اقتصاد السوق والدولة .. أزمة في بلدان الأطراف
بعيد انتهاء الحرب الباردة، وإعلان دول الغرب انتصار نموذجها السياسي والاقتصادي القائم على الديمقراطية واقتصاد السوق الحر، شهدت معظم دول العالم تحولات في نظمها السياسية بموازاة انفتاح كبير في اقتصادياتها في موجة من العولمة العابرة للحدود. وتم ذلك بدفع من أبرز المنظمات الاقتصادية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد والبنك الدوليين. وهو ما أدى إلى إعادة طرح موضوع متجدد يتعلق بدور الدولة في الحياة اﻻقتصادية ونطاق وطبيعة هذا الدور.
أحمد إلياس
لقد بات دور الدولة بوصفها فاعِلاً أساسياً في صنع السياسات العامة موضع شك بموازاة ازدياد دور العوامل الخارجية والبيئة الدولية في صنع هذه السياسات، وبعبارة أخرى العودة بالدولة إلى مفهوم «الدولة الحارسة» التي تقتصر مهامها على الأمن والقضاء والدفاع. وهو المفهوم الذي نادى به اقتصاديو المدرسة الكلاسيكية منذ القرن السابع عشر. وسنحاول فيما يلي الوقوف على أهم الاسباب الداعية إلى إعادة النظر في دور الدولة، وماهية الدور الجديد للدولة حسب المنظمات الاقتصادية الدولية، وتقييم هذا الدور في ضوء خصوصية اقتصاديات البلدان النامية.
تتعدد الأسباب التي تستند إليها المنظمات الاقتصادية الدولية في دعواتها لإناطة دور جديد للدولة في ظل اقتصاد السوق الحر، وتتجلى أهم هذه الأسباب بما يلي:
أسباب سيــاسية: فحسـبما يرى الفقهــاء النيوكلاسيك فإن عدم تدخل الدولة هو فضيلة سياسية، لأن تصرفاتها غالباً ما تكون غير رشيدة وغير عقلانية. وهو ما يستدعي تجريدها من أدوات تدخلها المالية، ومنح دور أكبر للحكومات والإدارات اللامركزية في سياسات الإنفاق وتوزيع الإيرادات. فمثلاً يرى ميلتون فريدمان، القطب النيوكلاسيكي البارز والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، أن تدخل الدولة في الاقتصاد يقيد الحرية دون أن يحقق الرفاه، بشكل بات أقرب إلى ممارسات العبودية. وأنه يجب التخلص من سيطرة الدولة التعسفية لكي تصبح القوة الاقتصادية رقيباً على السلطة السياسية عوضاً أن تكون داعماً لها كضرورة لتحقيق النمو والحفاظ على التوازن الاقتصادي.
أسباب إدارية: فالدولة غالباً ما تتصرف كصاحبة سلطان. وتلجأ بصفتها هذه إلى إنشاء العديد من الإدارات والأجهزة بهدف تعظيم ذاتها فحسب. الأمر الذي أدى الى خلق جهاز بيروقراطي يعيق العمل والأنشطة المختلفة، وذلك لتحكم إدارات الدولة في مختلف مفاصل الحياة الاقتصادية.
كما أن الدولة بوصفها جهازاً إدارياً تعمل على مراعاة التأثيرات السلبية لقراراتها. بهدف مراعاة المصالح والأراء المتضاربة بحكم تنوع بنية المجتمع وتعدد نسيجه العرقي والطائفي، وهو ما يؤثر على فاعلية القرار. على خلاف اقتصاد السوق الذي لا يستدعي وجود هكذا قرارات أدارية أو تنظيمية، بحسبان أن مصلحة جميع الأطراف تتحقق من خلال آليات السوق وفق المبدأ القاضي أن مصلحة الفرد تؤدي في النهاية إلى تحقيق مصلحة المجتمع.
أسباب اقتصادية: فالتدخل الشمولي للدولة يخالف الغريزة البشرية ومصيره الفشل. ولا أدلّ على ذلك الشواهد الكثيرة في بلدان أوربا الشرقية والعديد من البلدان النامية الأخرى. واستناداً إلى ما سبق من أسباب تذهب المنظمات الاقتصادية الدولية إلى أن الدولة يجب أن تنسحب من الحياة الاقتصادية وأن تقتصر مهامها على تصحيح المسار الاقتصادي والرقابة على السوق في حال عجز آلياته، وتوفير الأرضيات والقوانين المناسبة لتشجيع الاستثمار وخاصة الأجنبي، مع إمكانية أن تقوم الدولة بالاستثمار في مشاريع البنية التحتية وغيرها من المشاريع التي ينأى القطاع الخاص عن الاستثمار فيها لقلة مردودها الاقتصادي. بالاضافة إلى الاهتمام بالنواحي الاجتماعية كالرعاية الصحية والتعليم وحماية البيئة.
ولكن إلى أي مدى يبدو هذا الدور الجديد للدولة واقعياً وفاعلاً في ظروف البلدان النامية وتحديات التنمية التي تواجهها؟ يتوجب التأكيد أن ظروف كل دولة تقتضي اتباع سياسات خاصة بها ودرجة معينة من التدخل الحكومي حسب درجة تطورها ونسيجها الاجتماعي والثقافي وخصوصيات عملية التنمية فيها. إن طرح قضية تغير دور الدولة في البلدان النامية يستدعي الأخذ بالحسبان طبيعة تكوين الدولة في هذه البلدان، والعوامل التي دعت إلى تكثيف حضور الدولة وتواجدها في الشؤون العامة، بغض النظر عن طبيعة نظامها الاقتصادي والاجتماعي.
ففي البلدان المتقدمة أو ما اصطلح الفقه الاقتصادي على تسميته «بلدان المركز» نشأت الدولة على أيدي البرجوازيات التي قادت صراعاً متعدد الأبعاد. فعلى الصعيد الاقتصادي من خلال الدخول في صراع مع الطبقة الاقطاعية، والعمل على زيادة تراكم رأس المال التجاري ومن ثم الصناعي، وعلى الصعيد الاجتماعي من خلال تفكيك مؤسسات النظام الإقطاعي، وعلى الصعيد السياسي من خلال الاستيلاء على السلطة وإيجاد الأطر والعلاقات الكفيلة بتطور الإنتاج الرأسمالي. وهذه العلاقة بين الرأسمالية والدولة علاقة متينة، فالرأسمالية تعتمد على الدولة في وجودها، بينما تعتمد الدولة على الرأسمالية من خلال ما تراكمه من رأس مال، وما يصل إلى العمال من فائض، ولذا فمن مصلحة الدولة توفير الأطر القانونية لعمل الرأسمالية، لأن أزمة الرأسمالية هي أزمة للمجتمع.
أما في البلدان النامية (البلدان الهامشية أو الأطراف) لم تنشأ الدولة عن طريق البرجوازية المحلية، وإنما عن طريق الاستعمار الذي نسخ أجهزة الدولة ومؤسساتها وقوانينها كما هي موجودة لديه بغرض إنشاء إدارة خاصة حسب متطلباته. وعلى الرغم من التوافق والتماثل بين هيكل الدولة ومؤسساتها وقوانينها في البلدان النامية والمتقدمة إلا أن جهاز الدولة في البلدان المتقدمة ينسجم ويتسق مع قاعدة نمط الإنتاج الرأسمالي. وهو أمر تفتقده البلدان النامية. وبعبارة أخرى بينما أنشأت البلدان المتقدمة تحالفاً مع الراسمالية في الداخل فإن البلدان النامية وجدت نفسها أسيرة قاعدة رأسمالية خارجية ترتبط بها بعلاقة تبعية نظراً للعلاقات اللامتكافئة بين الطرفين.
ولذا فقد كان تدخل الدولة في مختلف جوانب الشأن العام في مرحلة ما بعد الاستقلال ضرورة لازمة لإجراء تحولات جذرية في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف تحقيق التنمية والتخلص من نمط التبعية وصولاً إلى الحد من التفاوت الطبقي وتأمين العدالة الاجتماعية. وإن دعوة المنظمات الاقتصادية الدولية لإنسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية بحجة فشلها وعدم قدرتها يتجاهل ضرورات هذا الدور كميراث ثقافي واجتماعي. وهي ضرورات تدركها هذه المنظمات، بيد أنها ترى أن التدخل لايتوافق مع قدرات الدولة وإن انسحابها هو الحل عوضاً عن قيامها بدعم دور الدولة وتقويته، وإذا كانت المنظمات الاقتصادية الدولية ترى ضرورة انسحاب الدولة لضعف قدراتها، فإن من المستغرب أن تنيط بالدولة مهمة الرقابة على السوق وتصحيح مسار التنمية. على افتراض أن السوق الحر لا يعني الفوضى وإنما احترام قواعد اللعبة. وهو أمر صعب التحقيق في حال فقدت الدولة أدوات تدخلها المالية والنقدية. فاقتصاد السوق وإن كان لا يعني الفوضى إلا أن لابد من الإعتراف أن قواعده باتت تحدد خارج إطار الدولة الوطنية، وإنما من قبل آليات العولمة المتمثلة بالاحتكارات الكبرى والشركات متعددة الجنسيات.
واستناداً لما سبق، ومع التسليم بالسلبيات التي أفرزها تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، فإن الأثار الناجمة عن انسحاب الدولة وتخليها عن دورها القيادي في عملية التنمية لا تقل وطأة وسلبية عن التدخل، كما أبرزتها تجارب بعض البلدان، وفي مقدمتها فقدان الدولة لسلطاتها وشرعيتها كأداة للتوازن الاجتماعي لصالح النخب الاقتصادية، الذي أدى بدوره الى نتائج خطيرة كالتوترات الاجتماعية وتضاؤل الطبقة الوسطى وعدم الاستقرار السياسي والاضطرابات الأهلية، إلى درجة هددت بتقويض أسس الدولة وتفككها.