العجوز المنفيّ في "رحلة إلى كيثيرا"
يوسف شيخو
تمثّل جزيرة "كيثيرا"، في الميثولوجيا الإغريقية، مسقط رأس آلهة الجمال، أفروديت. ويصفها المخرج اليونانيّ، ثيو أنجيلوبولوس، بالجزيرة التي "مجّدها الشعراء، جزيرة الحبّ". لكن بالنسبة إلى الشخص السياسيّ، فإن الرحلة المتخيلة لا يمكن أن تكون رومانسية. على الأقلّ هذا ما يخبرنا به ثيو، الذي ينتقل في بداية فيلمه "رحلة إلى كيثيرا"، من العمل السينمائيّ الذي نشاهده إلى فيلمٍ آخر يتمّ صنعه: مخرجٌ سينمائيٌّ (الكسندر)، يبحث عن أبيه المنفيّ (سبايروس). في الفيلم داخل الفيلم، يلعب المخرج دور ابن الرجل العجوز )يؤدّي دوره مانوس كاتراكيس(.
يلتقي المخرج بأبيه العجوز، العائد توّاً من منفاه في روسيا، إثر صدور عفوٍ عامٍّ في أواخر السبعينيات، سمح للشيوعيين بالعودة إلى بلادهم. يعود العجوز ليعيد اكتشاف بلاده بعد 32 سنةً من الغياب، لكنه يعاني من صعوبة العثور على هويته. بتعبير ثيو، فإن سبايروس يمثّل الماضي، الحرب الأهلية. وتالياً، فإن تحقيق الفيلم لا يكشف عالم الخيال والسينما فحسب، بل يصبح تأملاً في الجروح التاريخية التي لم تلتئم منذ نهاية الحرب الأهلية اليونانية (1946 إلى 1949(. وهنا نجد العجوز يرقص في المقابر ويحيي رفاقه الموتى. وفكرة الرقص هذه، عادةٌ قديمةٌ تتّبع في احتفالات الموت في شمال اليونان. فحين يموت شخصٌ ما، يقوم الآخرون بالاحتفال. يقول ثيو: "إنه ضربٌ من انتصار الحياة على الموت، أو ربما التسليم بأن وراء الحزن الذي يبعثه الموت ثمة تحققٌ للحرية والانعتاق الذي يعنيه الموت...".
يرى ثيو أن فيلمه يتحرّر من الماضي، لكن، في الوقت نفسه، يعقد صلحاً معه.
إذ أراد أن يقدّم للجمهور اليونانيّ إمكانية مواجهة المستقبل بعيداً عن جروح الماضي. سبايروس، الذي تعرّض للنفي، يمثّل جيلاً وموقف هذا الجيل من الحياة. إنه "جزءٌ من التاريخ اليونانيّ، الجيل الذي كان لديه أملٌ عظيمٌ وإيمانٌ عميقٌ بقدرته على تغيير الأوضاع في بلده.. الجيل الذي يزول معه". وحين ينزل العجوز من السفينة، وهو عائدٌ، نرى قدميه، "ذلك لأنه، في ذلك الحين، ليس أكثر من ظلّ". ويعتبر المخرج عودته، على متن سفينةٍ بيضاء، عودةً رمزيةً لماضٍ مكبوح. وهنا يقول ثيو إن "المبرّر الوحيد الذي يجعل الماضي يعود هو لكي يموت".
استغرق تصوير العمل أكثر من الوقت المقرّر. وأحد أهم أسباب ذلك هو أن كاتراكيس (1984-1908)، الذي أدّى دور سبايروس، اعتلت صحته، وكان عليهم أن ينتظروا حتى يتماثل للشفاء (كان مصاباً بسرطان الرئة). وتوفي كاتراكيس فور الانتهاء من تصوير العمل، بعد 85 فيلماً من العام 1929. وكان "رحلة إلى كيثيرا" فيلمه الأخير. وهنا يعلق ثيو بأنه "تماماً مثل الشخصية التي يؤدّيها، هو أحد الناجين بعد الثورة. فقد حُكم عليه بالسجن لأسبابٍ سياسية. وقد شعرتُ، بطريقةٍ أو بأخرى، أنه كان يبحث عن المكان المناسب ليموت. والفيلم هيّأ له المكان". والغريب أن الممثل الذي أدى دور الخصم والمنافس له توفي في الوقت نفسه تقريباً. وفي الحياة الواقعية، كان هذا الممثل منتسباً إلى الحزب السياسيّ المضاد.
ولد ثيو أنجيلوبولوس في أثينا، عام 1935. وتوفي بحادث سيرٍ عام 2012. يعدّ من أكثر المخرجين اليونانيين تأثيراً. ويذهب نقادٌ إلى القول إن سينماه، طوال ثلث قرنٍ تقريباً، كانت تكاد أن تمثل وحدها "تاريخ اليونان وتشعّب تضاريسه… نشيده ومأساته… انكساره والمقاومة". حاز ثيو "السعفة الذهبية" في مهرجان "كانّ" السينمائي عام 1998. والواقع أن عدم "جماهيرية" أفلامه ناتجٌ عن تناولها موضوعاتٍ فلسفيةً عميقة، وابتعادها عن المؤثرات والتقنيات والنجوم.
شاهد الفيلم ؛
الترجمة غير متوفرة