تجربة الإدارة الذاتية في إقليم "تشياباس" المكسيكي
المدارس الآتية من الأسفل: "تعليم لا مؤسساتي، حيث المجتمع هو الفاعل في التعليم"
كتابة: راؤول زيبيتشي
ترجمة وإعداد: عمرو كيلاني
«تشياباس» إقليم مكسيكي تسكنه أغلبية من السكان الأصليين (من أطلق عليهم المستعمرون الغربيون اسم «الهنود الحمر»)، وقد عانى سكانه طيلة قرون طويلة من أسوأ أنواع الاستعباد والظلم، حيث أنتزع الفاتحون الجدد منهم أراضيهم وأجبروهم على العمل فيها كأقنان دون أية حقوق، وتحت أسوأ أنواع التمييز والفصل العنصري.
قاوم أهالي تشياباس هذه السياسيات الممارسة بحقهم بكل الأساليب الممكنة، وكان عام 1994 نقطة تحول مهمة في نضالهم، حيث تم إعلان ما سمي بـ«جيش التحرير الوطني الزاباتي EZLN» الذي تمكن من استرجاع مساحات واسعة من الأراضي المستلبة، وتأسيس حكم ذاتي في إقليم تشياباس عن طريق ما سمي بـ«الحكومة الجيدة».
نالت الحركة الزاباتية شهرة عالمية، وصارت رمزاً عالمياً للثورة والتحرر، بسبب أساليبها المبتكرة في تمكين الناس من إدارة شؤونهم ذاتياً وبأسلوب لا هرمي منطلق من القاعدة الشعبية، وقدرتها على إيجاد حلول ثورية لمختلف المشاكل التي واجهت الناس لدى تسييرهم لشؤونهم الحياتية، في ظل العداء الشديد والحرب المستمرة التي شنتها عليهم الحكومة المكسيكية الرسمية (الحكومة السيئة كما يطلق عليها سكان تشياباس).
في هذا المقال نجد وصفاً مهماً لأهم جوانب تجربة الإدارة الذاتية الزاباتية، وخاصة في المجال الاجتماعي والتعليمي والأسري، ولعل هذه التجربة قادرة على إلهام المجتمع السوري بأفكار وأساليب جديدة لمواجهة الظرف الحياتي الصعب الذي يعيشه السوريون في ظل الحرب وانعدام المرافق الاجتماعية والتعليمة والخدمات الأساسية.
سيكون هناك مرحلة ما قبل المدرسة الزاباتية ومرحلة ما بعد المدرسة الزاباتية. الأولى ظهرت مؤخراً، والأخريات في طور القدوم.
سيكون هناك أثر بطيء، مشتت، وسيكون ملموساً في بعض السنين، ولكنه سيترك أثراً لعقود في حياة أولئك الناس الذين في الأسفل.
ما خبرناه كان تعليماً لا مؤسساتياً، حيث كان المجتمع هو الفاعل في عملية التعليم، تعليم وجهاً لوجه، تعليم بالقلب والجسد، كما يمكن لشاعر أن يقول.
إنه تعليم لا بيداغوجي (لا تربوي) من وحي ثقافة الفلاحين: «اختر أفضل البذار، انثرها في الأرض الخصبة، اسق التربة، لترى معجزة النمو»، وهي أشياء غير مضمونة ولا يمكن التخطيط لها.
المدارس الزاباتية، التي زارها الكثير منا في مجتمعات التسيير الذاتي، كانت لها طريقة أخرى في التعليم، بلا صفوف دراسية أو ألواح، بلا أساتذة وبروفيسورات، وبلا مناهج دراسية وعلامات.
إنه التعليم الواقعي الذي يبدأ بخلق صلات بين مختلف الأفراد المكونين للمجتمع، عوضاً عن الفصل والتمييز بين المربّين ذوي المعرفة والسلطة، وبين الطلبة السذج الذين يحتاجون لغرس المعرفة فيهم.
من بين الأشياء الكثيرة التي تعلمناها، والتي يستحيل اختزالها في سطور قليلة، أريد تسليط الضوء على خمسة أمور، متأثراً لعلّي بما صادفت في الجزء الجنوبي من القارة:
الأمر الأول هو أن الزاباتيين هزموا سياسات مكافحة التمرد الاجتماعية، والتي هي الصيغة المعتمدة والمقررة ممن هم «فوق»، لتقسيم واستمالة واخضاع التجمعات المتمردة.
فبالقرب من كل تجمع للزاباتيين، أوجدت تجمّعات تابعة «للحكومة السيئة»، ببيوت سكانها المصفوفة، وما يتلقونه من المعونات والقسائم، وهم بالكاد يعملون في الأرض.
آلاف العائلات استسلمت نتيجة لذلك، وهو أمر شائع في كل مكان، وقبلت عطايا هؤلاء الذين في الأعلى. ولكن ما هو ملاحظ واستثنائي أن ألوفا غيرها واصلت رفضها ولم تقبل بأي شيء.
أعرف أن لا تجربة في أمريكا اللاتينية، استطاعت إبطال مفعول هكذا سياسات اجتماعية. هذا أعظم استحقاق للزاباتيين، ولم يكن ليكون كذلك لولا الحزم العسكري والوضوح السياسي والقدرة المتجددة على التضحية.
هذا هو الدرس الأول: من الممكن هزيمة السياسات الاجتماعية.
الدرس الثاني هو التسيير الذاتي.
استمعنا إلى خطابات الحركات الاجتماعية المختلفة لعدة سنين، وبعضها قيّم بالتأكيد. ولكن في بلديات ومجتمعات التسيير الذاتي التي شكّلت مجلس موريليا (واحد من أربعة مجالس محلية في تشياباس)، أستطيع القول إنهم تمكّنوا من إقامة إدارة ذاتية في الاقتصاد والصحة والتعليم والحكم. بمعنى آخر، إدارة ذاتية تمثّل جميع جوانب الحياة. وليس لدي أدنى شك أن النجاح ذاته موجود في المجالس الأربعة الأخرى.
في ما يخص الاقتصاد، أو الحياة المادية، فإن العائلات في هذه المجتمعات ليس لها أي اتصال بالاقتصاد الرأسمالي. لديهم بالكاد اتصال بالسوق. فهم ينتجون طعامهم، بما فيه كميات جيدة من البروتين، ويشترون فقط ما لا ينتجونه في متاجرهم (ملح، زيت، صابون، سكر) من محلات الزاباتيين.
ما يفيض عن حاجة العائلة والمجتمع، يحفظ كأرباح، باعتماد أساسي على مبيعات البن، وعند الضرورة، من أجل احتياجات في المجالات الصحية أو العسكرية، يبيعون بعض رؤوس الماشية.
الإدارة الذاتية في التعليم تمثلت في ضبط المجتمع. حيث ينتخب المجتمع هؤلاء الذين سيعلمون أبناءهم وبناتهم وأولئك الذين سيهتمون بصحتهم. في كل تجمع هناك مدرسة، وفي المركز الصحي تعمل القابلات وأطباء العظام والمتخصصون في طب الأعشاب مع بعضهم البعض. يدعمهم المجتمع بالطريقة ذاتها التي يدعمون بها سلطتهم.
الأمر الثالث متعلق بالعمل الجماعي.
كما قال أحد حراس (أو رفاق) المدرسة: «العمل الجماعي هو المحرك». إن هذه التجمعات تملك أراضيها الخاصة بفضل عمليات المصادرة التي تمت، ما كان أساسياً في تشكيل العالم الجديد. رجالاً ونساء كل منهم لديه عمله الخاص، ومساحته الجماعية الخاصة.
العمل الجماعي واحد من أسس الإدارة الذاتية، وترجع ثماره لدعم المشافي والعيادات والتعليم الابتدائي والثانوي، ويساهم في تعزيز البلديات وتحسين اللجان الحكومية.
لا شيء من الأشياء العظيمة التي أسسوها كان يمكن له أن يكون لولا العمل المشترك بين الرجل والمرأة والأولاد والبنات والشيوخ.
الأمر الـرابع، يتعلق بالـسياسـات الثقـافيـة الجديدة، والتي تبدو راسخة في العلاقات العائلية ومنتشرة في مختلف تجمعات الزاباتيين. فالرجال يساعدون في الأعمال المنزلية التي لاتزال هي المهمة الموكلة للمرأة، ويعتنون بالأطفال عندما تذهب النساء إلى أعمالهن. يتضح في علاقة الآباء بالأبناء الرعاية والاحترام، في جو من الانسجام والفكاهة، حيث لم ألحظ مظهراً واحداً للعنف أو الغضب في المنازل.
إن المكون الرئيسي لمجتمعات الزاباتيين هم الشباب واليافعون، رجالاً ونساءً على السواء. فالثورة لا يمكن أن تتحقق بلا الكثير من الشباب، الذين يرفضون الطاعة، وهذا لا جدال فيه. إن الجسد والعمل به، هو واحد من المفاتيح الأخرى للسياسات الثقافية الجديدة.
المرآة هي الأمر الخامس
المجتمعات مرآة مزدوجة، حيث بالإمكان رؤية أنفسنا ورؤية الآخرين كذلك، لا كذات أو آخر، بل الاثنين معاً، نرى أنفسنا ونحن نراهم. في هذا الذهاب والمجيء اليومي، نتعلم بالعمل معاً، نأكل وننام تحت سقف واحد، في الظروف ذاتها، نستخدم نفس المراحيض، ندوس نفس الطين، ويبللنا نفس المطر.
هذه هي المرة الأولى التي تحقق فيها حركة ثورية تجربة من هذا النوع. حتى الآن لا تعدو تعاليم الثوريين سوى أن تكون إعادة إنتاج لقوالب المثقفين الأكاديميين، ضمن تقسيمات عليا ودنيا جامدة.
هذا شيء مختلف كلياً، فهنا نحن نتعلم بجلدنا وحواسنا.
أخيراً، مسألة طريقة وصيغة العمل
ولد جيش التحرير الزاباتي في معسكر اعتقال يمثل نموذجاً للعلاقات العمودية والعنف الممارس من قبل ملاك الأراضي. ولكنهم تعلموا أن يعملوا جنباً إلى جنب، عائلة مع الأخرى سراً، مبدعين نمط عمل جديد للحركات المناهضة للأنظمة.
في كل مرة يبدو فيها العالم معسكر اعتقال، طريقتهم ستكون نافعة لكل أولئك الساعين إلى عالم جديد.