الاقتصاد والحياة المعيشية
الزراعة في سوريا بين الماضي والحاضر والمستقبل
واقع متعثر ومستقبل غامض
- الملايين قد يواجهون خطر الجوع بسبب الجفاف وتدمير القطاع الزراعي
- قيمة الأضرار التي تكبدها القطاع الزراعي تبلغ 74 مليار ليرة
- 60 ألف دونم زراعي في إدلب لم تزرع بسبب نزوح الفلاحين
(1)
جورج.ك.ميالة
يعتبر النشاط الزراعي في سوريا من أهم الأنشطة الإنتاجية، خصوصا بعد عام 1980 حيث ازدادت مساحة الأراضي المروية بفضل المشاريع الزراعية الكبيرة واستخدام الآلات الزراعية الحديثة وزيادة الاهتمام الحكومي بالزراعة وتطوير البنية التحتية والاهتمام بالموارد المائية، حيث تقدر مساهمة هذا القطاع ما بين 25-30% من إجمالي الناتج المحلي عام 1980.
لعب القطاع الزراعي دوراً مهماً في الاقتصاد القومي السوري حيث تساهم الصادرات الزراعية بنصيب هام في التجارة الخارجية، وتوفير العملات الأجنبية، كما يوفر القطاع الزراعي الكثير من المواد الأولية لمختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية الأخرى. إضافة لذلك يساهم في تشغيل الأيدي العاملة وتوفير العيش لأعداد كبيرة من الأفراد (50% من السكان يعملون بشكل مباشر أو غير مباشر في قطاع الزراعة عام 1980). حيث يحتل القطاع الزراعي المرتبة الثانية بعد النفط من حيث الإيرادات التصديرية في ميزان الصادرات السورية. وخلال العقود الأخيرة الماضية تمكنت الزراعة من تغطية الاحتياجات الناتجة عن زيادة السكان بمعدل أربعة أضعاف، مما حسن درجة الاكتفاء الذاتي من القسم الأكبر من المواد الغذائية الرئيسية وشجع الصادرات التقليدية مثل القطن بالإضافة إلى دخول أسواق تصديرية جديدة مثل القمح والخضار والفواكه.
وتشكل الزراعة %17.6من الناتج المحلي الإجمالي في سوريا حسب تقديرات عام 2010. ويعمل في القطاع الزراعي نحو 17% من مجموع قوة العمل أي قرابة 900 ألف عامل في عام 2010. وتبلغ مساحة سوريا 18,5 مليون هكتار وتشكل المساحة القابلة للزراعة ومساحة الغابات حوالي 6.5 مليون هكتار، أما القسم المتبقي فهو عبارة عن مراع (البادية).
هيئات دولية تحذر من تدهور الأمن الغذائي في سوريا
ذكر تقرير صدر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة «FAO» وبرنامج الغذاء العالمي «WFP» أن الأزمة التي تعيشها سوريا كبدت قطاعها الزراعي خسائر تقدر بـ1,8 مليار دولار أمريكي، كما أوضح التقرير أن الصراع تسبب في دمار كبير للبنية التحتية ونظم الري، وأن المزارعين يواجهون صعوبات في جمع المحاصيل بسبب انعدام الأمن ونقص الوقود.
بالإضافة لذلك تواجه سوريا هذا العام جفافاً حاداً قد يقلص إنتاج القمح في مناطق سلة الغذاء بشمال غرب البلاد إلى مستوى قياسي ينخفض بمليوني طن عن المعدل الاعتيادي.
وأكد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة منذ أيام: «إن ملايين آخرين قد يواجهون خطر الجوع ونقص الغذاء إذا حل الجفاف الذي من المتوقع أن يمتد أثره في أنحاء الشرق الأوسط».
وأوضح أنه: «إذا لم تهطل الأمطار بحلول موسم الحصاد منتصف مايو/ أيار فسترتفع أسعار الغذاء بشدة، وستحتاج سوريا لاستيراد كميات تفوق متطلبات الموسم السابق التي تقدر بنحو 5.1 مليون طن من القمح».
وقالت المتحدثة باسم البرنامج إليزابيث بيرس في مؤتمر صحفي في جنيف: «إن موجة الجفاف قد تعرض حياة ملايين آخرين للخطر».
وأعربت المتحدثة عن قلق البرنامج من تأثير جفاف وشيك يضرب شمال غرب البلاد خصوصا حلب وإدلب وحماة، إذ يقل معدل الأمطار عن نصف الكمية المتوسطة على المدى الطويل منذ سبتمبر/ أيلول. وأضافت: «قد تكون هناك آثار كبيرة على موسم حصاد الحبوب القادم».
كما أشارت المسؤولة الأممية إلى أن ما يصل إلى 6.5 ملايين سوري قد يحتاجون إلى مساعدات غذائية طارئة زيادة على الـ 4.2 ملايين شخصاً المحتاجين للمساعدة حالياً.
وقد حمّلت حكومة النظام المجموعات المسلحة تراجع قطاع الزراعة، حيث صرح وزير الزراعة في حكومة النظام أحمد القادري في نهاية العام 2013: «إن قيمة الأضرار التي طالت وزارة الزراعة وحدها بلغت نحو 27 مليار ليرة بين نهب وتخريب الآلات والمباني والتجهيزات، كما وصلت قيمة الأضرار التي تكبدها القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني خلال العام الماضي إلى نحو 74 مليار ليرة نتيجة خروج بعض المساحات من الاستثمار الزراعي».
واقع الزراعة اليوم:
يواجه القطاع الزراعي اليوم تحديات وعراقيل كبيرة تشكل بمجموعها عوائق تسببت في تراجع وانعدام الزراعة في بعض المناطق من سوريا.
الأسمدة والمبيدات الحشرية:
يقول المهندس الزراعي عدنان الشيخ يوسف:
«جميع أنواع المبيدات الحشرية مستوردة من الخارج، في عام 2011 كان الدولار الواحد يعادل 47 ليرة، وفي عام 2014 يساوي حوالي 165 ليرة، وبالتالي تضاعف سعر الأدوية الزراعية ثلاثة أضعاف، كما أصبحت حركة الاستيراد ضعيفة وتقتصر على الموانئ البحرية ومطار اللاذقية، وبالتالي أصبح المزارعون الذين يسكنون في المناطق المحررة تحت رحمة النظام، والذي لا يقبل ببيعهم المبيدات الحشرية، مما تركهم تحت رحمة المهربين عبر المعابر غير النظامية وتحت رحمة تجار السوق السوداء».
ويضيف: «غالباً تكون المبيدات الحشرية مجهولة المصدر وقد تكون منتهية الصلاحية، ولا نعرف مدى تأثيرها على المواسم وما هو تأثيرها على صحة الانسان على المدى البعيد، نعمد إلى رش المحاصيل بها ثم ننتظر نهاية الموسم حتى نعرف النتائج، كما أن كثيراً من المحاصيل قد ماتت بسبب سوء نوعية المبيدات والأدوية الزراعية».
غلاء المحروقات وقلتها تزيد من معاناة المزارعين:
يعتمد أغلب المزارعين في سوريا على الزراعة المروية، وتسحب المياه من الآبار بواسطة مضخات تعتمد على الديزل كوقود، واليوم تضاعف سعر لتر الديزل أربعة أضعاف ليتجاوز ثمنه المئة ليرة سورية، مما يؤدي إلى زيادة في تكلفة المحاصيل الزراعية، وبالتالي انعكس على ارتفاع سعرها في الأسواق، كما أن قلة المحروقات والوضع الأمني المتردي على طرق المواصلات يزيد من صعوبة الاستمرار في العمل الزراعي.
وقد أكد عضو مجلس إدارة «اتحاد غرف الزراعة السورية» سلمان الأحمد لصحيفة الوطن الموالية للنظام السوري، أن وزير النفط والثروة المعدنية، رفض تزويد المزارعين بمخصصاتهم من المازوت، علمًا أن الصناعي يحصل على مخصصاته الدورية من الوقود عبر «وزارة النفط»، وتوجه الأحمد باللوم الشديد للحكومة بسبب ما أسماه «الإهمال» الذي يتعرض له اتحاد غرفة الزراعة السورية من قبلها.
القصف العشوائي يمنع استمرار العمل الزراعي:
يقول خبراء عسكريون أن 40% من القذائف التي يلقيها طيران النظام غير منفجرة، مما يجعل أي منطقة تعرضت لقصف عشوائي عبارة عن قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجه المدنيين، وخصوصا في مناطق ريف درعا وريف حماه وإدلب.
يروي رأفت من درعا والذي يعمل في زراعة البندورة لمجلة «صور»: «منذ عامين لم أقم بزراعة البندورة في حقلي الذي كنت اعيش من خيراته قبل الثورة، هذا العام قررت أن أعود للعمل في الزراعة، وعندما باشرت بالعمل مع أخوتي انفجرت قذيفة كانت مطمورة تحت التراب أدت إلى بتر ساق أخي الكبير بشير, واكتشفت بعد فترة أن أرضي تعرضت للقصف العشوائي من طائرات النظام الأسدي العام الماضي وحولتها إلى حقل ألغام غير صالح للزراعة.
ويضيف رأفت: «يضاف إلى معاناة المزارعين قلة وجود قطع الغيار للآلات الزراعية، فمعمل حلب لإنتاج الجرارات وقطع الغيار قد توقف عن العمل، والاستيراد قليل جداً، اليوم أي آلة زراعية تتعطل تسبب توقف العمل الزراعي بسبب عدم توفر قطع الغيار».
الصعوبات الأمنية تمنع المزارعين من تسويق المنتجات:
تم توثيق نحو 60 ألف دنم في ريف إدلب دون زراعة عام 2013، إما للأسباب السابقة الذكر أو بسبب نزوح المزارعين بعيداً عن أراضيهم, أما من أسعفه الحظ واستطاع زراعة الأرض وجني محصولها فإنه يواجه صعوبة في تسويق منتجاته بسبب سوء الأوضاع الأمنية على طرق المواصلات. حيث أن صوامع الحبوب التي كان يديرها النظام كانت تشتري المحاصيل من الفلاحين، وفي العام الماضي امتنع النظام عن شراء القمح من المزارعين، كما قامت بعض الفصائل العسكرية كتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) بإجبار المزارعين في ريف الحسكة على بيع إنتاجهم من القمح بأرخص الأسعار.
ولا تقتصر هذه التصرفات على داعش، حيث تمارسها الكثير من الفصائل المسلحة الأخرى التابعة لمختلف الأطراف وبحجج متعددة، يروي أبو شيار لمجلة «صور» وهو صاحب معصرة الزيتون في منطقة عفرين: «في العام الماضي في موسم الزيتون فرضت قوات PYD (وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي) ضريبة على كل صاحب معصرة للزيتون مقدارها 50 «تنكة» زيت، كما فرضت على كل مزارع 10 «تنكات» من الزيت، وواجهت معظم منتجي الزيت والزيتون مشاكل في التسويق منها عدم إمكانية تصدير المنتجات خارج سوريا، وضعف قدرة المواطن على الشراء بسبب تضاعف ثمن كيلو زيت الزيتون أربعة أضعاف».
سرقات طالت الكثير من مؤسسات الدولة:
تسببت المعارك بين الثوار وقوات النظام وامتدادها إلى المؤسسات الحكومية في دمار وسرقة قطاعات واسعة من المؤسسات الزراعية، يقول المهندس الزراعي عدنان الشيخ يوسف: «تسببت حالة الحرب في حلب بسرقة مؤسسة «الأكاردا» والتي تعتبر من أهم مراكز تطوير بذار القمح في الوطن العربي، حيث دخلت بعض الفصائل العسكرية إليها وسرقت كل محتوى المخابر فيها وتم بيعها إلى تجار السوق السوداء، كما سُرقت المؤسسة العامة لإكثار البذار قرب منطقة الليرمون في حلب والتي تحتوي على أجهزة بمئات الملايين، حتى الموازين الحساسة لم تسلم من أيدي السارقين!».
خطط مستقبلية لتطوير وإحياء الزراعة في سوريا:
وضعت مجموعة عمل اقتصاد سوريا خارطة لقطاع الزراعة شخصت فيها المشاكل التي كان يعاني منها القطاع أيام النظام، ووضعت خطة تفصيلية لتطوير وإعادة إحياء عجلة الزراعة بعد سقوط النظام، وجاءت الخطة على ثلاث مراحل وفق الشكل التالي:
خطة قصيرة إسعافية: تهدف إلى توفير كافة مستلزمات الزراعة الحقلية والأشجار المثمرة.
خطة متوسطة: تمتد لمدة سنتين وتهدف لإعادة الهيكلة الإدارية لوزارة الزراعة، وتعزيز التنمية الريفية، وتوطين مشاريع مدرة للدخل في المناطق الريفية لمساعدة بعض الأسر الريفية، ولتعريف أسر أخرى بأساليب جديدة للكسب ولتنوع مصادر الدخل، والتخفيف من البطالة المقنعة التي يعاني منها الريف.
خطة طويلة الأمد: تمتد لخمسة سنوات وتهدف إلى تنفيذ مشاريع أساسية تساعد في زيادة الانتاج والإنتاجية وفي الحفاظ على الموارد الطبيعية، وعرض الفرص الاستثمارية الواعدة المتاحة.
وإذا كانت هذه الخطة وغيرها تركز على
إعادة بناء القطاع الزراعي بعد سقوط النظام فإنها لا تستطيع إيجاد حلول للوضع الزراعي الحالي في ظل استمرار الحرب الدموية، ونزوح العديد من الفلاحين تاركين أرضهم وراءهم.
سيؤدي الانحسار الزراعي في سورية مع استمرار النزاع المسلح إلى المجاعة وكارثة إنسانية قد لا يمكن تصور أبعادها، وستضاف إلى سجل الكوارث التي حلّت بالمواطن السوري، ولا بد من جهود حثيثة تبذلها كل الأطراف الفاعلة في سورية لوقف تدهور الوضع وإيجاد حلول سريعة تمنع وصول الأوضاع إلى الحالة الكارثية المتوقعة.
***
المتشردون ينتشرون في أزقة إدلب.. ومنتجو الماضي باتوا متسولين!
(2)
عثمان إدلبي
اضطر البعض من أبناء مدينة إدلب إلى مد يدهم إلى الغير طلباً للمال نتيجة للعوز المادي الذي يعاني منه أغلب أبناء المدينة، ونتيجة للوضع الاقتصادي المتردي وغلاء المعيشة ونزوح أعداد كبيرة من أبناء الريف إلى داخل المدينة، لتتفشى في مدينة إدلب ظاهرة التسول حيث ينتشر الأطفال والنساء في الشوارع والأسواق على أبواب الجوامع. هذه الظاهرة المخيفة تعكس مدى الكارثة المعيشية التي يعشها أبناء المدينة والنازحون إليها في ظل الحرب المستمرة والقبضة الأمنية الحديدية التي يفرضها النظام على المدينة. ومن أكثر المناطق التي ينتشر فيها المتسولون في إدلب «شارع الجلاء» و«الكراجات» و«الجامعة».
ظاهرة التسول وليدة الفقر والجوع
أسباب كثيرة تدفع بعض النساء والأطفال والشيوخ إلى طلب المال من الغير، وأبرز هذه الأسباب الارتفاع الكبير في الأسعار داخل المدينة، والبطالة التي أضعفت المردود المادي لأغلب العائلات، إضافة إلى نزوح أعداد كبيرة من أبناء الريف إلى داخل المدينة، حيث لجأ البعض منهم إلى تامين حاجاتهم عن طريق طلب المال من الناس. كما يرفض أغلب المتسولين أن يطلق على طلبهم للمال مصطلح «التسول» ويبررون عملهم بأن ما أجبرهم عليه هو الحاجة والظروف القاهرة.
تقول أم مصطفى: «نزحت مع أولادي إلى مدينة إدلب بعد أن تهدم بيتي نتيجة قصف طائرات النظام على جبل الزاوية، فلم أجد أي شخص يبادر لمساعدتي، وأنا امرأة مسنة لا أستطيع العمل، فأصبحت مجبرة على طلب المال من الناس كي أطعم أولادي وأؤمن حاجياتهم».
الانتشار الكبير للمتسولين والتزايد المستمر في أعدادهم جعل بعض الناس يشكك في الأسباب التي دفعتهم إلى طلب المال ومدى حاجتهم إليه، ويقول أبو وائل وهو من سكان حي الضبيط: «اتخذ بعض الناس من التسول مهنة لهم، كجاري ذي الأوضاع المادية المقبولة والذي يرسل أولاده للتسول كي يجلبوا له المال دون أن يبذل أي مجهود».
بينما يتعاطف البعض الآخر من أبناء مدينة إدلب مع المتسولين ويبررون تسولهم بأن الأوضاع القاسية والوضع المعيشي الصعب وارتفاع الأسعار هي من أجبرتهم على طلب المال من الناس. يقول محمد وهو من العاملين في إحدى الجمعيات الخيرية: «نزح إلى مدينة إدلب في السنتين الأخيرتين ما يزيد عن 3500 عائلة، والكثير من هذه العائلات ليس لديها معيل، فهناك أطفال يتامى ونساء أرامل».
الفلاحون والعمال يتسولون!
على الرغم من كل التهم التي يطلقها بعض الأهالي بحق المتسولين، ووجود بعض المحتالين ومحترفي التسول، إلا أن الوقائع تؤكد أن نسبة كبيرة من متسولي اليوم كانوا أفراداً منتجين فيما مضى وقبل اندلاع الحرب، ومعظمهم كانوا يعملون في الزراعة في قراهم قبل تدميرها، إلا أن القصف اليومي التي تقوم به قوات النظام جعل الزراعة غير ممكنة وحوّل الكثير من الأراضي الخصبة إلى أراضٍ بور لا يمكن زراعتها بسبب انتشار الألغام والشظايا وبقايا القنابل العنقودية فيها.
يقول محمد الناشط في المجال الخيري: «الكثير من النازحين الذين وفدوا إلى مدينة إدلب لا يمتلكون مهناً ولا يجيدون أعمالا غير الزراعة، فلجأ البعض منهم إلى التسول لتأمين دخل مادي يسدون به حاجاتهم».
وبالإضافة إلى المزارعين السابقين، هناك العشرات من الحرفيين والعمال الذين خرّبت الحرب ورشاتهم وحوانيتهم فهربوا إلى مدينة إدلب الصغيرة والتي لا تستوعب هذا الكم الكبير من الأيدي العاملة بحكم محدودية نشاطها الاقتصادي، والذي زادته الحرب والقبضة الأمنية ضعفاً وانكماشاً، فلم يجدوا أمام المنافسة الكبيرة بين الأيدي العاملة التي أدت إلى انخفاض الأجور بشكل مخيف، وارتفاع عدد جيش العاطلين عن العمل، إلا التسول كأسلوب يسدون به رمقهم ورمق عائلاتهم.
أساليب التسول وأوضاعه
تختلف الأساليب التي يتبعها المتسولون لكي يكسبوا تعاطف الناس ويحصلوا على المال منهم، فباتوا يبتكرون أساليب جديدة يقنعون بواسطتها الناس بحاجتهم، فالأطفال لهم أسلوب مختلف عن النسوة والشيوخ، حيث ينتشر الأطفال في الأسواق والجامعات ويلحقون بالناس ويترجونهم حتى يحصلون على المال، وفي بعض الحالات يسبب هؤلاء الأطفال إزعاجا شديداً للناس بتصرفاتهم كتقبيل الأيدي والإمساك بأيدي الفتيات والنساء والإلحاح الشديد وملاحقة المارة، مما يجعل البعض من الناس يصرخون في وجوه هؤلاء المتسولين أو يعتدون عليهم بالضرب.
أما النسوة المتسولات فيجلسن على الأرصفة أو أمام إحدى المؤسسات الحكومية ويدعون للمارة ويطلبون المساعدة، والبعض منهن يحملن أطفالهن لكي يكسبن بهم تعاطف الناس. كما يوجد البعض من الشيوخ المسنين الذين يفترشون الطرقات ويحمل البعض منهم لا فتات صغيرة مكتوب عليها عبارات مختلفة تعبر عن حالتهم كعبارة: «أنا بحاجة لعملية قلب مفتوح» ويضعون أمامهم قطعة من القماش لكي يرمي الناس عليها النقود. يخرج معظم هؤلاء المتسولين منذ ساعات الصباح الأولى وحتى ظهر اليوم، مهما بلغ سوء الطقس، وحتى في الأيام الماطرة أو شديدة البرد.
الحاجة الماسة إلى المال والأوضاع السيئة لبعض الأشخاص دفعتهم لابتكار أساليب جديدة للتسول، ولا يخلو البعض منها من الحيلة والتمثيل, فبعض الشبان يمثلون بأنهم مصابون بعاهات دائمة أو إصابات حرب ويدعوّن بأنهم بحاجة للمساعدة، وبعض السيدات يزعمن المرض والحاجة للدواء، كالسيدة الأربعينية التي تقف كل يوم أمام مديرية التربية في إدلب وتحمل كيس (السيروم) وتصله بجسمها وتدعي بأنها مريضة وبحاجة لعملية مستعجلة، ومع حلول منتصف اليوم تكون قد جمعت مبلغاً جيداً فتنزع (السيروم) من يدها لتأتي في اليوم التالي متبعة الحيلة نفسها أمام أشخاص جدد. يقول موسى وهو من أبناء إدلب: «إن الكثير من المتسولين في إدلب يتبعون أساليب الحيلة للحصول على المال، وهذا الشيء أصبح مكشوفاً لأهالي المدينة وجعلهم لا يميزون بين أصحاب الحاجة (وهم كثر)، وبين من يمثلون ذلك».
الدولة ترفع يدها عن المتسولين
تتزايد أعداد الأطفال المشردين في شوارع المدينة في ظل غياب المسؤولية من قبل أهاليهم ومن قبل الدولة، وفي ظل تسيب كبير في المدينة يتعرض بسببه هؤلاء الأطفال لمخاطر كثيرة منها الاستغلال الجنسي والخطف. يوجد في المدينة مكتب حكومي تابع للمحافظة اسمه «مكتب مكافحة التسول» ولكنه لا يقوم بأي دور في رعاية المشردين والحد من التسول مما جعل هذه الظاهرة تتفشى بشكل كبير.
يرى البعض من أبناء مدينة إدلب بأن هذه الظاهرة غير حضارية ويجب على الدولة أن تتحمل مسؤولياتها وتكافحها وتمنع المتسولين من الانتشار في الطرقات، وأن تجد مأوى لهم وتؤمن لهم عملاً يعيلون به أنفسهم، تقول الآنسة منى: «أنا أرفض أن أعطي المتسولين المال لأن الأوضاع المادية للبعض منهم أفضل من وضعي المادي، ويجب ألا نعطيهم لأننا إن فعلنا نشجعهم على التسول»، فيما يرمي البعض الآخر من أبناء إدلب باللوم على الدولة ويبررون للمتسولين طلبهم للمال بكونهم محتاجين، يقول ماهر: «لو لم تكن ظروف هؤلاء المتسولين قاهرة وهم فعلاً بحاجة ماسة للمال لما مدوا يدهم للغير، ومن المؤكد بأن لديهم كرامة مثلي ومثلك».
يحذر بعض المختصين في ظاهرة التسول من خطورة أبعادها المستقبلية، فمن الممكن أن تتطور أفعال هؤلاء المتسولين إلى الأجرام والسرقة والاغتصاب في حال لم توفر لهم الرعاية، ومن الواضح بأنه لايوجد أمل بأن تتحرك الدولة لمكافحة هذه الظاهرة ليصبح التعويل على الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية والمدنية للمبادرة بمد يد العون للمحتاجين ومعالجة الأسباب التي دفعتهم للتسول.
ورغم هذا فإن الكثير من المطلعين على الأوضاع يرون ألا أمل بإيجاد أي حل للمشاكل الاجتماعية المزمنة، ومنها التسول، في ظل الوضع غير الطبيعي التي تعيشه البلاد، ومادامت الحرب المدمرة متواصلة، مانعة المواطنين من الاستمرار بنشاطاتهم الاقتصادية والاجتماعية.
***
مـــــاذا تبقى من صناعة حلب؟
(3)
-80% من النشاط الصناعي السوري تعرض للانهيار.
- معامل حلب في تركيا ومصر.
- محاولا للبقاء والإنتاج في ظل القصف والسرقات.
كمال السروجي
تعتبر المنطقة الصناعية في الشيخ نجار بحلب المنطقة الصناعية الأكبر في سوريا، ومن أكبر المدن الصناعية في الشرق الأوسط، وتمتد على مساحة 4412 هكتاراً، وقدرت حجم الاستثمارات فيها عام 2009 بـ2 مليار دولار، وتشتهر حلب بالصناعات الكهربائية والهندسية والنسيجية والكيمائية والدوائية, وتحتوي على 50% من العمالة الصناعية، وتنتج أكثر من نصف صادرات سوريا.
وقد تأسست غرفة الصناعة والتجارة في حلب عام 1885 أي أنها سبقت تأسيس العديد من غرف الصناعة في العالم، فقد تأسست غرفة الصناعة في طوكيو عام 1891، وفي القاهرة عام 1913، الأمر الذي يضع غرفة حلب في مصاف الغرف الأعرق في العالم، نتيجة موقعها الاستراتيجي الرابط بين شرق آسيا وغربها.
خسائر قطاع الصناعة في سوريا
قال كمال الدين طعمة وزير الصناعة السوري في حكومة النظام في الربع الأخير من 2013: «إن خسائر الصناعة السورية بلغت نتيجة 31 شهراً من النزاع 2,2مليار دولار» وذلك بحسب ما نقلت عنه صحيفة «الوطن» الموالية للنظام.
وأوضح الوزير خلال اجتماع مع مديري المؤسسات والشركات التابعة للوزارة «أن قيمة الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بالقطاعين العام والخاص الصناعيين منذ بداية الأزمة ولغاية شهر تشرين الأول 2013 بلغت حسب البيانات المتوافرة 336 مليار ليرة، أي حوالي 2,2 مليار دولار، وأن أضرار القطاع الخاص بلغت نحو 230 مليار ليرة، وأضرار القطاع العام نحو 106 مليارات ليرة، أي حوالي 68,5 في المئة من الإجمالي».
وكشفت مجموعة عمل اقتصاد سوريا في أحدث تقاريرها ضمن سلسلة «الخارطة الاقتصادية لسوريا الجديدة»، أن 80 % من النشاط الصناعي السوري تعرض للانهيار بعد ثلاث سنوات على بدء الأزمة في البلاد، نتيجة تعرض نحو 60 ألف منشأة صناعية من أصل 100 ألف لدمار كلي أو جزئي نتيجة الاقتتال، بينما تعمل 40 ألف منشأة بطاقة جزئية. ويشير التقرير إلى أن الخسائر الشاملة للقطاع الصناعي السوري، الذي كان يشكل 17% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، تخطت مائة مليار دولار، بينما تحتاج إعادة إعمار القطاع الصناعي، بما فيها المنشآت، إلى 21 مليار دولار.
أتاوات وسرقات وقصف مستمر
بعد اشتداد هجمات النظام السوري بمختلف أنواع الأسلحة على حلب والريف الحلبي، عمد كثير من الصناعيين إلى فك المعامل ونقلها إلى دول الجوار كتركيا أو إلى مصر عبر الموانئ التركية.
يقول الحاج محمد صاحب معمل «شالاتي» لصناعة النسيج لمجلة «صور»: «عند اشتداد الهجمات على المنطقة الصناعية في الشيخ نجار، دفعت مبلغ 2مليون ليرة لإحدى كتائب الجيش الحر، من أجل التعاون معي لفك المعمل ونقله إلى تركيا. اليوم افتتحت معملاً صغيراً في مدينة غازي عينتاب وجلبت العمال الذي كانوا يعملون في معملي في حلب لمتابعة العمل هنا».
ويروي علاء زنانبيلي صاحب معمل الألبسة في منطقة الشيخ مقصود الغربي لمجلة «صور»: «لدي معمل لتصنيع ألبسة الجينز في منطقة الشيخ مقصود غربي، وبعد دخول الجيش الحر إلى المنطقة، قررت الذهاب إلى المعمل من أجل الاطمئنان عليه، منعني حاجز النظام عند دوار السلام من الدخول إلى المنطقة حتى دفعت 25 ألفاً للمسؤول عن الحاجز، وعندما وصلت إلى المنطقة تحت نيران القناص، اكتشفت أن جميع المستودعات قد سرقت, ولم يبق في المعمل إلا ما صعب حمله، حتى الكابلات الكهربائية نزعت من الجدران وسرقت، كلفة معملي 50 مليون ليرة وبيتي في صلاح الدين قد قصف، اليوم لا أملك سوى سيارتي الخاصة والتي صرت أشغلها كسيارة أجرة».
أما الدكتور ناصر المدير التنفيذي لأحد معامل الأدوية: «نقوم كإدارة للعمل بدفع رواتب شهرية لعناصر الجيش الحر من أجل حماية المعمل من السرقة والنهب، ولكن للأسف ليست السرقة هي ما يهدد مصالحنا، ولكن القصف اليومي من الطيران أصاب أحد المستودعات وأدى لتلف قسم كبير من الأدوية المخزنة».
بطالة وهروب للكفاءات الصناعية
تعتبر اليد العاملة المدربة الثروة الحقيقة لأي نوع من الصناعة، وهروب وسفر اليد العاملة خارج سوريا لا يقل أهمية عن دمار البنية التحتية الصناعية، حيث اضطر الكثير من الصناعيين الكبار إلى فتح «بسطات» في وسط المدينة من أجل تحصيل تكاليف الحياة اليومية.
يقول بسام وهو خريج معهد متوسط للغزل والنسيج: «سافرت إلى إسطنبول منذ عام ونصف، وأعمل في معمل تركي لصناعة النسيج، ولا أنوي العودة حتى لو استقرت الأمور في حلب، هنا كونت نفسي وأصبح لدى بيت وأتقاضى أجراً شهرياً يوفر لي حياة كريمة، حلب أصبحت مدينة مدمرة وتحتاج لعشرات السنين حتى تقف على قدميها من جديد».
محاولات للبقاء والاستمرار
يبذل الكثير من رجال الصناعة، وخصوصاً الغذائية منها، جهوداً كبيرة من أجل الصمود والاستمرار في العمل.
يقول أحد الصناعيين في قطاع المواد الغذائية لمجلة «صور»: «إن توقف حركة الاستيراد والتصدير واقتصارها على ميناء طرطوس أضعف حركة دخول المواد الأولية إلى سوريا، كما أن قلة قطع الغيار جعل أي عطل صغير في أية ماكينة يجعلها خارج الخدمة، وارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية أضعف حركة الشراء، وفقدان حالة الأمن على الطرقات والإتاوات الكبيرة التي تتقاضاها حواجز النظام من أجل إيصال المنتجات إلى المناطق الآمنة من سوريا، جميع ما ذكرته يشكل عوائق تزيد من صعوبات العمل والإنتاج».
حركة بناء جديدة وخطط للإنعاش الصناعي
رغم الحرب الدائرة في شمال سوريا فالملاحظ أن هناك حركة نشطة لإدخال البضائع عبر معبر باب السلامة على الحدود السورية التركية، يقول الناشط عمران الحلبي: «على يمين الطريق المؤدي إلى باب السلامة بطول 5 كم يميناً ويساراً هناك شاحنات مليئة بالإسمنت، وهناك حركة بناء في ريف حلب وخصوصا المجاور للحدود التركية، وأغلب الظن أنها تقتصر على عدد من الرجال الذين أصبحوا من تجار الحروب».
وقد وضعت مجموعة اقتصاد سوريا دراسة شاملة لتطوير الصناعة في سوريا في المرحلة التي تلي سقوط النظام، وأشارت الدراسة إلى أن المراحل والخطوات الواجب القيام بها لإعادة الإعمار تقع على عاتق الحكومة الانتقالية والقطاع الخاص معاً، وتتوزع الخطة على ثلاث مراحل، تبدأ بالمرحلة الإسعافية والتي تمتد لستة أشهر، وتهدف إلى دفع القطاع الصناعي لمباشرة عمليات الإنتاج، ويتطلب ذلك إجراءات إدارية ومالية تتمثل في تمكين الاستيراد والحماية والإعفاء من الرسوم الجمركية لمستلزمات القطاع الصناعي، وقيام الحكومة بإعادة تأهيل البنى التحتية من كهرباء ومياه للمناطق الصناعية، أما المرحلة القصيرة الأجل والتي تمتد من ستة أشهر إلى سنتين فتركز على صيغة التشريعات وتطويرها بشكل يسمح بوضع برنامج صناعي طويل الأمد، وإيجاد السبل اللازمة للتمويل الاستثماري للمناطق الصناعية، في حين تمتد المرحلة طويلة الأجل لخمس سنوات، يتم العمل فيها على تطوير آلية مؤسسية ومالية للصناعة لتكون القاطرة الأساسية للنمو الاقتصادي، وتركز على إيجاد مناطق صناعية في المناطق الشرقية والشمالية بهدف تنمية المناطق النائية.