في رحلة البحث عن جواز السفر..
للحكومة سعرها.. وللسماسرة سعرهم.. ومعلّم الاثنين واحد!!
آدم صوراني
كان جواز السفر الورقة الثبوتية الوحيدة التي حصلتُ عليها كمواطنٍ سوريّ، ولم تكن في حساباتي. وأحياناً أتمنى أن لا أستخرجها، مقابل أن ينتهي هذا الذي نحن فيه. أنا مثل الكثير من السوريين الذين دفعتهم الأزمة والحرب إلى الوقوف على أبواب فروع الهجرة والجوازات.
هكذا يختصر أبو هيثم شعور أغلب السوريين الذين يقفون في طابورٍ طويلٍ أمام فرع الهجرة بالبرامكة. ولكن ما يجعل من قصة أبو هيثم معاناةً، تضاف إلى معاناته مع أسرته في الهروب من دير الزور- التي تلتهمها حمّى المعارك الضارية –، هو أن الحصول على جواز السفر معركةٌ أيضاً، مع السماسرة والبيروقراطية، ومكاتب الحصول على الأوراق المطلوبة، والأرقام الفلكية التي يطلبها السماسرة لاختصار وقت انتظار الحصول على وثيقة السفر.
وقد أقرّ مجلس الشعب السوريّ، في جلسته الختامية للدورة الرابعة العادية للدور التشريعيّ الأول، مشروع القانون المتضمّن تعديل المادة الثانية من المرسوم رقم 60 لعام 2004، لتصبح على النحو الآتي: «تحدّد قيمة الجواز أو وثيقة السفر، المنصوص عليها في المادة التاسعة من القانون رقم 42 لعام 1975 وتعديلاته، بمبلغ أربعة آلاف ليرةٍ سوريةٍ لكلّ جوازٍ أو وثيقة سفرٍ يصدر ضمن نظام الدور، وخمسة عشر ألف ليرةٍ لكل جوازٍ أو وثيقةٍ يصدر بصفةٍ مستعجلةٍ بطلبٍ من صاحب العلاقة».
إذاً، 4000 ليرةٍ هي الرسم الذي حدّدته الدولة للدور العاديّ، و15000 للمستعجل. لكن القصة أنك قد تدفع أكثر من 10000 ليرةٍ للحصول على الوثيقة ضمن الدور العاديّ؛ هذا ما يرويه أبو هيثم وهو يفتح كفّه علامة الاستهجان، ويرفع من وتيرة صوته: استغلال، وفي مثل ظروفٍ قاسيةٍ كهذه.. إي الله ما قالها!!
سماسرة بالاسم موظفين بالفعل
يلتفّ السماسرة حول المراجعين، يحدّثونهم عن صعوبة الحصول على الوثيقة عبر الدور العاديّ. وتبدأ رحلة جمع الأوراق المطلوبة من المكتبات المحيطة بالفرع، وهي مجرّد صورٍ عن البطاقات الشخصية وإخراجات قيدٍ وصورٍ شخصية، وترجمةٍ للاسم والبيانات الشخصية. وهذه الأشياء، التي لا تتطلب كلفةً كبيرة، تحتاج إلى مبلغٍ ليس بالقليل، حتى تصل بك الشكوك إلى أن الجميع مشاركٌ في نهبك «عينك كنت عينك»؛ بدءاً من الحارس الذي على باب البناء، مروراً بالموظف العاديّ في الداخل، تتويجاً بالضابط المسؤول، الذي يُشكر على ابتسامته ساعة دخول المواطن إلى مكتبه، انتهاءً بالمكاتب التي حصلت على الحق الحصريّ في بيع الأوراق والطوابع المطلوبة وغير المطلوبة من باب التشليح ليس إلا.
يقدّم السماسرة عروضهم بالحصول على الجواز بـ 24 ساعةً بمبلغ 10000 ليرة، أما بالنسبة إلى من لديهم مشكلةٌ في أحد البيانات فيتضاعف المبلغ. وتروي (زهرة) كيف تعرّضت للنصب بأكثر من 150000 ليرةٍ ولم تحصل سوى على الوعود. وهؤلاء، كما تقول المرأة، مرتبطون ببعض العاملين في فرع الهجرة، لأنها كانت ترى بعينها التواصل المستمرّ بين موظفي الهجرة والسمسار الحرامي، كما تصفه، الذي كان ينتقل بين المكاتب وكأنه مكوكٌ فضائيّ. وفي النهاية كانت النتيجة خسارتها هذا المبلغ الكبير دون أيّ مقابل.
بناءٌ لا يصلح لأيّ مركزٍ حكومي
بنظرةٍ أوليةٍ إلى البناء من الخارج، والذي يعتبر المقرّ الرئيسيّ للهجرة والجوازات في العاصمة التي أصبحت مركز ثقل مدينة دمشق وريفها، بعد انعدام الحياة في معظم الريف الدمشقيّ؛ يبدو طبيعياً كأيّ مركزٍ حكوميّ. لكن بمجرّد النظر إلى الرصيف الممتدّ على طول البناء، والذي افترشه الأطفال والنساء والشيوخ، منتظرين في طابورٍ لا ينتهي؛ يتوصّل المواطن فوراً إلى معرفة ما سيلقاه من عذاباتٍ حين يهمّ بالدخول إلى الطوابق العليا للمبنى، التي تتحوّل، منذ الصباح الباكر إلى حين انتهاء الدوام، إلى ما يشبه «قطرميز المخلل أو المكدوس»، حيث يُحشر مئات المواطنين من الجنسين، صغاراً وكباراً، في بضعة أمتارٍ مربعةٍ لا تصلح لاستقبال مراجعين بعدد أصابع اليد الواحدة، فكيف بهذا العدد اللامحدود؟ والانتظار حتى الدقائق الأخيرة من الدوام، لعلَّ وعسى أن يحوز المراجع على جواز سفرٍ إلى بلدانٍ لم يكن يحلم، مجرّد حلمٍ، أن يزورها.
فأيّ أوجه شبهٍ في العلاقة بين ما ذكر آنفاً وبين نصّ الفقرة الخامسة من القانون، التي تؤكد أن كرامة المواطن يجب أن تصان باعتباره يدفع المطلوب منه لخزينة الدولة؟ والتي تنصّ على ما يلي: «تستوفى قيمة الجواز على شكل طابع أمنٍ عامٍّ يلصق على استمارة طلب الحصول على الجواز، أو بموجب إيصالٍ ماليٍّ يدفع في المصارف الحكومية العامة أو في مديرية المالية في المحافظة، تحدّد قيمته بـ4000 ل.س للجواز العادي و15000 ل.س للجواز المستعجل، وطابع إدارة محلية 50 ل.س، و50 ل.س إدارة محلية عند كلّ تجديد جواز، ووثيقة السفر 25 ل.س، وطابع مالي 10 ليرات، و25 ل.س طابع هلال أحمر، و200 ل.س بدل تأمين كفالة عودة».
فليأتِ أيّ مسؤولٍ حكوميّ، صغيراً أم كبيراً كان، ويقنعنا بوجود مواطنٍ سوريٍّ واحدٍ حصل على الجواز دون أن يدفع ليرةً واحدةً زيادةً على ما تمّ ذكره!!
صفعة الشرطيّ وصمة عارٍ على جبين الوطن!
الأمل باللحظات الأخيرة كان كفيلاً بأن يتلقى عبد الله عدّة صفعاتٍ من الشرطيّ، كما يقول بعد تأفف: كنت واقفاً، مع عددٍ قليلٍ من الشباب وسيدتين كبيرتين في السنّ، كانوا على أملٍ مثلي أن يُرأف بوضعنا بعد خروج المئات خائبين. وفجأةً تلقيت صفعةً من أحد عناصر الشرِطة، كدتُ أفقد بها توازني من هول المفاجأة. ويتابع عبد الله أنه حين سأل الشرطيّ لماذا هذا التصرّف؟ ولا يجوز أن تتعامل معنا بهذه الطريقة الدونية، ردّ عليه الشرطيّ دون تردد: «أنتم شعب بجم وجحش كمان، وما بتفهموا غير بالضرب، لازم نتعامل معكم بهي السوية لأنكم لا تفهمون إلا هذا الأسلوب». ينهي عبد الله حديثه معنا بالقول: بعد حصولي على الجواز لن أبقى لحظةً في البلد الذي يمثله هذا الشرطيّ. ولن أتردّد في اختيار البلد - إن شاء الله تكون دولة جزر القمر - أفضل من أن تهان كرامتي بهذا الشكل اللاأخلاقي!!
أثناء مناقشة مشروع القانون في مجلس الشعب، قيل إن رفع قيمة الحصول على جواز أو وثيقة السفر أمرٌ ضروريٌّ للقضاء على حالات الفساد والسمسرة والرشاوى التي يقوم بها بعض ضعاف النفوس، استغلالاً لحاجات المواطنين. والسؤال هنا: هل يعلم هؤلاء الأعضاء الذين ناقشوا مشروع القانون أن الرشوة والمحسوبية والسمسرة ما زالت على حالها، وأن تدخلات بعض زملائهم من أجل الإسراع لبعض أقرانهم ليست بحاجةٍ إلى الحلفان؟!!
مواطنو الحسكة وضريبة سرقة الجوازات
قام المسؤول عن استخراج جوازات السفر في محافظة الحسكة بسرقة أكثر من 600 جوازٍ جاهزةٍ لطباعة الاسم عليها وتسليمها إلى المواطنين المتقدّمين للحصول عليها، وخرج بها خارج الحدود تحت حجّة «الانشقاق» عن النظام. ومع ذلك لم ندرِ حتى الآن مصير تلك الجوازات التي كانت شؤماً على مواطني هذه المحافظة، بعد أن أوقفت الجهات المختصّة جميع الطلبات لعدم وجود دفاتر مخصصةٍ لها. وليجبر أبناء المحافظة، المضطرّين إلى الحصول على الجواز، على الذهاب إلى دمشق العاصمة. ولتبدأ رحلةٌ أصبحت أصعب من الذهاب إلى الصين عبر طريق الحرير!!
ولا بدّ من أن تكون هذه الرحلة عبر الجوّ، نتيجة سيطرة عناصر الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» على طول الطريق الممتدّ من ما بعد الحسكة بـ 70 كم باتجاه الرقة انتهاءً بالسلمية. ولا يمكن تقدير ما إذا كنت ستفلت من عقابهم أم لا، لمجرد أنك «كرديٌّ» أو من أيّ مكوّنٍ آخر من مكوّنات هذه المحافظة، وما أكثرهم. إذاً، لا بديل عن السفر عبر طيران العربية السورية التي سعر تذكرتها رسمياً 4650 ل.س فقط. لكنك، إن لم تكن على علاقةٍ بأحد الأجهزة الأمنية أو بأحد قادة كتائب البعث أو بأحد مسؤولي المحافظة، لن تحصل على التذكرة إلا بشقّ الأنفس، وبعد أسابيع، وبسعرٍ لا يقلّ عن 10000 ل.س. أي، بحسابٍ بسيطٍ، فإن متطلبات مواطنٍ واحدٍ من الحسكة يريد الحصول على جواز سفرٍ من دمشق، سواءً العاديّ أم المستعجل، تتراوح ما بين 75 و100 ألف ليرةٍ سوريةٍ في الحدود الدنيا. وهذا ما حصل مع الشاب «ذيور» الذي دفع كل ما اقتصده، بعد سنةٍ من العمل في إقليم كردستان العراق، للحصول على الجواز، من أجل الهجرة غير الشرعية. ومن المؤكد أن مصير جوازه هذا، الذي دفع لأجله من (شقا عمره) كما يقال، سيكون الإتلاف بعد وصوله إلى بلد الاغتراب، تحضيراً لتقديم اللجوء الحلم.
أيام الغوالي.. راحت
من المؤكد أن تزايد شكاوى المواطنين، سواء قبل القانون أو بعد صدوره، لم يأتِ من فراغ، وإنما نتيجةً طبيعيةً لتعامل موظفي الهجرة والجوازات، والفساد الذي ينتشر في كل إداراتها، وعمليات السمسرة والرشاوى، وأخذ مبالغ ماليةٍ من المواطنين بحجة الاستعجال والدعم. مما يعني أن ما يُدفع للموظفين وللإدارات الأخرى، المدنية منها والعسكرية، يصل إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف المبلغ الرسميّ.
وقد أكد مواطنون أن بعض عناصر الشرِطة يتعاقدون مع موظفين وهميين، ليس لهم أي وجود، والأنكى أن من بينهم شبابٌ صغارٌ في العمر من أجل التمويه. منهم «وسيم» الذي لم يبلغ بعد الثامنة عشرة من عمره، والمعروف بأسعاره الخيالية، والذي استطعنا الوصول إليه بحجة حاجتنا إلى الحصول على جوازٍ دون حضور صاحبه. ولم نفاجأ بالسعر، لكثرة ما سمعنا عن وسيم وعن أرقامه الخيالية، فقد طالب سمسارنا الشاب ذو الابتسامة العريضة بمبلغ 125 ألف ليرةٍ سوريةٍ لقاء جواز سفرٍ واحد. فما حصّة إدارة الهجرة والجوازات، والخزينة العامة للدولة، من هذا المبلغ الكبير الذي لا يقارن نهائياً بأرقام القانون العظيم؟!!
مليون جواز سفرٍ سنوياً
قال وزير الداخلية، محمد الشعار، في تصريحاتٍ إعلاميةٍ سابقةٍ له، تعليقاً على حالة الازدحام الشديد أمام مكاتب الهجرة: إن «إدارة الهجرة والجوازات وفروعها في المحافظات تصدر ما يقارب مليون جواز سفرٍ سنوياً. وإن مراكزها خلال السنة الماضية شهدت ازدحاماً شديداً لطلب الحصول على جوازات سفر، سواءً كان طالبوها بحاجة إليها أم لا. ومعظمهم تقدّم بطلباتٍ لجميع أفراد العائلة. وأدّى ذلك إلى لجوء بعضهم للحصول عليها بطرقٍ ملتوية، وخارج نطاق الدور. ما شكل عبئاً على مراكز الهجرة والجوازات، والمطبعة التي تتمّ طباعة الجوازات فيها، وارتفاع أسعار المواد الداخلة في تصنيعها».
يعترف الوزير بالطرق الملتوية لكنه لا يعترف بعدم قدرته على وضع حدٍّ لها، أيُّ تناقضٍ هذا؟ ثم، إن كان المواطن يقدّم طلباً لفردٍ واحدٍ من العائلة أو لجميعها فما دخل الوزارة بذلك؟ المطلوب منها تأمين ما يلزم المواطن لأن ذلك من حقه.. أما السؤال الأخير فهو: إن كانت إدارة الهجرة والجوازات، ومن باب الافتراض، ومنذ انطلاقة الثورة السورية، تصدر مليون جوازٍ سنوياً، أي بحدود أربعة ملايين حتى اللحظة، فما حجم الفساد المتداخل في عملية إصدار هذه الملايين الأربعة؟ وإلى أية جيوبٍ ذهبت؟!!