بيانٌ تخريبيٌّ ضدّ "الإرهاب"

نارت عبد الكريم
التاريخُ، كما هو معلومٌ للجميع، يُدوِّنهُ المُنْتَصِر. لذلك نراه يملأ مكتباتنا وصحفنا وجامعاتنا ووسائل إعلامنا، وحتى عقولنا، بالغلالات المنسوجة، بإتقانٍ، بخطابه ورغباتهِ. ولأنَّ المُنْتَصِرَ الذي نتحدّث عنه هنا، ليس مُجَرَّد شعبٍ من الشعوب أو أمةٍ من الأمم، ولا هو بقبيلةٍ من القبائل التي انتصرتْ على جاراتها، ولا جهةً سياسيَّةً أو ثقافةً ما من الثقافات المُسيطرة، ولا يمكن اختزاله الى أصحاب مصالح وأموالٍ ولا شركاتٍ عابرةٍ للقارات أو بنوكٍ فقط، بل هو "الرجل/الأب".
هذا الخطاب -خطاب المنتصر- أزاحَ، تارةً بالعنف وتارةً بالإهمال، كلّ خطابٍ قبله، أي خطاب "الأم" وخطاب "الطفل"، وبالتالي الخطاب "الأصليّ/البدائيّ" للبشريَّةِ وحوامله الاجتماعية، أي الشعوب الأصلية و"البدائية" التي اندثرَ قسمٌ كبيرٌ منها، ومن تبقى يُعاني الإهمالَ والاستبعادَ والتهميش.
إنَّ التنوّع هو سمة الطبيعة التي عمل الانسان جاهداً على قهرها وتنميطها، وحتى تدميرها. وتلك الشعوب وما تحمله من ثقافاتٍ هي الأكثر تعبيراً عن الطبيعة والتصاقاً بها واحتراماً لها.
ولأنه النظام الأبويّ، خَلَّدَ انتصاره منذ آلاف السنين. إذ شيَّد لحمايته والحفاظ عليه نُظماً ومؤسساتٍ وهياكل، وانتشرت المنظومات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والسياسيَّة التي تدلل على مدى سيطرته وإحكام قبضته. ولذلك فإنَّنا غدونا، مع مرور الوقت والعصور، كالأسماك لا نمتلك المقدرة على رؤية الماء الذي يحيط بنا من كلّ حَدَبٍ وصَوْبٍ.
فإذا أردنا أنْ نحاربَ "الإرهابَ"،ونحقق العدالة الإنسانية من حيثُ المبدأ، فلا بدَّ أنْ نقرَّ بوجودها، وأنْ نعيدَ الحقوق لها، ومنها حقّ التعبير وحقّ "الكلام"، وأن نقدّم لضحايا الإرهاب ولنا هامشاً ما، يؤويهم ويعوّضهم عن فداحة الظلم الذي حاقَ بهم وبنا. ومن أجل الوصول إلى ذلك الهدف، قد نجد ضالتنا في الأرشيفات المحظورة والمنبوذة، أي في المدوّنات المكتوبة بلغة "الأم" ولغة الطفولة الأولى، وفي تراث الشعوب الأصلية والبدائية التي بادَ بعضها فيزيائياً ولم يتبقَّ ما يدل عليها إلاَّ نتفٌ من الحكايا والأساطير والأمثلة الشعبية والأغاني.
فعلى مستوى الفرد يقول بول ريكور: "إنَّ الحلم هو الذي يشهد باستمرارٍ على أنَّنا نقول دوماً عكس ما نريد ونرغب، أي أنَّنا باستمرارٍ نقمع أنفسنا ونخدع أرواحنا. ولكن لمصلحة من يحدث كلّ ذلك؟".
أمَّا على المستوى الجمعيّ فإنَّ الأساطير وحكايا الجدّات والخرافات واللغات المنسيَّة والمقموعة، هي التي تشهد باستمرارٍ على فداحة الظلم والعسف الذي حاقَ بالمرأة وبالطفل، عموماً، وبشعوبٍ كثيرة أيضاً. ولأنَّها كذلك يمكننا اتخاذها كمداخل منهجيةٍ لإعادة الاعتبار لتلك الشعوب، وإعادة إحيائها وإحياء روح البشرية كلها-بلا تمييزٍ أو استبعادٍ- من خلال تسليط الضوء عليها والتعريف بها.
إنَّ سيادة خطاب "الأب/الرجل"، خطاب النوع المُنتصر، أدّى الى خنق روح البشرية التي لا تستوي إلاَّ بالعدل. ويتمّ ذلك من خلال إفساح المجال للأنواع البشريِّة الثلاثة، أي "الرجل" و"المرأة" و"الطفل" ليعبّروا عن أنفسهم بلغتهم الخاصة وليس بلغة المُنْتَصِر. ومن هنا، ومن هذه النقطة المركزيِّة بالتحديد، يمكننا المطالبة بحقّ الأنواع المقموعة والشعوب الأصليَّة بالوجود من دون شروط، أي من دون أنْ تتخلى عن خطابها وعن روحها وثقافتها وإرثها.
فإذا كان هناك فرقٌ شاسعٌ بين ما يتعلمه الطفل وهو على صدر أمه، في سنواته الأولى، شكلاً ومضموناً من جهةٍ، وبين ما يتعلمه ويتلقاه وهو على مقاعد الدراسة في المدرسة والجامعة، فمن البداهة القول إنَّ هنالك فرقاً شاسعاً واختلافاً بَيِّناً بين خطابنا الرسميّ، الأكاديميّ والسياسيّ، وبين خطاب الطبيعة، الخطاب الأصليّ المبثوث فيما أشرنا إليه آنفاً.
لقد أشارَ شتراوس، من خلال مَثَلٍ أَوْرَدَهُ في أحد كتبه، إلى ذلك الصَّدْع، حين تحدَّثَ عن شعبٍ بدائيٍّ يُدعى الشينوك، كان يقطن شمال أمريكا الشماليَّة، ويمتلك فهماً وخطاباً مختلفاً عن خطابنا نحن "الحضاريين"، إذ يشير إلى جريمةٍ ما حصلتْ باستخدامِ عبارة: "شرُّ الرجل قتلَ مَسْكَنَةَ الولد". على العكس من خطابنا الذي يأخذُ نسقاً آخر، يظهر من خلال استخدامنا عبارة: "الرجلُ الشرير قتلَ الولدَ المسكين".
إنَّ خطابنا "الحضاريّ" الذي نتبجَّحُ به –الخطاب المُسيطر منذ آلاف السنين- هو خطاب قَتَلةٍ وساديِّين. ولأنَّهُ كذلك أفرزَ، وبشكلٍ طبيعيٍّ، تنظيماتٍ متطرفةً وقادةً سفّاحين من أمثال هتلر وستالين وجورج بوش وصدّام حسين وآل الأسد و"حالش" و"داعش"، على سبيل المثال وليس الحصر. ولسوف يستمرّون بالظهور بأسماء وأقنعةٍ أخرى، ما دامَ هذا الخطابُ سائداً ومُسيْطرَّاً. إنه الخطاب الذي يدعو للامتثال والواحدية ويمجّد الهرميِّة والاغتراب تحت مسمّى التقدم وضرورات "الحضارة".