السفيرة: جغرافيا المكان تقتل أبنائها
سامي الحلبي
تقع مدينة السفيرة على مسافة 25 كم جنوب شرق حلب، ويبلغ عدد سكانها حوالي 100,000 نسمة حسب إحصائيات عام 2008، وتعد بذلك واحدة من أكبر مدن محافظة حلب.
يعمل معظم أهالي السفيرة بالزراعة، وقد اكتسبوا خبرة في هذا المجال نتيجة للعمل الطويل في بيئة نائية عمرانياً طالها التهميش طوال عشرات السنين.
السفيرة تاريخياً
اسم السفيرة هو بالواقع تعريب لكلمة «شبرتا» السريانية والتي تعني «الجميلة»، وقد كانت مدينة عامرة بالبساتين والأنهار العديدة، وما زالت فيها آثار قنوات الري القديمة وأماكن تجمع المياه التي تسمى القورات (جمع قوره) وهي كلمة سريانية تعني بركة الماء البارد.
وتعتبر مدينة السفيرة من المدن التاريخية، وتثبت الوقائع التاريخية أن منطقة السفيرة سُكنت منذ عهود قديمة، وقد تكون موغلة في القدم, وتتربع جاثمة على أنقـاض مـديـنـة حـثـيـة آشـورية مركـزها في جوف تـل كبير تحيط به المدينة الحالية إحاطة السوار بالمعصم، وتعود هذه المدينة الأثرية للقرن الخامس عشر قبل الميلاد واسمها «SIPVR».
جغرافيا المكان ترتكب مجزرة بحق ساكنيها
المجزرة الكبرى التي فرضتها الجغرافيا على أبناء السفيرة هي ولادتهم في هذه البقعة الجغرافية المهمشة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ولكن المهمة استراتيجياً لجيش النظام، حيث تضم خمس كتائب دفاع جوي، إضافة إلى وجود معامل الدفاع والبحوث العلمية والتي كانت من أهم النقاط لإنتاج وتصنيع السلاح الكيماوي للنظام السوري، بالإضافة إلى وقوعها على طريق خناصر- حماه، الطريق الوحيد التي استماتت قوات النظام منذ أكثر من عام من أجل السيطرة عليه بعد سيطرة الثوار على جميع الطرق الرئيسية التي تؤدي إلى مدينة حلب، والذي يعتبر الطريق البري الوحيد لإمداد قوات النظام المحاصرة في المدينة.
تعايش أبناء المدينة وريفها مع العاملين في هذه القطع العسكرية لعشرات السنوات بطباع ابن الريف الكريم المحب، يقول أبو فاضل من قرية أم العامود: «منذ عشرة سنوات وأنا أعمل في مطعم صغير، أطعم العسكريين الذين يخدمون الخدمة الإلزامية في معامل الدفاع، كنا نحب بعضنا البعض ولم نعاملهم معاملة الغريب بل كانوا مثل أخوتنا، ولم نتخيل للحظة أنهم سوف يهدمون بيوتنا ويذبحون أبناءنا ويلقونهم في الآبار».
مجازر جماعية بحق المدنيين
وثّق «مركز شهداء محافظة حلب» وقوع 1430 قتيلاً في منطقة السفيرة من بينهم 1022 ذكراً و183 طفلاً و76 طفلة و140 أنثى.
فيما يقول عباس، الناشط الإعلامي في مركز السفيرة الإعلامي، والذي يعمل مع حركة أحرار الشام الإسلامية: «إن أرقام القتلى أكثر بكثير، لأننا غالباً ما كنا ندفن جثثاً مشوهة في مقابر جماعية, هدمت البيوت والمحلات التجارية جميعها بواسطة الجرافات والقصف، ونزح جميع الأهالي خارج المنطقة».
ويضيف عباس لمجلة «صور»: «اتبعت قوات النظام والمليشيات المرافقة لها من إيرانيين وعراقيين ولبنانين سياسة التهجير الجماعي القسري للسكان من القرى القريبة من مناطقها العسكرية، وكذلك من القرى الواقعة على طرق المواصلات الحيوية المؤدية إلى مدينة حلب، كما اتبعوا سياسة الأرض المحروقة في كل قرية يدخلون إليها، حيث قصف النظام المنطقة لمدة سنة كاملة من جبل الواحة بالقرب من معامل الدفاع بمختلف أنواع القذائف، كقذائف الهاون والقنابل الفراغية والمدفعية الثقيلة, كما أن السفيرة أول مدينة قصفت بالقنابل الفوسفورية الحارقة في سوريا، ثم قصفت بجميع أنواع الطيران المقاتل، وسُجل إلقاء حوالي 450 برميلاً متفجراً عليها أدى إلى دمار أكثر من ثلثي المدينة ومقتل 1430 مدنياً موثقين بالاسم، وحوالي الـ7000 جريح».
يضيف عباس : «ارتكب النظام هنا مجازر لم يرتكبها في منطقة أخرى في سوريا، حيث كان يعمد إلى تجميع الناس في القرى وإلقائهم في الآبار أحياء أو بعد قتلهم أو ذبحهم بالسكاكين, كنت شاهداً على مجزرة مروعة في قرية «رسم النقل» حيث أدخل 207 من المدنيين إلى مدرسة في القرية ثم هدمت المدرسة فوق رؤوسهم, كما عثرنا على عشرات الجثث المقطعة الأوصال والمحروقة والتي ألقيت في الآبار على الطرق الواصلة بين قرى المنطقة».
المدنيون بين النزوح الأول ودولة العراق والشام «داعش»
لجأ أهالي المنطقة إلى مدينتي منبج والباب اللتين كانتا هادئتين نسبياً، وأقاموا مخيماُ بالقرب من منبج يكاد يفتقد إلى أبسط مقومات المخيمات، حيث لا صرف صحي فيه، وسط تقصير من الجهات الداعمة وخصوصاً وحدة الدعم والتنسيق التابعة للائتلاف، واليوم بعد سيطرة داعش على مدينتي منبج والباب لجأ الكثير من المدنيين إلى مبايعة داعش اتقاءً لشر مقاتليها وتجنباً لحدوث مجازر أخرى بحقهم، كما غادر الكثير منهم إلى مناطق أخرى كمخيمات تركيا حاملين بذاكرتهم مذابح لا تنسى.
يقول الناشط عباس: «المسلحون في منطقتنا يبلغ عددهم حوالي الثلاثمائة مقاتل مع الكتائب الأخرى من حلب، وقد صمدوا لمدة أكثر من عام في ظل سياسة الأرض المحروقة وجرائم الحرب التي ترتكب يومياً، وسط تقصير من الجميع لنصرة هذا الشعب المظلوم».
مخيمات مسكنة مثال عن واقع النازحين من السفيرة
أجرى عدد من الناشطين دراسة تفصيلية حول واقع النازحين من منطقة السفيرة، ففي مدينة مسكنة على سبيل المثال هناك أربعة مخيمات يبلغ عدد العائلات فيها 2552 عائلة من إجمالي 12760 نازح، وقد لاحظ الناشطون وجود أربعة أولويات أساسية لدى النازحين وهي الغذاء والمياه والصرف الصحي والأدوية, حيث تتوزع 400 عائلة في مخيمات (المزرعة السادسة- المزرعة الأولى- مزرعة البقر- راسم غزالي), في حين توزعت بقية الأسر النازحة وعددها 2152 بين المراكز الجماعية ومراكز إيواء النازحين في المدارس ومنازل الأسر المستضيفة وفي العراء، كما يوجد نقطة طبية واحدة في المنطقة ويوجد فيها طبيب عام وطبيبة نسائية يقومون بإجراء معاينات أسبوعية, والخيام عبارة عن خيام من صنع محلي ذات جودة منخفضة وغير عازلة للبرد والحرارة, ودورات المياه عبارة عن حفر فنية قام بإعدادها النازحون بأنفسهم وتفتقد لأبسط القواعد الصحية والفنية.
يقول الممرض عمر الحسين عن الوضع الصحي: «هناك نقص في أدوية الأمراض المزمنة مثل أمراض السكري والقلب، كما يواجه مرضى السرطان الموت المحتم نتيجة عدم وجود الأدوية المطلوبة وعدم إمكانية الوصول إلى دمشق لتلقى الجرعات المطلوبة لمكافحة السرطان، كما يواجه مرضى الفشل الكلوي نفس المصير لانعدام أجهزة غسيل الكلى وعدم وجود الأطباء ذوي الاختصاص، بالإضافة إلى حالات الجفاف المزمن ونقص الأدوية التي يعاني منها المواليد الجدد. نستطيع تقديم الإسعافات السريعة وإجراء عمليات التوليد، وعدا ذلك نرحّل أي حالة إلى المشافي على الحدود التركية أو إلى مشافي كلس وغازي عنتاب».
أمام هذا الواقع المرير الذي أصاب هذه المدينة، والذي يهدد بأن تنعدم بها الحياة، وهي المدينة التاريخية التي لم تنقطع فيها حياة البشر وعمرانهم منذ ما قبل التاريخ وحتى الآن، هل يمكن أن يعود أبناء المنطقة إليها بعد تدميرها وتهجير وذبح أهلها؟ أم تتحول إلى مدينة أثرية مهجورة كتب على جدرانها: من هنا مرت الحرب السورية.