التشابه هو الجحيم
قراءة في رواية "مجهولات" للكاتب الفرنسي باتريك موديانو.
أنجيل الشاعر
باتريك موديانو أديب فرنسي (69 عاماً) نال جائزة نوبل للآداب لهذا العام 2014. تركزت معظم أعماله على حقبة الحرب العالمية الثانية وأربعينات القرن الماضي، لذلك تتكرر في أعماله مواضيع الهوية والفقدان والأمل". وقد نشر روايته الأولى (ميدان النجمة) عام 1968. قالت لجنة نوبل الأكاديمية: إن الروائي الفرنسي استحق الجائزة "بسبب تمكنه من فن الذاكرة الذي أنتج أعمالا تعالج المصائر البشرية العصية على الفهم، وكشف العوالم الخفية (الحياة 10/11/2014). حازت روايته "شخص مفقود" على جازة غونكور الفرنسية عام 1978، وفاز عام 2012 بجائزة الدولة النمسوية للأدب الأجنبي.
تميل نزعته الروائية الى الشك في هوية الكائن والأفراد، وتسعى إلى البحث عن الهوية المفقودة والمنسية. شخصياته مسكونة بهاجس السعي إلى فهم العالم بفوضاه وعنفه وحركاته المتقلبة، كشخصيات روايته "مجهولات"، وهي الرواية الأولى التي ترجمت إلى العربية (2006).
ثلاث نساء، فتاتان وامرأة، تائهات، ضائعات، في هذا العالم المجنون، تبحثن عن أنفسهن بطرق مختلفة، تتقاطع في عدة نفاط أهمها: البحث عن العمل، ثم البحث عن الحب، وهما وجهان مختلفان للبحث عن الذات.
رواية قليلة الصفحات، كثيرة المعاني، هي ضرب من التهكم الخفي من المجتمعات الأوربية المتشابهة الى حد التطابق، في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعيشة، رض لها الكاتب بإسلوب يحاكي إيقاع الحياة في نفوس بطلاته المجهولات.
صور الكاتب معاناة الفرد الإنساني، من وجهها الأنثوي، من خلال فتيات قاصرات يعانين من آثار التفكك الأسري وفقدان حنان الأم ورعاية الأب وحمايته. فتيات تبعثرن بين المدارس الداخلية والملاجئ، قبل أن تلوب كل منهن على غير هدى بحثاً عن العمل والحب، بحثاً عن هوية. وقد سلط الضوء على تلك المعاناة بأشعة ليزرية اخترقت أعماقهن، وفجرت ما بدواخلهنّ من قهر بعد بلوغهنّ "السن القانونية" التي يفترض أن تؤهلهن لاكتساب الحقوق المدنية والسياسية، المحفوظة في النصوص، فآن أوان الاحتجاج على العالم، ولكن بأصوات لا يسمعها أحد. لعل في اقتران البحث عن العمل والبحث عن الحب إشارة إلى نظام اجتماعي لا يعترف بالفرد إنساناً خارج العمل، ولا يبقي على إنسانيته في العمل، حينئذ ماذا يعني الحب؟ هذا هو الفقدان.
بطلة الرواية بلا اسم، ولا وصف، مجهولة، حتى على الورق، غائرة في الظل القاتم الذي يلف عالم المهمشات والمهمشين، فيبدو هؤلاء جميعاً مجرد ظلال. تروي حكايتها، وتترك للقارئ أن يرسم صورتها حسب ما تترك لديه من انطباع. فماذا يعني الاسم في غياب المسمى أو تغييبه؟
طفولة مهدورة، فقدت معناها؛ (سيلفي) تعيش في كنف أم وأب فارغين من معنى الأبوة والحنان، ألحقاها بمدرسة داخلية للتخلص من أعبائها العملية، أما (ميراي) التي تعرفت عليها البطلة لاحقاً، وهي أكبر منها سناً، فقد مرت في ظروف الفتاتين نفسها، وكانت ترى ذاتها فيهما.
توفي والد البطلة منذ كان عمرها ثلاث سنوات، لم يكلمها أحد من العائلة عن والدها، فظل مجهولاً لديها. في سن الحادية عشرة بدأت ترسم له صورة في ذهنها، كما تريده أن يكون، عاطفياً، يشتري لها ما تريد، وما تحتاج إليه في هذه المرحلة من عمرها. ثم أخذت هذه الصورة تكبر معها حتى اكتملت في مرحلة شبابها ببطل من هذا الزمان.
بعد خروجها من الملجأ جابت أنحاء باريس كلها للبحث عن عمل، كانت الخيبة رفيقتها دائماً، وإذا ما وجدت عملاً فلمدة قصيرة، بدل من ضائع. سافرت إلى جنيف، ثم إلى لندن، ثم إلى إسبانيا، لم تجد شيئاً مختلفاً، أرباب العمل متشابهون في التسلط والاستغلال، استغلال جسدها الغض، التهكم من روحها الشفافة. حتى الأماكن متشابهة، الشوارع، الأحياء، المحلات، كان كل شيء يذكرها بباريس المكان الذي هربت منه للبحث عن الذات.
تعود ثانية الى باريس، حيث تلتقي بصديق قديم لأبيها، كان أبوها قد ائتمنه على وصية تخصها: مسدس وعدة طلقات وبعض كتيبات شعرية. استخدمت المسدس في قتل أحد أرباب عملها دفاعاً عن نفسها، جسدها وروحها، أناها التي لم تكن تظهر بعفويتها وحساسيتها إلا لماماً.
الأماكن وحدها تملأ الذاكرة، الأماكن هي الذاكرة: المدن والشوارع والأحياء والحارات الصغيرة، والمقاهي والمساكن المؤقتة .. والأشخاص ظلال. الطبيعة والطبيعة البشرية تتصاديان، أشجار عارية ونساء ضائعات. أماكن متشابهة .. التشابه خواء.
تبدأ الرواية بفصل الخريف، حيث، تتعرى الأشجار من أوراقها تعبيراً عن فقدان الهوية، وتجاهل الإنسان لها، في هذا الوقت من السنة، الفصول تتوالى، لكن الربيع لا يأتي إلا متأخراً، يظهر فجأة في نهاية الرواية متفتحاّ بأزهار تبعث الحياة في الطبيعة والنفس البشرية مصطحباً معه وجه الله الذي غاب هو الآخر من البداية، ثم ظهر من خلال كنيسة (سانت انطوان دوبادو) و(ميشيل) أستاذ الفلسفة، وأحد أعضاء مجموعة "تعاليم البحث عن الذات"، مجموعة روحانية، تثير الجدل عند القارئ في انتماء البطلة واقتناعها السريعين بتلك المجموعة. وإيجاد ذاتها هناك، وأسفها الشديد على أنها كانت تهمل دروس التربية الدينية.
هل هو يأس، أم انتماء حقيقي، أم عزاء؟ في جميع الأحوال، وجدت نفسها هنا، مع أنها كانت قد اهتدت إليها في سن مبكرة حين خرجت على نظام الملجأ وكسرت قيوده وتجرأت على اختراق قوانين الراهبات فتعرت أمام الجميع غير آبهة بالعقاب.
الرواية قليلة السرد، كثيرة الوصف، وفي كلتا الحالتين كان الكاتب مبدعا. الخطاب الروائي منسجم مع ضمير المتكلم والتعريج في بعض الأحيان على ضمير المخاطب، ومع الحبكة المستوفية شروطها الروائية، صور الرواية جميلة، تبرز اتساع خياله زعذوبة أسلوبه.
فقدان الهوية، فقدان الانتماء، فقدان الثقة بالآخرين، الضياع، البحث عن الذات، في مجهولات، ومجهولين، فينا جميعاً في هذا العصر، عصر الجنون، وأبناء القهر.
الرواية: مجهولات
الكاتب: باتريك موديانو
ترجمة: رنا حايك
دار ميريت للطباعة والنشر – القاهرة
الطبعة الأولى عام 2006
1-12-2014