مدنٌ سوريةٌ بين أنياب الحرب
جَرَمانا الرازحةُ تحت حصارين
جورجيت حنا
كنا قد توقفنا في تحقيقنا الأول عند مدينةِ السويداء، محاولةً منّا أنْ نُطلعَ القارئَ، بحيادٍ تامٍّ، على مجرياتِ الحدثِ اليوميّ في مدنٍ قلّما سُلّطَ عليها الضوء منذُ اندلاعِ الحرب على الأرضِ السورية. أمّا اليوم -في تحقيقنا هذا- فسنتوقفُ عندَ مدينةٍ أخرى، مدينةٍ تحملُ من المعاناةِ والألم والغرابة ما يستوقفُ لبّ القارئِ وعقلَهُ معاً.
مدينةُ جرمانا:
تبتعدُ مدينة جرمانا مسافة أربعة كيلومتراتٍ جنوب شرق العاصمة دمشق، في قلب سهلٍ زراعيٍّ يعدّ امتداداً طبيعيّاً لغوطتها الشرقية، ما جعلها جزءاً لا يتجزّأُ من الريف الدمشقيّ الذي رزح تحتَ أوزار الحربِ الثقيلة. وتعدّ جرمانا أكثر المدن السورية غنىً وتنوّعاً ديمغرافيّاً، إذ يقطنها مختلف السوريين بكافة مذاهبهم وانتماءاتهم الطائفية، من دروزٍ ومسيحيينَ وعلويينَ وسنّة.
جرمانا في بداية الحرب:
لم تشهد المدينة كغيرها من مدنِ الغوطة حراكاً شعبيّاً مباشراً مناوئاً للسلطةِ الحاكمة، مما أبعدها مؤقتاً عن مشهدِ الموتِ السوريّ. إلا أنّ هذه السلامة المفترضة لم تدم طويلاً، فسرعانَ ما تحوّل حلمُ الطمأنينة إلى واقعٍ أسود تقوده مصالح الحرب وزعاماتها، واقعٍ فرضَ نفسه أولاً مع حركاتِ النزوحِ الجماعية التي قصدت المدينة من كافة المدن السورية وضواحيها، سيّما غوطتي دمشق، ما جعلَ الأهالي يسارعونَ إلى الاشتغال في أعمالِ الإغاثةِ الإنسانية عن طريقِ جمعيّاتٍ صغيرةٍ أسّسها شبّانٌ معارضون خارج قبضةِ السلطة ووصاياها، الأمر الذي أثارَ حفيظة السلطة الممثلة بفروعِ الأمنِ واللجانِ الشعبيةِ ولجان الدفاعِ الوطنيّ المنتشرة بكثافةٍ في كافة شوارع المدينةِ الرئيسية، لتنفّذَ السلطة بدورها موجةَ اعتقالاتٍ عشوائيةً نالت كلَّ من سوّلت له إنسانيته القيامَ بعملٍ إغاثيٍّ بتقديم الغذاء أو الكساء أو المسكن لسوريينَ تعرّضوا لأقسى أنواعِ البطشِ والتغريبِ والتهجير. وانتهى الأمر ببعض معتقلي جرمانا إلى الموت تحتَ التعذيب!
وهذا ما أكّده (غ، ق)، أحد سكان جرمانا، حينَ صرح لمجلتنا: "مع تزايد عمليات النزوح الجماعيّ، خاصةً من ريفِ دمشق، غصّت شوارع وحدائق المدينة بالعائلاتِ التي لا مأوى لها أو حتى مأكل. فسارعتُ، مع مجموعةٍ من الشبّانِ والفتيات، إلى تأمين ما نستطيع من مسكنٍ بالدرجةِ الأولى، ومن ثمّ قمنا بتنظيمِ عملٍ إغاثيٍّ لتوصيل معوناتٍ غذائيةٍ دوريةٍ للعائلات آنفة الذِكر. ما أدّى نهايةً إلى اعتقالي شهوراً ثلاثةً في فرع أمن الدولة التابع للمدينة، تعرّضت خلالها لكافةِ أشكالِ التعذيبِ الجسديّ والنفسيّ، بتهمة التآمر على أمن الدولة والإخلال به!".
ولن يقفَ الأمرُ عند هذا الحدّ المتواضع من الألم؛ فمعَ اشتدادِ وتيرة الحرب بين جيش النظام السوريّ والمعارضة المسلحة، تعرّضت جرمانا لوابلٍ من قذائفِ الهاون والقذائف الصاروخية التي بلغ عددها، حسب ما أكّد سكان المدينة، ما يقاربُ الـ/6000/ قذيفةٍ، راحَ ضحيتها العشرات من المدنيين. وعند سؤالنا عن المسؤول المباشر الذي يقف خلف استهداف المدينة بالقذائف والصواريخ يقول (ط، ك): "لا نملك دليلاً واضحاً يدين المعارضة السورية باستهدافنا، إلا أننا نميلُ إلى اتهام السلطة الحاكمة الممثلة بالجيش السوريّ، إمعاناً منه في بثّ التفرقة بين سكان الوطن الواحد، سيما بعد اكتظاظ المدينة بالنازحين. لكنّ هذا لا ينفي التهمة عن بعض المتشدّدين في المعارضة المسلحة".
السيارات المفخّخة وجحيمٌ آخر من الرعب:
يوماً بعدَ يومٍ يزداد المشهد السوريّ إغراقاً في العنف والدموية. أسبابٌ كثيرةٌ للموت ربما كانَ أكثرها قسوةً السيارات المفخّخة التي زرعها قتلةٌ محترفون في البلداتِ والأحياء جميعاً. فكانَت لجرمانا، المدينةِ المحايدة -إن صحّ القول- الحصّة الأكبر من آلة القتل الجماعية تلك.
تبدأ فصول الحكاية باستهدافِ عسكريين أو متطوّعين في لجانِ الدفاع الوطنيّ يتبعونَ مباشرةً لفصائل السلطةِ الحاكمة وجيشها، فقد قام بعض عناصر المعارضة المسلحة بزرع قنابل صغيرةٍ في سياراتٍ تابعةٍ لهؤلاء، لتنفجرَ السيارة بعدَ وقتٍ قصيرٍ من قيادة الشخص المستهدف لها. تكرّرت هذهِ العملية مرّاتٍ عدّةً، إلا أنها لم تُثر الكثير من السخط لدى أهالي جرمانا، مستأنسينَ بالقول: "هي ضريبة الإذعانِ للسلطة". الأمر الذي استعجلَ رجالات الدين لدى طائفة الدروز الموحّدين -التي تشكّل غالبية سكان المدينة- إلى النأي بالنفس من خلالِ معروضٍ أوّل حرّموا به الصلاة الجنائزية على أيّ شابٍّ أو عسكريٍّ يُقتل خارج حدود البلدة، مشيرين بذلك إلى ضرورة عدم انخراط شبّان المدينة في حرب النظام، وخاصّةً المعارك التي تقودها الدولة في البلداتِ والريف الدمشقيّ، ليدرأوا بذلك أيضاً خطرَ الانقسامِ أو نار الفتنة بينَ أهالي الغوطةِ الواحدة. فيسارع النظام، كنتيجةٍ حتميةٍ، إثر التصريح أعلاه، بتجنيد شبّانٍ من خارج جرمانا، ينتمون بأغلبيتهم إلى اعتقاداتٍ دينيةٍ توافق ما تذهب إليه السلطة في حربها، فأتى بجنودٍ من (حزب الله) اللبنانيّ وآخرين من لواء (أبو الفضل العباس) العراقيّ، إضافةً إلى شبّانٍ سوريين من مناطق السيدة زينب والمخيّمات الفلسطينية المحاذية، ليجنّدهم أخيراً في حربه، من جهةٍ، وليطبق الخناق الأمنيّ على مدينةِ جرمانا، من جهةٍ أخرى.
ومع تسارع الأحداث بدأ فصلٌ آخر من التفجيرات، لكنه أشد وطأةً وقسوة، حين بدأت أيادٍ مجهولةٌ بوضع سياراتٍ تحملُ عشرات الكيلوغرامات من الموادّ المتفجرة بين المدنيين دونَ هدفٍ واضحٍ للفعل سوى الإمعانِ في القتل، مزهقةً مئات الأرواح والأجساد. وكان أكثر تلكَ التفجيرات فتكاً "تفجير ساحة الرئيس"، كما يسميه أهالي المدينة. يقول (ح، ع) لفريق عمل مجلتنا:
"الأمر أسوأ من أيّ وصف. كانت كارثةً بشريةً بكلّ ما تحمله الكلمة من ألم. ففي تاريخ 28/11/2012 استيقظت المدينة على صوت انفجارٍ هائلٍ تمام الساعة السادسة والنصفِ صباحاً، ليهرع سكانها إلى مكان الحادث علهم ينقذونَ من يمكن إنقاذه. كانت الحصيلة الأولى للتفجير أربعة شهداء فقط. لكنّ الذي حصل لم يكن في حسبان أحد، فما أن بدأنا بنقل الجثث والجرحى حتى اقتربت سيارةٌ سوداء من ماركة (مرسيدس) لتقف بين المسعفين الذين يُقدّر عددهم بالمئات، ويترجّل منها شابان بعد فتح أبوابها الأربعة، فيظن الجميع أنها كغيرها أتت للإسعاف! ولكن، وبعد ابتعاد الشابين مسافةَ عشر دقائق عن المكان، دوّى صوتٌ هائل، إذ انفجرت السيارة عينها مخلفةً أشلاء العشرات. كنتُ لحظتها أقوم بإسعاف جريحٍ على بعدِ سبعين متراً تقريباً من الانفجار الكارثة، لأنجو بعد أن رأيت عشرات الأجساد الأخرى تحترق في الهواء".
ولدى سؤالنا عن أعداد القتلى في التفجير المذكور، وعن الجهة التي تقف وراء هذه الجريمة، يجيب (ح، ع): "بلغ عدد الشهداء ما يقارب المائة، إلا أنّ أشلاء كثيرةً لم تُعرف هوية أصحابها حتى هذه اللحظة. أما عن الجهة المسؤولة عن هذا فالأمر لا يتعدّى احتمالين، إما المعارضة المتشدّدة المتمثلة بجبهة النصرة وبتنظيم الدولة المُكنّى بـ(داعش)، أو أجهزة الأمن السورية، مستفيدةً بذلك من حالة الذعر والفوضى بين الأهالي، من جهةٍ، ومن بثّ روح الكراهية تجاه الحراك الذي يعمّ أنحاء الدولة، من جهةٍ أخرى".
وقد استمرّت أعمالُ التفجير تلك، والتي غابت عنها الصفة الانتحارية -كما أكّد شهود عيانٍ لمجلتنا- لعامينِ متتالين، حصدت خلالهما مئات أرواح المدنيين.
جرمانا بينَ حصارين:
معَ تفاقم الصراع بين الأطراف المتناحرة وقع سكان المدينة في كمّاشة الحرب الدائرة، المتمثلة بالخوف: أولاً من موجة الاعتقالات التعسّفية والخطف والابتزاز، وثانياً من دخول مسلحي المعارضة "المتشدّدة" إلى مدنٍ وبلداتٍ لا تفصلها سوى أمتارٌ قليلةٌ عن المدينة، كبلدات المليحة وبيت سحم والدخانية. ذلك الخوف المدعوم دائماً بدعاية السلطة وإعلامها عن طغيان تلك الجماعات وارتكابها أبشع الجرائم بحقّ المدنيين، ليجد السكان أنفسهم فريسةً سهلةً لطرفي النزاع، فحار أهلها في اتخاذِ موقفٍ معتدلٍ ربما يقيهم الموتَ أو الفقد. ومع اقتراب المعارضة المسلحة من المدينة، لا سيما بعد دخولها بلدة الدخانية، اشتدّت قبضة النظام الأمنية على جرمانا، وبالتالي ازدادت موجة اعتقال الناشطين والحقوقيين، تزامناً مع سقوط المزيد من القتلى جرّاء القصفِ المتواصل بقذائف الهاون والصواريخ محلية الصنع على أحياء المدينة.
غضبٌ وربما حرب:
مع الانتشار الأمنيّ والعسكريّ غير المسبوق في شوارع المدينة، وجد الأهالي أنفسهم يرزحون تحتَ نوعٍ آخر من الاحتلال. ومما زاد الأمور تعقيداً تمادي هذهِ القوات في التعرّض للسكان، متجاوزةً بذلك جميعَ القوانين والأنظمة، ما أدّى إلى احتكاكاتٍ مباشرٍة بينَ الأهالي والمسلحين العسكريين، كان آخرها، كما أدلى (ي، ب) لمجلتنا:
"رفضَ عددٌ من عناصر الفرقة الرابعة، التابعة للجيش السوريّ، دفع ثمن الطعام الذي أكلوه في مطعمٍ يطل على حيّ (الخضر)، فقام صاحب المطعم بطردهم، ليعودوا مجدّداً ويطلقوا النار على المطعم المذكور مخلّفين بذلكَ قتيلاً وأربعة جرحى! الأمر الذي دعا السلطات إلى سحب معظم قوّاتها، بشكلٍ مؤقتٍ، تحسّباً لنارٍ قد تتّقدُ شرارتها".
وحتى اللحظة ما زالت المدينة التي تعاني الحصارين. المدينة التي شرّعت أبوابها للنازحين والمهجّرين، تنتظر، كغيرها من المدن السورية، رحيلَ الموتِ والقاتل.