من القاهرة إلى موسكو وبالعكس
علي العبد الله*
تعدّدت اللقاءات وتناوبت بين القاهرة وموسكو، فقد عقد لقاء القاهرة الأوّل في كانون الثاني من العام الجاري، تلته جلساتٌ تشاوريةٌ فيما سمّي بـ"منتدى موسكو". وعقدت جلساتٌ تشاوريةٌ ثانيةٌ في موسكو، سيتلوها انعقاد لقاء القاهرة2 في بداية الشهر القادم.
قيل إن هدف لقاء القاهرة1، الذي اقتصر على اجتماع شخصياتٍ من المعارضة برعايةٍ مصرية، هو "سبر الآراء والمواقف والتشاور حول أفضل الطرق لتوحيد جهود قوى المعارضة السورية لمساعدتها على استعادة دورها وإعادة ثقة المجتمع الدوليّ بها لتُسهم بفعاليةٍ في إيجاد حلٍّ للأزمة السورية والمشاركة في رسمه". وإن هدف الجلسات التشاورية بين النظام والمعارضة، والتي استضافتها موسكو، إجراء حوارٍ سوريٍّ سوريٍّ للاتفاق على تصوّرٍ لحلّ الصراع ومشاركة الطرفين في محاربة الإرهاب.
والحال أن البحث في الواقع والمواقف والتصريحات التي أطلقها المشاركون فيها لا تقود إلى استنتاجاتٍ تتطابق مع هذه الإعلانات، فقد صدرت عن لقاء القاهرة الأوّل (22-23/1/2015) ورقةٌ ختاميةٌ من عشر نقاطٍ ركّزت على عمومياتٍ صيغت بطريقةٍ تجعلها قابلةً لقراءاتٍ وتأويلاتٍ ترضي جميع الأطراف، وتغطي التراجع الذي حصل في المطالب التي تواضعت عليها المعارضة في لقاءاتٍ سابقةٍ، بدءاً من لقاء القاهرة 2012 إلى لقاءات باريس وبروكسل، مروراً بلقاءات إسطنبول. فقد أسقط من المطالب مطلب استبعاد رأس النظام من المرحلة الانتقالية، وتشكيل هيئةٍ حاكمةٍ كاملة الصلاحيات. تنازلٌ مجانيٌّ قبيل الجلوس على طاولة المفاوضات مع النظام، جاء تلبيةً لمواقف الدولة المضيفة. فالنظام المصريّ أقرب، في موقفه في الملف السوريّ، إلى موقف النظام وحلفائه منه إلى موقف المعارضة ومطالب الثورة. وقد سبق له وعبّر عن دعوته إلى الحلّ السياسيّ مقروناً بما أسماه "الحفاظ على الدولة السورية ومؤسساتها"، وربطه ببقاء رأس النظام لسنتين خلال المرحلة الانتقالية، وعبّر إعلامه عن ما في الصدور بالحديث عن إعادة تأهيل النظام وتشكيل حكومة وحدةٍ وطنيةٍ بإشراك المعارضة فيها.
اما جلسات موسكو التشاورية (30-31/1/2015) فقد انكشف هدفها منذ بدء التحضير لعقدها، إذ دُعيَ المشاركون بصفتهم الشخصية، للالتفاف على موقع ومكانة الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة، بالإضافة إلى دعوة شخصياتٍ محسوبةٍ على النظام -أو من صنعه- واعتبارها جزءاً من المعارضة، لاستخدامها في تشويه صورة المعارضة من خلال افتعال خلافاتٍ وسجالاتٍ ومهاتراتٍ وتجويف المطالب وخفض سقفها، والالتفاف على بيان جنيف بإطلاق المشاورات دون جدول أعمالٍ أو مرجعية تفاوض. وقد اضطرّت الخارجية الروسية إلى تعديل الصورة في الدورة الثانية (6-10/4/2015)، التي طلبت "الهيئة" تأجيل جلساتها إلى ما بعد لقاء القاهرة2، لتذهب المعارضة معزّزةً بنتائجه، لكن موسكو رفضت وأصرّت على الموعد، في ضوء فشل الجلسات الأولى وانكشاف اللعبة والسعي إلى استدراج "الائتلاف" للحضور عبر توجيه الدعوات إلى الكيانات السياسية وإعطائها حقّ تسميه وفودها ووضع جدول أعمالٍ بالتوفيق بين مطالب الجانبين.
غير أن اللعبة لم تستمرّ طويلاً، بل انكشفت مع بدء الجلسات المشتركة، إذ جاءت ورقة جدول الأعمال أقرب إلى موقف النظام منها إلى موقف المعارضة؛ ففي ما عدا البند الأوّل حول "تسوية الأزمة السورية بالوسائل السياسية على أساسٍ توافقيٍّ، بناءً على مبادئ جنيف 1"، جاءت بقية البنود، مع صياغاتٍ ملتبسةٍ، "بياناً حكومياً مُصاغاً بالتركيبات والمفردات نفسها التي تعوّد عليها متابعو إذاعة دمشق"، وفق ما جاء في تعليقٍ صحفيٍّ على جدول الأعمال. وقد أثار هذا ردود فعلٍ وتحفظاتٍ ورفضاً من قبل بعض المعارضين، تحوّلت إلى خلافاتٍ بين أطراف المعارضة، ما دفع بالمنسّق الروسيّ إلى الإعلان عن تراجع أطرافٍ مشاركةٍ عن موافقتها على الورقة بعد انتهاء الاجتماعات، رغم موافقتها عليها في اليوم الختاميّ.
وقد تمّ التوافق على البند الأوّل "تسوية الأزمة السورية بالوسائل السياسية على أساسٍ توافقيٍّ بناءً على جنيف1"، بينما احتدم الجدل حول البند الثاني من الورقة المتعلق بـ"مكافحة الإرهاب"، وانتهت الجلسات دون أن يُبتّ في أمره. وقد كانت لافتةً الضجة الإعلامية التي أطلقتها موسكو والنظام حول الإنجاز الذي تمّ، وأهميته، واعتباره قاعدةً لأية مفاوضاتٍ مستقبلية. فقد أعلن منسّق "منتدى موسكو-2"، الروسيّ فيتالي نعومكين، في المؤتمر الصحافيّ: "تمكن الطرفان، الحكومة والمعارضة، ولأوّل مرّةٍ، من تبنّي وثيقةٍ سياسية. وبوسعي أن أسميها "منصّة موسكو". وأشار إلى أن "مشاورات موسكو شكلت قاعدةً للقاءاتٍ مقبلةٍ أينما ستعقد". وأضاف أن "ما تمّ التوصل إليه لا يمكن أن يتجاهله أحد". وأكد: "توصلنا إلى نتائج جدّيةٍ رغم أن البعض قد يشعر بالتشاؤم". وقول رئيس وفد النظام، السفير بشار الجعفري: "استطعنا الوصول إلى ورقةٍ موحّدةٍ عنوانها تقويم الوضع الراهن في بلادنا". وأوضح: "لامسنا في الورقة مشاغل المواطن السوريّ من خلال تقييم خطر الإرهاب وضرورة توحيد الجميع لمحاربته ومؤازرة الجيش السوريّ في ذلك". وأضاف أن "الفارق الجوهريّ بين "موسكو-1" و"موسكو-2" هو الاختراق في التوافق على وثيقة جدية". أقوالٌ نقضها معارضون شاركوا في الجلسات (الدكتور سمير العيطة عن منبر النداء الوطنيّ، والأستاذ حسن عبد العظيم عن هيئة التنسيق الوطنية).
أما لقاء القاهرة2، الذي سيعقد في بداية الشهر القادم (6/5/2015)، فإنه، وكما اتفق في لقاء القاهرة الأوّل، سيضمّ طيفاً واسعاً من المعارضين (قيل بحدود الـ150 مشاركاً) يحضرون بصفتهم الشخصية -ولم يُعرف بعدُ ما إذا كان النظام المصريّ سيبقى على موقفه الرافض لحضور شخصياتٍ من الإخوان المسلمين وإعلان دمشق، كما حصل في اللقاء السابق-؛ فإنه، اللقاء، مثار جدلٍ وخلافاتٍ كبيرةٍ وعميقةٍ في صفوف المعارضة في ضوء ما تسرّب عن سعي جهاتٍ مشاركةٍ فيه، وفي لجنة المتابعة التي "انتخبت" في اللقاء الماضي، وبدعمٍ من النظام المصريّ، إلى تحويله إلى مناسبةٍ لتشكيل تكتلٍ بديلٍ عن الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة تحت ذريعة تشكيل مؤتمرٍ وطنيٍّ سوريٍّ واسع التمثيل لا يستبعد أحداً، وطرح مشروع "ميثاقٍ وطنيٍّ" وخارطة طريقٍ كقاعدةٍ للتفاوض مع النظام حول حلٍّ سياسيٍّ للصراع في سوريا بدلاً عن الأوراق التي كانت قد طُرحت من قبل "هيئة التنسيق الوطنية" (ورقتها الموسومة بـ"خارطة طريقٍ تنفيذيةٍ للحلّ السياسيّ في سورية")، و"الائتلاف" (ورقته المسمّاة "وثيقة المبادئ الأساسية للتسوية السياسية في سوريا")، اللتين انطلقتا من اعتبار وثيقة جنيف1 مرجعيةً لأيّة مفاوضاتٍ محتملةٍ مع النظام، وتمسّكتا بتشكيل هيئةٍ حاكمةٍ كاملة الصلاحيات تدير المرحلة الانتقالية، وبالخطوات التي سيتمّ تطبيقها خلال تلك المرحلة، ما يثير علامات استفهامٍ حول نتائج اللقاء السابق وما تمّ ترتيبه بين الشخصيات التي حضرته، وخاصّةً عبر تمرير تشكيل لجنة المتابعة، هذه اللجنة التي لم تنُتخب بل شُكلت في غرفةٍ مغلقةٍ من شخصياتٍ تتبنى هذا التوجه (كتلتا الجربا وهيثم مناع). وقد كان لافتاً ما جرى في "الهيئة"، حين استقال أربعون من أعضائها احتجاجاً على حوارها مع "الائتلاف". كما يبذل النظام المصريّ جهوداً كبيرةً لضرب الائتلاف، باعتباره تابعاً لتركيا، كجزءٍ من صراعه مع الأخيرة، وإخراج المعارضة السورية منها. ويبدو أن التحرّك المصريّ أثار حفيظة السعودية التي قرّرت عقد مؤتمرٍ للمعارضة السورية فيها، لكنها تراجعت عن ذلك بعد انطلاق عاصفة الحزم حتى لا تثير خلافاً مع النظام المصريّ ما قد ينعكس على موقفه من الصراع في اليمن.
تثير لقاءات القاهرة وجلسات موسكو التشاورية هواجس ومخاوف كثيرةً وكبيرةً في ضوء سعي الدول الراعية (مصر وروسيا ومن ورائهما ايران) إلى تعميق الخلافات بين أطراف المعارضة وتشتيت صفوفها أكثر فأكثر، وإسقاط بيان جنيف بدفع أطرافٍ في المعارضة إلى تبنّي خيار الخلاص بأيّ ثمنٍ دون اعتبارٍ للنتائج، ولهدر التضحيات التي بذلها المواطنون والثوّار من أجل الحرية والكرامة والخلاص من الاستبداد والقهر والتمييز.