فاقدو الأطراف في سوريا: فصولٌ مضاعفةٌ من المعاناة
يحتاج نوّار إلى ساعتين على الأقلّ للوصول إلى جامعته، رغم أن بيته لا يبعد عن مقعد الدراسة أكثر من عشرين دقيقةً مشياً، لكنّ عجلات المقعد المتحرّك تتطلب منه جهداً أكبر ووقتاً أطول. ورغم كلّ الصعوبات، يُصرّ الشابُّ ذو الـ21 عاماً على متابعة دراسته، بعد أن فقد ساقيه إثر سقوط قذيفة هاون. يقول نوّار: "بات عليّ أن أستيقظ مبكراً. أحتاج إلى ساعتين لتنظيف أسناني وتوضيب أغراضي وارتداء ملابسي. كلّ هذه الأمور البسيطة باتت معقّدةً وأنا على كرسيٍّ متحرّك". يتابع: "أجلس إلى جانب الباب بانتظار أحد أصدقائي الذي سيساعدني على الوصول إلى الجامعة، إذ يتناوب عددٌ من زملائي على إيصالي كلّ يوم". وعن رحلة الوصول إلى جامعته يقول: "لم تعد إشارات المرور تعمل، وحركة السيارات لا تتوقف، والناس يقومون بقطع الشوارع بشكلٍ عشوائيٍّ. لذا يطلب زميلي من عشرات السيارات أن تتوقّف تماماً حتى نتمكّن من عبور الشارع". ويعبّر عن مخاوفه قائلاً: "لا يفارقني الحذر الشديد والخوف من الوقوع في منتصف الطريق. أتخيّل، بشكلٍ متكرّرٍ، أنّ قذيفة أخرى ستسقط وتأكل ما تبقّى من جسدي. أتجرّع العشرات من نظرات الشفقة على الطريق. ويتوجّب عليّ التعافي منها حين الوصول إلى المحاضرة حتى أستطيع التركيز". ويتابع: "لا أفارق الكرسيّ حين الوصول إلى قاعة المحاضرة. أبقى بعيداً عن الجميع. لم يعد بمقدوري الجلوس بقرب تلك الفتاة التي تعجبني، والتي انعدمت كلّ آمالي في التقرّب منها يوماً ما".
نوّار واحدٌ فقط من ضحايا آلة الحرب في سوريا. فإلى جانب آلاف القتلى، تسبّبت مختلف أنواع الأسلحة النشطة في البلاد بإصابة ما يزيد عن 270 ألف شخصٍ بإعاقةٍ دائمةٍ في المناطق المحرّرة وحدها، تبعاً لتقريرٍ صادرٍ عن الائتلاف الوطنيّ السوريّ في نهاية 2014. وأوضح التقرير، الذي صدر بمناسبة اليوم العالميّ للمعاقين، أنّ "هذه الإعاقات تنقسم إلى بتر الأطراف، والتشوّهات الخطرة، وشلل الوظائف الحيوية، والإصابات الدماغية". ولفت التقرير إلى أنَّ "مواصلة قوّات النظام لقصفها اليوميّ والعشوائيّ على أغلب مدن سوريا وقراها تتسبّب باستمرار فقدان الكثير من السوريين لأطرافهم".
مصاعب الحركة وقصورٌ هندسيّ
يعيش ذوو الاحتياجات الخاصّة في سورية ظروفاً سيئةً مضاعفة، بسبب صعوبة الحياة في سورية أساساً في ظلّ الحرب، وغياب الوسائل المساعدة الأساسية لذوي الاحتياجات الخاصّة في الأماكن العامّة داخل سوريا. يشير نوّار إلى أنّ عائلته "اضطرّت إلى استئجار منزلٍ آخر في الطابق الأرضيّ وانتقلت للعيش فيه بعد إصابته، إذ لم تعد المصاعد الكهربائية ذات فائدةٍ بسبب غياب الكهرباء. وأنه يحتاج إلى رَجُلين على الأقلّ ليتبرّعا بحمله عندما يضطرّ إلى الصعود إلى الطوابق العلوية".
ويلفت المهندس المعماريّ حسان غياث إلى أن "التصميم المتّبع في هندسة الطرقات والأماكن العامة، كالمدارس والجامعات والمؤسّسات ووسائل النقل، لا يراعي المعايير الخاصّة بذوي الاحتياجات الخاصّة، إضافةً إلى الأضرار والتغييرات التي فرضتها حالة الحرب في البلاد. لذا من الطبيعيّ أن يجد المعاقون جسدياً أو بصرياً صعوباتٍ في التنقل". ويوضح أنّ أولى الخطوات التي يتوجّب القيام بها هي "تعديل عددٍ من السيارات وحافلات النقل العامّ، وفقاً لمعايير علميةٍ، لتصبح متاحةً لذوي الإعاقة الجسدية توفّر لهم الأمان، إضافةً إلى إلحاق ممرّاتٍ خاصّةٍ للكراسي المتحرّكة بجميع أدراج المباني، وتأمين المصاعد الكهربائية بشكلٍ متواصل".
أعباءٌ نفسية
يعيش المصابون، ممن فقدو أطرافهم، فصولاً من المعاناة النفسية والكآبة. ويشير أخصائيّ الأمراض النفسية علي حريتان إلى أنّ: "هذه المعاناة طبيعيةٌ، وقد تمتدّ لعدّة سنواتٍ بعد الإصابة. ويحتاج المصاب إلى دعمٍ نفسيٍّ كبيرٍ وتأهيلٍ مجتمعيٍّ، ليستطيع التكيّف مع نمطٍ جديدٍ على حياته، على عكس أقرانه ممن ولدوا مع الإعاقة وأتيح لهم وقتٌ طويلٌ للتكيّف معها". ويضيف حريتان أن المعاقين "غالباً ما يعانون من القلق والتوتر والانفعال، بعد أن تحوّلت حياتهم إلى مجموعةٍ من اللاءات الحركية. فوراء كلّ حركةٍ اضطرابٌ نفسيٌّ وإحباط، خاصةً خلال المرحلة الأولى. تضاف إلى كلّ ذلك المشكلة الاجتماعية المتمثلة باضطراره إلى الاعتماد على الآخرين، وهو ما يولّد لديه شعوراً بالنقص". ويتابع: "غالباً ما تنعكس هذه المصاعب النفسية سلوكياً على المعاق، ليتّسم بالعدوانية أو الانطواء، والأخطر هو الدخول في حالة رفضٍ للتوافق مع مشكلته الجسدية، قد تقوده إلى اكتئابٍ شديدٍ وتفكيرٍ في الانتحار".
ويروي نوّار عن تجربته قائلاً: "تمنيت كثيراً لو أني فارقت الحياة ولم أعش هذه التجربة المريرة. لديّ شعورٌ دائمٌ بالامتنان تجاه من يساعدني على إكمال حياتي، حتى أني لا أجد طريقةً أكافئه بها. الا أني أشعر بالخيبة الشديدة ممّن ابتعدوا عني بسبب إعاقتي من أصدقائي وأقاربي".
ثقافة التعامل الأمثل مع المعاقين جسدياً
يشير الأخصائيّ الاجتماعيّ عبد الله يوسف إلى "أهمية نشر ثقافة التعامل مع المعاقين جسدياً بين جميع أفراد المجتمع، وخصوصاً من هم على تماسٍّ بذوي الإعاقة الجسدية. فمن شأن ذلك أن يقدّم لهم دعماً اجتماعياً ونفسياً، ويهوّن عليهم الكثير من المصاعب التي يتعرّضون لها". ويوضح يوسف أهمّ النقاط، وهي أنه: "لا يجب على أحدٍ أن يقدّم المساعدة إلى المعاق حركياً إذا لم يَطلب منه ذلك، أو أنّ عليه أن يسأله قبل المبادرة إلى تقديمها. ويُفضّل تجنّب التجمّع حول المعاق مهما كان السبب". ويضيف: "يتوجّب على الشخص الذي يتحدّث إلى المعاق أن يحرص أن يكون على ارتفاعٍ مناسبٍ له، وأن يتجنّب التحدث إليه من الخلف، وإنما وجهاً لوجه". ويتابع: "على المحيطين بالمعاق التعرّف على طريقة تقديم المساعدة بالشكل الذي لا يزعجه؛ فعند ركوب السيارة، على سبيل المثال، يجب على المرافق وضع يده تحت إبط المعاق وحضنه وهو رافعٌ يده، ثم رفعه إلى السيارة".
ويشير يوسف إلى أن الكثير من التصرّفات التي يقوم بها الناس بشكلٍ عفويٍّ تجاه الأشخاص المعاقين حركياً تتسبّب في إيذائهم نفسياً، لذا يتوجّب التنبّه إليها وتجنّبها. ويشدّد على "ضرورة التحدّث مع المعاق بنغمة صوتٍ طبيعيةٍ، خاليةٍ من التحبّب المبالغ فيه. كما تجب مصافحته باليد ولو كانت يداً اصطناعيةً أو يسرى". ويضيف: "يجب على الجميع تجنّب التربيت على رأس أو كتف الشخص الذي يستخدم كرسياً متحرّكاً".