info@suwar-magazine.org

في حضور مفاوضات غائبة

في حضور مفاوضات غائبة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

ريدي مشو

 

قبل الحديث عن أية مجريات محتملة للعملية التفاوضية، لا بد من توضيح مفهوم المفاوضات نفسه، وما ينبثق عنه من استحقاقات، وكذلك الخطوات السابقة على الدخول في العملية التفاوضية، حتى يمكننا فهم الأبعاد السياسية لأي مجريات تفاوضية.


فما هو التفاوض كمفهوم وما هي الخطوات التي يجب أن نتّبعها كي نصل إلى مرحلة التفاوض؟

 

حينما يسعى طرفان إلى التفاوض فهذا يعني أنهما ضمنياً ملتزمان بمجموعة من المبادئ والمسلمات التي تخص العملية التفاوضية، أي ينبغي على كل طرف الاعتراف بمجموعة من مطالب الطرف الآخر، وهذا الاعتراف من شأنه أن يضفي الشرعية على الطرف الآخر، وهو أمر في غاية الحساسية والأهمية وتترب عليه نتائج سياسية واجتماعية كبرى، لأن الاعتراف يظهر الطرف المُعترف وكأن يعمل ضد مصلحته ومطالبه! وهذا قد يكون صحيحاً فعلاً، فالجلوس على طاولة المفاوضات يعني الاعتراف بالآخر وأنه سيأخذ جزءاً من مطالبه ويتنازل عن مطالب أخرى.



وهذه التنازلات وإضفاء الشرعية على مطالب الخصم- العدو هي من أهم شروط التفاوض، حيث لن يبقى العدو عدواً بالفعل إن تواجد على طاولة المفاوضات، وإلا لن يكون هناك جدوى من المفاوضات. المفاوضات الناجحة والتي يمكن ان تطبق نتائجها وقراراتها على الأرض هي التي يخرج منها الطرفان بمجموعة حقوق، أما مفاوضات الخاسر والرابح فلا يكون هناك التزام مستمر بالنتائج، والأزمة ستبقى قائمة وتزداد تعقيداً بحيث تؤجل أو تلغي احتمالات تفاوض مستقبلي.

 

 

يبدو لنا أن المفاوضات تقف عقبة في وجه القيم، الالتزامات الاجتماعية، الوطنية والثورية، وهذا صحيح بدوره، فالمفاوضات هي وسيلة لتهذيب كل هذه الاندفاعات العاطفية -العدائية وتقليل المخاطر الناجمة عنها، من أجل حماية فرد العائلة المتبقي من كامل عائلته المقتولة، ودفعه نحو العملية الإنتاجية والتنموية للمجتمع عوضاً عن جعله يقارع الواقع ويقاتل طواحين الهواء مدفوعاً بالانتقام، مما يجعله غالباً ينفذ  مخططات تتجاوزه.


ما يفيد أكثر في المفاوضات هو الإيمان بالحل التفاوضي قبل الجلوس مع الطرف الآخر، وكذلك الاستعداد النفسي والمعرفي لمجريات التفاوض.

 

إذا اسقطنا هذه الرؤية على المشهد السوري فما الذي سنستنتجه؟ أولاً المفاوضات في سوريا لا يمكن حصرها بين طرفين متمايزين كلياً، وأقصد هنا أنه ليس هناك جهتان واضحتان في المفاوضات سواء من جهة النظام أو من جهة المعارضة، بالرغم من وجود توافق على وجود هاتين الجهتين دولياً على الأقل، وفي الناحية الأخرى هناك مستوى مختلف من التفاوض في الشارع السوري بين القوى المعارضة السياسية – العسكرية، وبين التيارات السورية الأخرى. إذاً نحن أمام شبكة متداخلة من المفاوضات التي تتباين أولوياتها فيما يتعلق بالشأن السوري، ويمكنني أن أسمي المشهد بفسيفساء المفاوضات السورية.


جرت منذ أمد قريب مفاوضات سياسية في جنيف بين قوى المعارضة وممثلي النظام السوري، هذا ما بثته القنوات التلفزيونية والجهات الراعية لها، لكن هل كانت هناك مفاوضات حقاً في جنيف؟

 

إذا انتبهنا إلى التصريحات التي تصدر عن طرف النظام وطرف المعارضة، نستنتج أن المفاوضات ليست أكثر من مؤتمر إعلامي لما يقال منذ سنوات بخصوص الأزمة، فالاتهامات مستمرة فيما يتعلق بالإرهاب والانتهاكات والتآمر الخارجي! طرف يدعو إلى تشكيل حكومة انتقالية وغايته هو حذف الطرف الآخر من المعادلة وطرف يدعو إلى حل ملف الإرهاب وهو يعني بذلك حذف قوى المعارضة من المعادلة، ومع ذلك يقال بأن المفاوضات جرت في جنيف!

أحد المشاهد المضحكة – المبكية في هذه اللقاءات كانت حينما بدأت الاتهامات المتبادلة في مذبحة معان التي وقعت في ريف حماة، فعندما قال النظام إن قوى المعارضة قد ارتكبت هذه المذبحة، ما كان من أحد الشخصيات المعارضة من الوفد المفاوض إلا أن تلكأ في الرد على الاتهام ثم قال: «وماذا عن البراميل التي تسقط على رؤوس المدنيين في حلب»! وكأنه بهذا الرد دافع عن المجموعة التي ارتكبت الجريمة، وآخر قال بأن الفاعل هو عصابات الأسد التي تعمل تحت اسم المعارضة وكأن هذا الجواب أفضل من الأول!

 

هنا يحق لنا التساؤل حول مدى جاهزية وفد المعارضة المفاوض، وهل تدرب على أمور التفاوض وأسلوب الحديث في المؤتمرات الصحفية التي تجرى على هامش المفاوضات؟ بالطبع لا استثني وفد النظام كذلك من هذه المساءلة، خاصة بعد الاطلاع على أجوبته التي لا تتعدى الفقاعة اللغوية التي ينطق بها في كل حين، ألا وهي: «وقت السوريين من دم!»، وهذا لا يعني بأنه على أتم استعداد لحل قضايا التفاوض، والتي لا تستدعي السرعة بالطبع، فاللجوء إلى مبدأ السرعة في المفاوضات ليس إلا كمثل رغبة الأطفال في حل مشاكلهم بغمضة عين.


ما جري في جنيف لا تديره الإرادة السورية لا من قبل المعارضة ولا من قبل النظام، فكلا الطرفين كانا مدفوعين لخوض هذه المعمعة الإعلامية، وهي لم تكن إلا جلسات مقارعة بين الدول الداعمة للطرفين. وبناء على هذا لم تترتب عليها نتائج مفيدة، وتحولت هذه المفاوضات إلى قنوات لتبرير القتل مجدداً كما في المحاولات السابقة.


وحتى لو كانت هذه المفاوضات قد خرجت ببعض النتائج المرغوبة على الجدول التفاوضي، تحت ضغط القوى الدولية وإجبارها للطرفين على التنازل، فهذا لم يكن يعني بأنها نهاية المأساة السورية، لأن التطبيق على أرض الواقع كان سيثير العديد من المشاكل التي لا نهاية لها، خاصة مع نوايا وأفكار وطبيعة الطرفين!

 

 تطبيق قرارات التفاوض، يعني أن كلا الطرفين مسيطران تماماً على عناصرها السياسية – العسكرية، وما نجده على أرض الواقع ليس كذلك، فلا توجد سيطرة مطلقة ولا حتى بنسبة 50 % وخاصة من الناحية العسكرية. فأيّ النتائج يمكنها أن تغير ظروف الواقع وتخلق بيئة جديدة؟ يمكنني القول بهذا الخصوص، ولا أستطيع إلا أن أكون صريحا في رأيي هذا، بأن النظام بقواه السياسية والعسكرية يبقى أكثر قابلية للإلتزام بقرارات معينة إن رغب بذلك، بعكس المعارضة التي تبدو أنه مفككة بشقيها السياسي – العسكري.


ولعل ما يبعث على الضحك في مفاوضات جنيف،  أنه من أهم شروط التفاوض الابتعاد عن أسباب المشكلة والبحث عن الحل، فما حدث قد حدث مهما كان السبب وستبقى النقاشات والدراسات تدور حول أبعاد المشكلة وأسبابها لسنوات، لكن على طاولة المفاوضات ينبغي أن يسود جو الحل في جميع الاقتراحات بحيث يخرج الطرفان راضيان، وهذا ما لن يحدث في جنيف 2 ولا حتى سيحدث في جنيف 10، مادام الطرفان مصرين على استغلال أي منبر ممكن، بما فيه المنبر التفاوضي، للحديث عن مظلمتهما المستمرة من الطرف الآخر.


إذاً، يمكننا القول أنه لا تفاوض دون وجود رغبة حقيقية به لدى كل الأطراف التي تنوي الجلوس على طاولة المفاوضات، واعتراف واقتناع كامل بمفاهيمه وما يترتب عليها من نتائج، وبالتأكيد فمادام كل طرف يسعى لإلغاء الطرف الآخر وإبادته من الوجود فلا أمل في الوصول إلى تلك الرغبة والاقتناع، وكل ذلك على حساب معاناة الشعب السوري وآلامه وخسائره الكبرى التي قد يحتاج عقوداً طويلة لتعويضها.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard