موسكو1.. اغتيال الثورة
علي العبد الله*
بين زيارة وفدٍ من معارضين سوريين، برئاسة الأستاذ أحمد معاذ الخطيب، في (7/11/2014)، وموعد عقد اجتماع موسكو تغيّر الموقف الروسيّ تغيراً كبيراً. فبين ما سمعه الأستاذ الخطيب ودفعه إلى التفاؤل، وتهديد وزير خارجية روسيا، السيد سيرغي لافروف، للمعارضات التي ترفض المشاركة في الحوار، بونٌ شاسع.
فما الذي غيّر موقفها؟
كانت موسكو، قبل حملة التحالف الدوليّ على "داعش"، قد اعتبرت أنها سجّلت نقطةً على واشنطن بإفشال مؤتمر جنيف2، وإعطاء النظام السوريّ مزيداً من الوقت ليلحق الهزيمة بالثورة، ويجبر المجتمع الدوليّ على العودة إلى الإقرار بشرعيته والتعاطي معه. ولكن الحملة الدولية (بالإضافة إلى التصعيد الأمريكيّ ضدّ روسيا، بعزلها دولياً وفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية عليها (والتي تسبّبت بهروب رؤوس الأموال وانهيار سعر الروبل) وإغراق سوق النفط العالميّ، وانهيار الأسعار بشكلٍ دراميٍّ، ما أضاع على الخزينة الروسية مليارات الدولارات، وتقديم الدعم لأوكرانيا، ونشر قوّاتٍ لحلف الناتو في شرق أوروبا) قد غيّرت المواقع، وأصبحت روسيا في موقع الخاسر. فجاء قرارها بالردّ، وعلى أكثر من مستوى، من تحليق الطائرات العسكرية الروسية فوق الأطلسيّ وبالقرب من السواحل الأوروبية والأمريكية، إلى اصطحاب بوتين مدمّرةً مسلحةً إلى اجتماع دول العشرين في أستراليا والتلويح باستخدام الأسلحة النووية، وصولاً إلى استعراض الأسطول الروسيّ أمام الشواطئ البريطانية، وتحريك الملف السوريّ بالدعوة إلى حوارٍ يجمع المعارضة "البنّاءة" و"التي تلبّي الدعوة"، بتعبير ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية، أولاً، والسوريين (النظام والمعارضة) في موسكو تالياً، "لأنه لا يمكن بحث ملف التسوية من دونهم" كما قال.
غير أن المفاجأة التي لم تتوقعها موسكو هي أن يأتي رفض المبادرة من حليفيها، النظام السوريّ وإيران. فما أن انتهت زيارة وفد المعارضين السوريين، وانطلاق الحديث عن وجود مبادرةٍ روسيةٍ، وإشاعة الخطيب أجواء من التفاؤل، حتى جاء ردّ النظام وإهالته التراب عليها بإعلان مسؤولٍ فيه "أن المبادرة حاجةٌ روسيةٌ وليست حاجةً سورية". وتلميح جريدة "الأخبار" اللبنانية إلى رفض إيران لفكرة الحوار، بصيغةٍ مواربةٍ، عندما قالت، في ختام حديثها عن المبادرة: "المعضلة في إقناع إيران بها".
وقد أكّد النظام، بعد زيارة وزير خارجيته إلى روسيا (26/11/2014)، رفضه المبادرة وشكّك في جدواها. وسرّب إلى مراسل جريدة "القدس العربي" في دمشق صورةً مناقضةً لما نقله الخطيب. فقد نقل المراسل عن مصادره قولها: "إن هوامش التحرّكات السياسية الروسية.. محدودةٌ بعض الشيء. وهي لا تشمل حتى مجرّد أفكارٍ قد تطال موقع الرئاسة، كما لم تتطوّر لتشمل أفكاراً بخصوص حكومةٍ انتقاليةٍ أو حتى حكومة وحدةٍ وطنيةٍ تشترك فيها السلطة والمعارضة". وأضاف: "إن الهوامش التي تتحرّك فيها الدبلوماسية الروسية، حتى اللحظة، منصبّةٌ على إنضاج بيئةٍ سياسيةٍ تدفع أطيافاً من معارضة الداخل والخارج للانخراط في انتخاباتٍ برلمانيةٍ مقبلةٍ تجري في موعدها الدسـتوريّ في العام 2016". وهذا سيعني "تقبّل الطرفين لبعضهما"، وخلق مناخٍ "لتشكيل حكومة وحدةٍ وطنية". وهو أمرٌ "أكثر واقعيةً من البحث في حكومةٍ انتقاليةٍ أو حكومة وحدةٍ وطنية".
ولقد عكست التصريحات الروسية التالية تراجعاً عن التفاؤل، وتحدّثت بحذرٍ عن المبادرة وفرص نجاحها، مكرّرةً المعزوفة الأثيرة على قلب النظام عن محاربة الإرهاب في سوريا، وعن مضمون القانون الدوليّ الذي يفرض التنسيق مع النظام السوريّ في محاربته. وجدّدت تمسكها ببيان جنيف1، وفق قراءتها التي تقوم على أولوية محاربة الإرهاب، وإعطاء رأس النظام دوراً في المرحلة الانتقالية وحقّ الترشّح إلى الرئاسة في نهايتها، كأساسٍ للحلّ. وتهيئة الظروف لاستئناف عملية التسوية السلمية، بموازاة محاربة الإرهاب، وتوحيد الجهود لذلك. وأكّدت هذا التراجع قائمة أسماء الشخصيات المعارضة التي ستدعى إلى مؤتمر موسكو1، إذ بيّنت توجّه موسكو إلى دعوة معارضين بالاتفاق مع النظام، حين ضمّت القائمة شخصياتٍ إما على علاقةٍ طيبةٍ معها أو مع النظام السوريّ، ودعوتهم بصفةٍ شخصيةٍ، لضرب المعارضين ببعضهم وتمزيق أطرهم السياسية من جهة، والالتفاف على موقع ومكانة الائتلاف الوطنيّ لقوىّ الثورة والمعارضة، باعتباره ممثلاً شرعياً للشعب السوريّ، باعتراف أكثر من مائة دولةٍ، بالإضافة إلى اعتراف الأمم المتحدة به كطرفٍ محاور، من جهةٍ ثانية.
لم تنجح تراجعات موسكو، وتنفيذها لطلبات النظام بموافقته المسبقة على قائمة المدعوّين، وتأكيدها على أولوية محاربة الإرهاب. واضطرّتها حاجتها إلى عقد المؤتمر، كنقلةٍ في إطار الصراع مع الغرب بعامّةٍ والولايات المتحدة بخاصّة، إلى تقديم تنازلاتٍ أخرى بسحب اقتراحها باعتبار لقاء موسكو1 مدخلاً لجنيف3، وسحب بيان جنيف من جدول الأعمال، واعتماد صيغةٍ أوليةٍ في المفاوضات، صيغة "دون ورقة"، وإلغاء اعتبار المؤتمر مفاوضاتٍ، بل حواراً مفتوحاً دون جدول أعمالٍ أو شروطٍ مسبقةٍ، قبل أن تعتبره مؤتمراً تشاورياً، كما نقل "معارضٌ" قريبٌ منها: "لقاء موسكو سيعقد لأنه تشاوريّ. ولن يحصل فيه تصويتٌ او اتخاذ قراراتٍ كبرى أو تفاهماتٍ سياسية". وطابقت بين فكرة تجميد الصراع في المدن، التي طرحها المبعوث الدوليّ ستيفان دي ميستورا، والمصالحات التي يجريها النظام مع الكتائب المقاتلة في بعض الأحياء والبلدات التي تسيطر عليها، تحت ضغط التجويع. فوفق بيان الخارجية الروسية فإن "مبدأ تنفيذ التجميد الموضعيّ يُطبَّق بنجاحٍ في منطقة الغوطة الشرقية، حيث تمكنت السلطات من إبعاد حوالي ألفي شخصٍ عن مناطق الأعمال العسكرية، وتنظيم وضع حوالي 450 شخصاً من أفراد المجموعات المسلحة المعارضة، الذين اتخذوا قراراً بالتخلي عن الممارسات المسلحة". وتابعت "نرى أن التجربة التي ستتراكم نتيجة مثل هذه التجميدات، ستكون مفيدةً جداً. والطرق المستخدمة لحلّ أوضاعٍ صعبةٍ بهدف وقف العنف، يمكن أن يتمّ استخدامها في حلب".
لم تشعر موسكو بحرجٍ من الاستجابة لكلّ طلبات النظام. بل وذهبت بعيداً في رفض طلبٍ بسيطٍ للمعارضة التي أرسلت تطلب إعادة النظر في صيغة الدعوة، لتكون لكياناتٍ سياسية، لا لأشخاصٍ بعينهم، وإخراج بعض الشخصيات من قائمة المعارضة وإضافتها إلى قائمة النظام. فقد ردّت بالرفض وأصرّت على موقفها. ولما رفضت بعض الشخصيات (الأستاذ أحمد معاذ الخطيب) والكيانات السياسية (الائتلاف الوطنيّ، وتيار بناء الدولة) المشاركة ردّت موسكو بأنها ستعقد المؤتمر بمن حضر، وهدّد السيد لافروف الرافضين "بأنهم سيفقدون دورهم في عملية التفاوض".
أربك رفض بعض الشخصيات والكيانات الموقف الروسيّ، فلجأ إلى احتواء السلبيات التي ستترتب على ذلك بخفض سقف التوقعات من المؤتمر، فأعلن السيد لافروف: "إنه (المؤتمر) يهدف إلى تجاوز أخطاء جنيف2؛ الخطأ الأول: تغييب وتجاهل أطرافٍ كثيرةٍ من المعارضة السورية وتوجيه الدعوة إلى طرفٍ واحدٍ مقرّه في إسطنبول (يقصد الائتلاف)، والخطأ الثاني: تحويل الفعالية إلى استعراضٍ سياسيٍّ وإعلاميٍّ بدلاً من توجيه حوارٍ معمّقٍ ومسؤولٍ حول القضايا المطروحة". وقال رئيس معهد الاستشراق، المستعرب الروسيّ فيتالي نعومكين، الذي سيدير جلسات الحوار، إنه سيعتبر المؤتمر ناجحاً "إذا عمل الجانبان السوريان، النظام والمعارضة، سوياً واتفقا على الاجتماع ثانيةً".
تكمن نقاط الضعف الرئيسة لتحرّك روسيا في:
- خلفيته ومنطلقه الرئيس الكامن في تجاهله لجذر الصراع: ثورةٌ شعبيةٌ ضدّ نظامٍ مستبدٍّ وفاسدٍّ. وتصوّره للحلّ ونتائجه بمعزلٍ عنه، وسعيه لحلٍّ على خلفية اعتبار الصراع نزاعاً على السلطة تارةً، وحرباً على الإرهاب تارةً أخرى، وانعكاس ذلك على مستقبل سوريا الدولة والشعب.
- كونه تحركاً روسياً: نظراً لدور روسيا في الصراع السوريّ ودعمها الكبير للنظام، بدءاً من تبنيها قراءته للصراع واتهامها المعارضة بالإرهاب، وصولاً إلى حمايتها له سياسياً ودعمه بالأسلحة والمال.
- كونه جاء في سياق المواجهة المحتدمة مع الغرب بعامّةٍ والولايات المتحدة بخاصّة، وتأكيداً على حضور روسيا في الإقليم، وقدرتها على لعب دورٍ في الصراع السوريّ وإعاقة الخطط الأمريكية فيه.
تكاد فرصة وصول المؤتمر إلى نتائج إيجابيةٍ تكون معدومةً، لاعتباراتٍ تتعلق بانحياز روسيا الواضح للنظام، عبر قبول طلباته عن قائمة المشاركين وجدول الأعمال، وإلزام المعارضات السورية بقبول قراءتها لإعلان جنيف1، التي تنسجم مع توجّهاته وقراءته له، وخاصةً حول نقاطٍ تتعلق بالهيئة الحاكمة كاملة الصلاحيات والمرحلة الانتقالية ومصير رئيس النظام ودوره ووضع الجيش والأمن والانتخابات الرئاسية. وهذا لا يتعارض مع موقف المعارضة والدول المؤيدة لها فقط، بل ويحدّد مستقبل الحوار، فقد كان الخلاف حول هذه النقاط سبب فشل مؤتمر جنيف2. وفشلُ المؤتمر سيعيد القضية إلى المربع الأوّل.