السويداء بينَ فَكّي الحرب
جورجيت حنا
منذ سنواتٍ أربعٍ وحتى هذهِ اللحظة، لم تنأَ مدينةٌ أو قريةٌ سوريةٌ من مخالبِ الحرب وإيغالها في مفاصل الحياة. الحربُ التي ما زالت تنهبُ الأرواحَ والبيوتَ والخبزَ منذ اندلاعها، والتي أخذت حيناً شكلَ الدمارِ المطلق، كما في حلبَ ودير الزور.. أو شكلَ الحصارِ الاقتصاديّ القائم على التجويع الممنهج تارةً، أو المفترض كنتيجةٍ منطقيةٍ لحربٍ ضروسٍ لم تبقِ ولم تذر، تارةً أخرى. كما هو واقع الحال في محافظة السويداء التي تبعد مسافة 110 كم جنوباً عن العاصمة دمشق، لتشغلَ بذلك أقصى الجنوب السوريّ، على التخوم مع درعا ومملكة الأردن الحدودية حتى البادية شرقاً، وصولاً إلى الحدود العراقية.
ولا بدّ من الإشارة أولاً إلى أن غنى هذه المحافظة وتنوّعها الديمغرافيّ جعلها تبدو خارطةً مصغّرةً للجغرافية السورية، وإن كانَت غالبية سكانها من طائفة الدروز الموحّدين.
السويداء في بداية الأحداث
شهدت مدينة السويداء تغيّراً جذرياً في موقفها السياسيّ والاجتماعيّ إثر انطلاق المظاهرات المناوئة للنظام السوريّ الحاكم، في درعا منذ 18/ آذار/ 2011. ما أدّى إلى تصاعد حراكٍ مدنيٍّ في المدينة يدعو لمناصرة الجارة في حراكها السلميّ. فانطلقت مظاهراتٌ تدعو إلى السلمية والمدنية ورفع الحصار والإفراج عن المعتقلين، في عدّة مدنٍ وقرىً تتبع للمحافظة إدارياً وجغرافياً، كان أهمها مدينة شهبا، وقرى القريّة، الكفر، صلخد، مردك، عرمان.. وغيرها.
إضافةً إلى اعتصاماتٍ نقابيةٍ في قلبِ المحافظة رفعت شعاراتٍ عدّةً كان أوّلها الإفراج الفوريّ عن المعتقلين السياسيين، كاعتصامات نقابات المحامينَ والأطباء والمهندسين. الأمر الذي أثار حفيظة السلطة الأمنية، إضافةً إلى حفيظة السكان الموالين من ذات المدينة، ما أدّى إلى اصطدامٍ موتورٍ ومشاحناتٍ ليسَ بين أهالي المدينة أو الحيّ الواحد فحسب، بل انتقلَ معظمها إلى داخل البيوت لتشهدَ انشقاقاتٍ سياسيّةً واجتماعيةً خطيرةً بين أفراد البيت الواحد، انتهى بعضها بنتائجَ قد تبدو كارثيّة.
وللوقوف على تفاصيل الأحداث، قامَ فريق مجلة "صُوَر" بتسليطِ الضوء على خفايا ذلكَ الخلل الاجتماعيّ، إن صحّ القول، خلالَ لقاءاتٍ حيّةٍ أجراها معَ بعضِ الأهالي الذينَ نالهم هذا الانقسام السياسيّ.
وكانت حكاية أبي غسّان وأبنائه -الرجل الذي أفضى بما في سريرته لفريق المجلة- الحكاية الأشدّ التصاقاً بالواقع، وربما الأكثر محاكاةً لأزمةٍ اجتماعيةٍ طارئة.
يبلغ أبو غسّان من العمر 66 سنةً. ولديه أربعة شبّانٍ وفتاتان، إحداهنّ متزوجةٌ من عسكريٍّ؛ انتهى بها شجارٌ عنيفٌ مع زوجها، إثرَ موقفها السياسيّ المعارض للنظام الحاكم، مطلّقةً في بيتِ أبيها.
ويُضيف أبو غسّان: "كانت محضَ صدفةٍ أن يلتحقَ ابني الكبير غسّان بالقوّات المسلحة، منذُ خمسِ سنين أو ربما أكثر، ليجاهرَ بديهيّاً بموقفه العسكريّ والسياسيّ الموالي للدولة الحاكمة. ولم يقفِ الأمر عند هذا الحدّ فقط، فمع تسارع الأحداث وتطوّرها، ازدادَ تمسّكاً بـ"مبدئه" القائل: "كلّ مظاهرةٍ خيانةٌ، وجريمةٌ تامّة الأركان عقوبتها الموت".
"وكانت محضَ صدفةٍ أيضاً أن يقفَ ولدي حسّان على النقيضِ من أخيهِ الأكبر، وهو الذي شاركَ في اعتصاماتٍ عدّةٍ. وانتهى الأمر برصاصةٍ استقرّت في قدمه اليسرى، هنا، في البيت (يشيرُ)، كانَ غسّان قد صوّبها على قدم أخيهِ المعارض، إثرَ نقاشٍ ساخنٍ جعلني أدركُ خطورة الموقف، لأرسلَ الأخيرَ إلى بيروت، متفادياً بذلكَ كارثةً قد لا تحمد عقباها".
هكذا يلخّص أبو غسّان، انطلاقاً من بيته، الاحتدام العنيف بين أهالي مدينته، بين موالٍ ومعارضٍ لسلطةٍ سياسيةٍ لم تزل قائمة.
السويداء بين الرصاصِ والخبز
لم تنجُ محافظة السويداء -كمثيلاتها من المدنِ السورية- من مشهدِ الموتِ اليوميّ، ابتداءً من إطلاقِ الرصاصِ المتواصل، لا سيّما في السنة الأولى من الحرب، على الحافلات التي تقلّ الركاب بين دمشقَ والسويداء جيئةً وذهاباً. الأمر الذي أودى بحياة العديدين، دونَ معرفة فاعلٍ رئيسيٍّ يمكن الإشارة إليه يقيناً! وهذا ما أكّده أحد سائقي الحافلات عندما أفصحَ لمجلتنا: "كان مفجعاً ما حلّ بنا؛ فما أن عبرنا قصرَ المؤتمراتِ جنوباً إلى الطريقِ المؤدية من العاصمة حتى السويداء، تماماً قبالةَ بلدة السيدة زينب، حتى انهالَ علينا وابلٌ من الرصاص، كانَ كفيلاً بقتلِ فتاةٍ في التاسعة عشرة من العمر، وشابٍّ في الثلاثين، إضافةً إلى كثيرٍ من الجرحى، كنتُ واحداً منهم".
وعن سؤالنا عن كيفية تفادي هذا الخطر المحيق، لاسيما أنه الطريق الوحيد الذي يصلُ المحافظتين، أجاب: "كانَ لا بدّ من إيقاف بعضِ الرحلات في الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة الاشتباكات بين المعارضة المسلحة وجيش النظام. خاصةً بعد تعرّضنا، خلالَ شهورٍ عدّةٍ، لحوادثَ مشابهةٍ أزهقت أرواحاً كثيرةً. ومن الاحتياطات التي ما زلنا نعملُ بها أننا جعلنا الرحلة الأخيرة التي تغادر دمشقَ جهة السويداء في الثالثة ظهراً، بعدَ أن كانت في الحادية عشرة ليلاً!".
إضافةً إلى ما تقدّم، تعرّض سكان المدينة، إناثاً وذكوراً، لعشراتِ عمليات الخطف والابتزاز، انتهى بعضها بعودةِ المخطوفينَ مقابل مبالغَ كبيرةٍ، وانتهى بعضها الآخر بأوصالِ المخطوفِ مقطّعةً ومرميّةً بين الصخورِ أو الكروم. كانَ آخرها جثة (ع، ع) التي وجدها ذووه -قبلَ أيامٍ قليلةٍ من تحقيقنا هذا- مسجّاةً بالقربِ من تلّةِ (شيحان) المطلّة على مدينةِ شهبا.
ومع تصاعد وتيرة الحرب، تعرّضت قرى السويداء لهجومٍ مباشرٍ من قبلِ فصائلَ تتبعُ لجبهة النصرة -كما أفاد أهالي قرية (دير داما) لمجلتنا- تلك القرية التي تقع في قلبِ منطقة "اللجاة" المتاخمة لسهولِ حوران. إذ قامَ فصيلٌ من جبهةِ النصرة المتشدّدة بدخول القرية وخطف عددٍ من الشبان، إضافةً إلى حرق الكثير من البيوت، ورفع علم الجبهة فوقَ دير القرية، كردّ فعلٍ على وجود النظام الحاكم بالقرب منها، من جهةٍ، ولقربها جغرافيّاً من معاقل جبهة النصرة والجيش الحرّ، من جهةٍ أخرى. وبعد سؤالنا عن الأهالي وعن الوضع الأمنيّ الذي تشهده القرية اليوم، يقول (خ، ق): "لم يبقَ في القرية أحدٌ. هي الآن موطنٌ لجبهة النصرة، بعد أن نزحَ أهلها إلى عمقِ المدينة. أما عن الوضع الأمنيّ فنقوم نحنُ، شباب القرية، باقتحامها بينَ الحينِ والآخر ومشابكة فصائل النصرة داخلها، دون مساندةٍ من الجيش النظاميّ الذي يرفض التدخّل".
هكذا، ومع رزوح المدينةِ تحت أنيابِ الحربِ وأثقالها، كان لا بدّ لها أيضاً أن تسقطَ فريسةَ الجوعِ والحرمانِ وغلاءِ المعيشة، إثرَ النقص الهائلِ في المتطلبات الأولى للحياة، من خبزٍ ووقودٍ وغاز، كنتيجةٍ منطقيةٍ لتدني القوة الشرائية لليرة أضعافاً مضاعفةً على امتدادِ الأرض السورية. ما دفع الأهالي إلى البحثِ عن وسائلِ عيشٍ أخرى، ربما كحلولٍ أوليةٍ. ومن ذلكَ العودة إلى خبزِ الشعير أو (التنّور) كبديلٍ عن خبز القمح، وإلى الاحتطاب كبديلٍ عن المازوت الآخذ بالندرة وارتفاع السعر.