في مسألة “الأقليات” وصناعة الطائفية
جاد كريم الجباعي*
ثمة سجالٌ حول موقف "الأقليات"؛ يرى بعضهم أنها بقيت في منزلةٍ بين المنزلتين. والسجال غيرُ النقاش والحوار، لأنه ينطلق من مسبقات المتساجلين وتقديراتهم الذاتية، ويعني قولَ الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، بغية إفحام الخصم أو إدانته سياسياً وأخلاقياً. إذا كان هناك من يرى أن الأقليات بقيت في منزلةٍ بين المنزلتين، فإن أكثرية المساجلين يتحدّثون عن تحالف الأقليات. وسأناقش هذا الموقف، لأنني لا أعرف من يقول بأنها في منزلةٍ بين المنزلتين وما هي حجّته.
في البداية، علينا أن نتساءل: من هم المتساجلون في هذه المسألة؟ هل هم المسلمون والمسيحيون عامةً، أم السنة والشيعة، أم السنة والعلويون والدروز والإسماعيليون، أم العرب والكرد، عامةً؟ المتساجلون قسمٌ من نخبةٍ سياسيةٍ تدافع عن السلطة وتسوّغ احتكارها، وقسمٌ منها يطالب بالسلطة ويتطلّع إلى احتكارها، ويحتاج أيٌّ منهما إلى عصبيةٍ وعقيدةٍ إبرائيةٍ لتبرير مشروعيتها، وإلى جمهورٍ لا يستطيع مخاطبته إلا بمفردات ثقافته ومستوى إدراكه، ليقول لهذا الجمهور ما يعرفه الجمهور نفسه ويؤمن بصحّته، فيقع التصديق الضروريّ للتعبئة والحشد والتجييش. هذه الشريحة من الموالين والمعارضين هي من تصنِّع الطائفية المذهبية وتورّث العصبيات، وتعتبر الأفراد وسائل وأدواتٍ لتحقيق غاياتها.
يتّصل السجال الدائر حول موقف الأقليات مباشرةً بحكمٍ أيديولوجيٍّ - سياسيٍّ مفاده أن النظام السوري نظامٌ طائفيٌّ، علويٌّ، وسلطته علوية، وأن "الأقليات" متحالفةٌ معها. هذا الحكم كان يقال همساً، ثم صار جهراً. وقد كتبتُ غير مرّةٍ في نقده وتفنيده، لأنه يتغاضى عن البنية التسلطية للنظام، وعن نظام الامتيازات وتسلسل الولاءات، وعن اختراق بنى المجتمع والاحتكار الفعّال لمصادر السلطة والثروة، وعن الظاهرة الجماهيرية، وعن الزبانة السياسية وآليات الاصطفاء والتهميش التي مارستها السلطة ولا تزال تمارسها... وينطلق هذا الحكم من تحديدٍ هوويٍّ، إثنيٍّ ومذهبيٍّ، لكلٍّ من الأكثرية والأقلية / الأقليات، ومن بداهة حقّ الأكثرية العربية السنية في الحكم. هكذا فهم الديمقراطية كثيرون منا، بعضهم من نجوم الثقافة والإعلام.
صناعة الطائفية المذهبية، كصناعة النسيج، تحتاج إلى أسْديةٍ (جمع سداة) ولحمة؛ الأسْدية هي شعور الجماعات بالتمايز والاختلاف، وهذا أمرٌ بدهيٌّ ولا ضير منه ولا شرّ فيه، واللحمة هي السياسة الطائفية المذهبية للسلطة المركزية. فحين تكفّ السلطة المركزية، سلطة الدولة، عن كونها لحمة الطائفية المذهبية، تكف الطائفية المذهبية عن الوجود، بصفتها هويةً ونسقاً لتوليد الكراهية والعنف، ويغدو الاختلاف، من ثمَّ، ثروةً اجتماعيةً وثقافيةً وأخلاقية. وإلى ذلك فإن الطائفية، في سوريا وغيرها، صناعة "نخبةٍ" سياسيةٍ لم تصفِّ حسابها مع وعيها السابق، ما قبل السياسيّ وما قبل المدنيّ وما قبل الوطنيّ، واصطنعت خطاباً سياسياً - تاريخياً يقول للمخاطَبين ما يعرفونه وما هو مختزنٌ في ذاكرتهم الجمعية، فيقع التصديق التامّ، وهو قوام التعبئة والتجييش وعلّة التعصب. لذلك لم تختلف الأحزاب العقائدية عن العشائر والطوائف المذهبية. ولم يختلف كثيرٌ من المثقفين "العلمانيين" الذين انخرطوا في هذه الأحزاب عن الفقهاء.
لقد كانت هناك تكتلاتٌ طائفيةٌ في حزب البعث منذ تسلّمه الحكم، أشار إليها كثيرٌ من قادته في مذكراتهم، وأشار إليها باتريك سيل ونيكولاوس فاندام وغيرهما، لكن حزب البعث لم يكن حزباً طائفياً، بل قومياً بالمعنى الإيطاليّ والألمانيّ، لأنه استمدّ أيديولوجيته من ثقافة هاتين القوميتين، بصورةٍ أساسية. وحديث "تحالف الأقليات" قديمٌ؛ في عهد "الشباطيين" بين عامي 1966 و 1970، كان الحكم يوصف بأنه "عدس مسوِّس"، أي حكم علويين ودروز وإسماعيليين، ثم عادت هذه النغمة مع انحسار الحراك الشبابيّ السلميّ وبروز الجماعات المسلحة بلبوسٍ إسلامويٍّ، وقد عدَّها بعضنا "ذراع الثورة العسكريّ". ولي قراءةٌ مختلفةٌ في مسألة الثورة والحرب لا يتّسع المجال لبسطها، فرّقتُ فيها بين إرادة الحرية وإرادة السلطة (راجع: المجتمع الموازي، مجلة عمران، العدد السابع، 2014).
أفترض أن مقولة الأكثرية والأقليات مقولةٌ أيديولوجيةٌ - سياسيةٌ، في أيّ مجتمع، يتبنّاها من يعتقدون أن العرق و / أو الدين أو المذهب أو العقيدة العلمانية هوية، وأن الجماعة العرقية أو المذهبية أو العقائدية بنيةٌ متجانسة. وهؤلاء شريحةٌ من الإنتلجنتسيا، كما تقدَّم، لا نستطيع تقدير نسبتها، ويبدو أنها غير قليلةٍ. المولودون من هؤلاء في أسرٍ عربيةٍ سنّيةٍ، في سوريا، يعتقدون أن العرب السنّة مثال ما "يجب" أن تكون عليه الأمة، والمجتمع والشعب، وأن الوطن وطن العرب السنّة والدولة دولتهم. ومن ثمَّ فإنّ غير العرب وغير المسلمين السنّة أقليات، أقلّ قيمةً وأدنى منزلة، وأمرهم في يد "الأكثرية"، بوصفهم إما ذميين وإما ضالين وإما غرباء وإما مواطنين من الدرجة الثانية ومشكوكاً في ولائهم، في أحسن الأحوال. تعبّر عن ذلك أيديولوجية الإسلام السياسيّ، المنظّم، كالأخوان المسلمين، وغير المنظّم، وهذا الأخير يتزيَّا بزيٍّ "ديمقراطيٍّ". فالمسألة لا تتعلق بالإسلام والإيمان، ولا بالوجود التاريخيّ لجماعاتٍ إثنيةٍ ودينيةٍ ومذهبيةٍ مختلفة، بل تتعلق بأيديولوجية السلطة والسلطة المضادة. فمن غير الواقعيّ أن نتحدث عن كتلٍ متجانسةٍ، كالمسلمين والمسيحيين والسنّة والشيعة والعلويين والدروز والإسماعيليين، أو الكرد والآثوريين وغيرهم ونحكم فيها أو لها أو عليها، أياً كانت معايير الحكم.
مقولة الأقليات مقولةٌ ذات دلالةٍ تحقيريةٍ، لم يجرِ فحصُها ونقدُها، وهي جزءٌ من ثقافة الاستعمار. وإستراتيجية "حماية الأقليات" إستراتيجيةٌ استعماريةٌ تُلقَى مسؤوليتُها على "الأقليات". ومقولة "تحالف الأقليات" الشائعة اليوم والتي يطلقها بعضنا، بلا تبصّرٍ، تنبع من وعيٍ أو لاوعيٍ عصبويٍّ، وتنطوي على أمرين: أولهما تخوين "الأقليات" أو تكفيرها، والثاني تهديدها، مما يزيد من توجّس الجماعات غير العربية وغير السنّية، ويضاعف مخاوفها.
لعلّ الخروج من هذه الالتباسات مرهونٌ باستقلال الثقافة عن السياسة واستقلال الفكر عن الأيديولوجيا أولاً، ونزع الطابع الأيديولوجيّ عن السياسة ثانياً. فلا توجد الطائفية المذهبية، ولا يتحوّل مجرّد وجود جماعاتٍ مختلفةٍ إثنياً ودينياً ومذهبياً إلى معضلةٍ سياسيةٍ ومصدرٍ للنزاع، أو غطاءٍ لأسبابه الفعلية، إلا حيث تكون السياسة أيديولوجيا والأيديولوجيا سياسةً.
أخيراً، يجب الاعتراف بأن للأفراد والجماعات حقوقاً متساويةً في تحديد خياراتهم أو اتخاذ هذا الموقف أو ذاك، كالمعارضة أو الموالاة، وفق ما يعتقدون أنه خيرٌ لهم، حقيقةً أو توهّماً. من دون هذا الاعتراف الضروريّ لا يمكن إطلاق نقاشٍ عامٍّ حول المسائل الوطنية، نحن أحوج ما نكون إليه. وإلا كيف يمكن إنتاج فضاءٍ عامٍّ وإدراك المصلحة العامة المشتركة، التي لا تنفي المصالح الخاصّة للأفراد والجماعات؟
الأكثرية والأقليات جماعاتٌ ثقافيةٌ لا تتحوّل ثقافاتها إلى غطاءٍ للتعارضات الاجتماعية السياسية والنزاعات على السلطة والثروة ومصادر القوة وعوامل ذاتيةٍ لهذه وتلك إلا حين يتراجع البعد الإنسانيّ والعقلانيّ في ثقافة هذه الجماعات، وحين تمنح "الأكثرية" ثقافتها طابعاً معيارياً، تعيّن به حدود الأمة والدولة ومعنى الشرعية والسيادة.
* كاتبٌ وباحثٌ سوريٌّ. يدير موقع (سؤال التنوير) الإلكترونيّ. نُشرت له عدّة كتبٍ ومؤلفاتٍ منها: (حرية الآخر، نحو رؤية قومية ديمقراطية)، (حوار العمر، أحاديث مع الياس مرقص)، (قضايا النهضة)، (المجتمع المدنيّ هوية الاختلاف)، (المسألة الكوردية.. حوارات ومقاربات).