتراضي. بالإضافة لِمَا قدمتها تلك الوسائط من فرصة للإنسان العربي لكي يعبر عن نفسه بلغة الأم، أي باللغات العامية بعيداً عن اللغة الفصحى وقواعدها الصارمة.

وتراجع بسبب ذلك دور الأب الواقعي وتبدل إلى حد كبير موقع المراجع، حيث غدا، على سبيل المثال، "غوغل" مرجعاً يلجأ إليه الإنسان وحتى الطفل بدلاً من اللجوء إلى والديه وممثلي السلطة من رجال دين ومثقفين وساسة أو الاكتفاء بالمصادر التي تتيحها له الدولة.
فالحلم قد تحقق، من حيث المبدأ، في هذا العالم الافتراضي، حلم المساواة والعدالة في الفرص وحرية التعبير والتواصل، والقدرة على الوصول إلى المعلومات. وتساوى في هذا العالم الافتراضي المُتعلم والأمي، المثقف والجاهل، الغني والفقير، الكبير والصغير، المرأة والرجل، ولم يتبقَ إلاَّ تطبيق هذا الحلم على أرض الواقع ومن أجل ذلك قامتْ الثورة ومازالت مستمرة وسوف تستمر، إنَّها مثل كرة الثلج التي تشكلت على قمة الجبل ولن تتوقف حتى تصل إلى الأسفل حيث الواقع المُعاش. ومن جهة الصعوبات التي واجهت الثورة في سوريا فهي عائدة في جزء منها أيضاً إلى طبيعة النموذج السوري المُختلف عن باقي نماذج الربيع العربي، حيث المجتمع المتعدد الطوائف والأعراق، والنظام الشمولي الذي عمل طوال عقود على وأد الحياة السياسية بالكامل والسيطرة على كل مفاصل الحياة في البلد، بالإضافة إلى موقع سوريا في لعبة المصالح الإقليمية والدولية.

مع دخول المعارضة السورية - في عمومها-  لميدان التمثيل والمجالس والهيئات والصفقات مع الدول الداعمة وفقدان شخوصها لبريقهم الثوري والنضالي الجاذب، هل تعتقد بإمكانية قيام قوى شبابية جديدة قادرة امتلاك الجاذبية والحضور المُقنع – على أقل تقدير– تمهيداً لسد الفراغ الحاصل سياسياً؟
أنَّ نقارع الاستبداد ونناضل ضده لا يعني بالضرورة أنَّنا أقل منه استبداداً، وغالبا ما يضمر ذلك الهوس بمحاربة المستبد، تحت يافطة الديمقراطية والحرية، طمعاً بالسلطة ورغبة بالتفرد بها، وذلك ما أشار إليه محمود درويش في إحدى قصائده:
سنصير شعباً، إنْ أردنا، حين نعلم أنَّنا لسنا ملائكة، وأنَّ الشر ليس من اختصاص الآخرين.
فمعظم الحركات السياسية التي نشأت في عالمنا العربي في العقود الأخيرة كانت ذات طابع استعراضي، وتجلى ذلك في الفرق الشاسع بين شعاراتها وبرامجها من جهة وسلوكها على أرض الواقع من جهة أخرى. وأداء المعارضة السورية في سنوات الثورة كان خير دليل على ذلك.  
أمَّا بالنسبة لزوال حالة الانجذاب إلى ذلك البريق الثوري والنضالي لجيل الآباء من المعارضة السورية، فهو بحد ذاته دليل تعافٍ وتقدم تشهده الساحة السورية، فالثورة بحد ذاتها ليست فقط صراع ضد نظام الحكم بل أيضاً وبالآن عينه، هي تعبير عن صراع الأجيال، ورغبة جيل الشباب بتجاوز الماضي بكل جوانبه، برموزه وقيمه وشخوصه. والطريق الوحيد لتحقيق ذلك يتمثل بالقدرة على التعلم من تجارب الماضي والاستفادة من الأخطاء، وتبني قيم جديدة قولاً وفعلاً، ورؤية الواقع كما هو بعيداً عن الأيديولوجيا والمواقف المُسبقة. 

 كأحد المشاركين في بواكير الثورة السورية، ما مدى تقبلك لوجود تسوية سياسية مع النظام في ظل اقتراب انعقاد جنيف 2 ؟ كيف ترى أفق الحل السياسي؟ هل تعوّل على أيّ حلّ عسكري؟
في ظل الظروف والأوضاع التي وصلنا إليها لم يعد من الممكن، على الأقل في المدى المنظور، الحديث عن حلول جيدة ومناسبة، وتراجعت مروحة الخيارات المتاحة، فنحن أمام خيار سيء وأكثر سوءاً، وأي تسوية تساهم في وقف آلة القتل والموت جوعاً ستغدو إنجازاً مهماً. أمَّا بالنسبة للحل العسكري فهو مرتهن بوجود بديل عن النظام وهو ما ليس متوفر لحد اللحظة، فلا أحد يراهن على حصان ضعيف.
 اشتغلتَ على كتاب "سوريا بين البوعزيزي و15آذار" وهو عمل مشترك مع الصحفي السوري عامر مطر، الذي سيصدر قريباً بلغات ثلاث، لم اخترتَ تلك الفترة الزمنية القصيرة السابقة للحدث المفصلي؟ هل كانت غايتك توثيق الإرهاصات والعوامل المباشرة للثورة السورية؟ ما مدى الاستقصاء الذي قمت به، وهل تعتبر الجهود التي بذلتها مع شركائك في العمل كافية وأعطت تلك الفترة حقها في البحث والتوثيق؟
ما نسعى إليه من خلال هذه العمل هو تغطيه وتوثيق تلك الفترة الغامضة من تاريخ سوريا، الفترة الممتدة ما بين الحدين والحدثين الفاصلين، أي ما بين 17/ ديسمبر/2010 "حادثة البوعزيزي" وصولاً الى 15/ مارس/ 2011 "مظاهرة الحميدية". وهي وإنْ بدتْ فترة قصيرة نسبياً بمعايير الواقع إلاَّ أنَّها فترة زمنية طويلة وطويلة جداً إذا ما تم النظر إليها بمعايير العالم الافتراضي. إنَّ رحلة الناشطين السوريين، ناشطي البدايات، ضمن العالم الافتراضي وما قدمه لهم من إمكانات وقدرة على اكتشاف ذواتهم وإمكاناتهم بالآن نفسه تستحق التوقف عندها وتوثيقها، بالإضافة إلى أنَّ العمل يسعى للإجابة على عدة أسئلة واستفسارات جوهرية منها:
1-  هل كانت الثورة السورية نِتاج فعل واع مُخطط له، وتراكم جهود متضافرة، أمْ أنَّها مجرد رد فعل وتقليد أعمى لِمَ سبق؟ أمْ أنَّها مجرد مؤامرة خارجية كما ادعى النظام السوري؟
2-  كيف تلقى الشارع السوري عموماً والنخبة السورية خصوصاً، ناشطين ومعارضين ومثقفين، حادثة البوعزيزي وما تلاها من اندلاع الثورات في تونس ومصر - وما نتج عنها من هروب بن علي وتنحي مبارك – وليبيا واليمن وكيف تفاعل مع كل ذلك؟ وعلى أي مستوى بدأَ ذلك التفاعل والتأثر؟
3-  هل كانت هذه الفترة المُشار إليها آنفاً فترة سكون وصمت، ترقب وانتظار، أمْ فترة تحضير ونشاط وفعالية؟ وأين بدأَ ذلك النشاط ومتى وكيف وفي أي مستوى؟
4-  من هم أولئك الفاعلين والناشطين الذين ساهموا في الوصول إلى ما وصلنا إليه وما هي مصائرهم الآن؟
5-  من جهة أخرى، من ضفة النظام السوري، كيف تلقى حادثة البوعزيزي وما تلاها؟ ما هي الخطوات التي قام بها لحماية نفسه؟
6-  كيف استفادَ السوريون من التقانة الحديثة في مجال الاتصال والإعلام وما مدى توظيفهم لمواقع الاتصال الاجتماعي في تثوير المجتمع وتفجير طاقاته؟.