العمالة السورية في إسطنبول: استغلالٌ فاضحٌ، و"معارك" مع أرباب العمل
(شهادةٌ من عاملٍ سوريّ)
فراس سراقبي
تنتشر الأيدي العاملة السورية بشكلٍ كبيرٍ في تركيا. وربما كانت إسطنبول أكثر المدن التركية اجتذاباً للشباب السوريين، بسبب وفرة فرص العمل فيها.
ما شاهدتُه وخبرتُه في هذه المدينة يتعدّى كونه تجربةً شخصيةً، فالمسألة تخصّ "العمالة السورية"، وما تعانيه من استغلالٍ وقهرٍ وغيابٍ عن ساحة النقاش العام، داخل مدينةٍ تغصّ بالعمّال الأجانب وتجّار البشر والتجاوزات القانونية.
في وسط إسطنبول، كنا نعمل في ورشةٍ لصناعة أكياس الهدايا. وكانت الإدارة موكلةً من قبل ربّ العمل التركيّ، والذي يدُعى "مراد"، إلى امرأةٍ مغربيةٍ تعيش منذ فترةٍ طويلةٍ في تركيا.
بالنسبة إلى ظروف العمل، كانت الأجرة تُقدّم لنا أسبوعياً (ما يعادل 75 دولاراً أمريكياً)، بالإضافة إلى وجبةٍ واحدةٍ في اليوم. وعدد ساعات العمل 11 ساعةً يومياً. أما العطلة الأسبوعية فكنا نحلم بها دون أن ننالها. مهمة مراد، باعتباره صاحب رأس المال الأساسيّ، هي مراقبة سير العمل وجودة الإنتاج، من خلال زياراته لنا من يومٍ إلى آخر.
الإنتقال إلى اسنيورت
بعد مضيّ أسبوعٍ فقط على عملي، حصل خلافٌ بين مراد والمديرة المغربية، سببه أن هذه الأخيرة كانت تتقاضى نسبةً معينةً من الأرباح على كمية الإنتاج. نتج عن الخلاف أن مراد سحب بضاعته، ووضعها في ورشةٍ أخرى يشرف عليها بنفسه، وعرض علينا الذهاب معه إلى الورشة الجديدة للعمل بأجورٍ أفضل (780 ليرةً تركيةً في الشهر. مع العلم أن الحدّ الأدنى للأجور، حسب توصيات وزارة العمل التركية، هو 891 ليرة). كما أنّه وعدنا بسكنٍ ذي مواصفاتٍ ممتازة، بالإضافة إلى عطلةٍ أسبوعية. فما كان منّا إلا أن قبلنا هذا العرض المغري فوراً.
وصلنا إلى الورشة الجديدة، والتي توجد في مدينة اسنيورت (إحدى ضواحي اسطنبول، وتبعد 25 كليومتراً عن مركز المدينة). وكان مراد يسكن في البناء المقابل للدكان الذي سنعمل فيه.
في اسنيورت فوجئنا بعدم وجود بيتٍ ننام فيه. وأخبرنا مراد أن علينا النوم في الدكان مؤقتاً، وسيحلّ هو الموضوع في أقرب وقتٍ ممكن. كان الشتاء الماضي في إسطنبول شديد البرودة. كنا في ذلك الوقت ستة عمالٍ (ثلاثة مغاربة وثلاثة سوريين)، ننام على الأرض بمساحةٍ لا تتسع لأكثر من شخصين أو ثلاثة.
بعد انقضاء أسبوعٍ أو أكثر، وبكثيرٍ من الإلحاح على وجود مكانٍ منفصلٍ ننام فيه، تم استئجار دكانٍ آخر قريبٍ للنوم، غير أنه لا يحمل أدنى مقوّمات الراحة لأناسٍ يعملون لمدة 12 ساعةً يومياً.
فيما بعد، غادر اثنان من العمال المغاربة، وجاء بدلاً عنهم عمالٌ سوريون، إلى أن وصل العدد إلى عشرة عمالٍ، واحدٌ مغربيٌّ والبقية سوريون، معظمهم من قرية "موحسن" بريف دير الزور. وأغلبهم من خلفياتٍ مهنيةٍ مختلفة، ويعملون في قطاع الدولة سابقاً.
لماذا كل هذا التأخير؟
بعد زيادة عدد العمال ارتفع معدل الإنتاج بنسبةٍ كبيرةٍ، بالإضافة إلى تحسّن أدائنا في العمل، وزيادة مهارتنا في إنتاج السلعة، أما أجورنا فبقيت على حالها.
في البداية، كانت الأجور تقدّم لنا أسبوعياً حسب الاتفاق. ولكن، بعد مرور أسبوعين فقط، أخذ مراد يشكو قلة المال. وهذه الدعوى ألفناها عند أرباب العمل الأتراك بشكلٍ عام.
بدأ مراد بالتأخّر في دفع الأجور. وبدلاً من أن يصرفها لنا أسبوعياً، أصبحنا نقبضها كلّ عشرة أيام، أو ما يتجاوز ذلك أحياناً. وعندما استفسرنا عن سبب التأخير قال لنا إنه ينتظر استلام نقودٍ من بعض التجار الذين كانوا على خلافٍ معه. ولم يكن ادّعاؤه طبعاً سوى حججٍ لا معنى لها، فما ذنب العمال بهذه الخلافات التي لا يعرفون عنها شيئاً؟!
الإضراب الأول
كنا دائماً نطلب من مراد زيادةً في كمية الطعام التي تُقدّم لنا. فمن غير المعقول أن تُجلب وجباتٌ مخصصةٌ لستة أشخاصٍ وتُقدّم لعشرة عمال. ولكن مطالبنا لم تلق آذاناً صاغية.
في آخر مرةٍ تمّ التأخّر فيها بدفع الأجور، وبعد أن تراكمت مشاكل السكن والطعام وفواتير البيت التي كان على عاتقنا دفعها، تمّ التوصل إلى مخرج: "بكرا ما رح نفتح المحل حتى يعطينا مراد مصارينا"، قالها أحد العمال، عندما كنا جالسين نفكر في الحلول وعواقبها. وقد خرجت هذه الكلمات من فهمه بكلّ عفويةٍ، دون حاجةٍ إلى من يُطلعه على تاريخ الطبقة العاملة ونضالها وإضراباتها. وطبعاً وافق الجميع على الإضراب دون استثناء.
في الساعة العاشرة صباحاً من اليوم التالي، جاء مراد يستفسر عن سبب عدم فتح الدكان، وسبب التوقف عن العمل، فأخبرناه بضرورة دفع أجورنا أولاً، فوافق فوراً على ذلك وأتى بالنقود، غير أنه اشترط مباشرة العمل، وقدّم لنا إرشاداتٍ ونصائح أخلاقيةً وفنيةً تتعلّق بالعمل ومساره!
الإضراب الثاني وإغلاق الورشة
بعد تكرار الوعود الكاذبة بعدم التأخر في دفع الأجور، لم نجد أمامنا سوى إعادة ما فعلناه سابقاً، والإضراب عن العمل من جديد.
"شو حنعمل لو سكّر مراد المحل، وأخد البيت يلي عم نام فيه، لوين بدنا نروح؟!"، يقول أحد العمال الأصغر سناً، بينما كنا نتناول العشاء.
في تلك اللحظة ناقشنا عدّة مواضيع تخص مصيرنا؛ فلو خسرنا العمل والسكن، أين سنجد العمل البديل في ظلّ هذه الظروف الصعبة؟ خاصةً أن معظمنا لا يتحدّث اللغة التركية. وأين سننام حتى لو وجدنا عملاً؟!
في صباح اليوم التالي، اتصل بي مراد، وسأل عن سبب عدم مباشرة العمل كالمعتاد، فأخبرته أن الجميع يريد أجوره كاملةً، دون أيّ تأخير.
مضى يومان على الإضراب، ولم نقبض أجورنا. إلى أن قدم مراد فجأةً إلى المكان الذي ننام فيه، وصرف لنا أجورنا، ثم أعلمنا أن العمل سيتوقف نهائياً، وسيتمّ إغلاق الورشة.
ما حدث معنا في اسنيورت ليس أمراً غريباً، فقد تكرّر مع الكثير من السوريين في أماكن عدّة، بحسب الشهادات التي سمعتها، سواءً من أخي الذي يعمل في إسطنبول، والذي وصل الأمر بينه وبين ربّ عمله التركيّ إلى الشجار والعراك بالأيدي، أو من أصدقاء آخرين.
لستُ محامياً ولا خبيراً في القانون، ولكني أضع المسؤولية على عاتق المعارضة السورية في تركيا، التي تقدّم نفسها كممثلٍ للشعب السوريّ وراعيةٍ لحقوقه، دون أن تبدي أدنى اهتمامٍ بوضع العمال السوريين في المنافي، ومعاناتهم مع الاستغلال والشقاء المعيشيّ.