الاختفاء القسريّ في سوريا
بين الدستور السوريّ والقوانين الدولية
عاصم الزعبي
"يمكن وصف إستراتيجية السلطات السورية في التعامل مع المعارضة بأنها إستراتيجيةٌ وحشيةٌ، فكلّ ما يتطلبه الأمر هو أن تتحدث ضدّها مرّةً واحدةً فقط، كي تجعلها تقوم بإلقاء القبض عليك. كرّر فعلتك ثانيةً، وسوف تجعلك تختفي وبكلّ بساطة"، هذا ما قاله فيليب لوثر، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية.
لكن الدستور السوريّ الصادر عام 2014 ينصّ في موادّ منه بوضوحٍ على ما يلي:
المادة 33:
1- الحرية حقٌّ مقدس، وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم.
المادة 50: سيادة القانون أساس الحكم في الدولة.
المادة 53:
1- لا يجوز تحرّي أحدٍ أو توقيفه إلا بموجب أمرٍ أو قرارٍ صادرٍ عن الجهة القضائية المختصّة.
2- لا يجوز تعذيب أحدٍ أو معاملته معاملةً مهينةً، ويحدّد القانون عقاب من يفعل ذلك، ولا يسقط هذا الفعل الجرميّ بالتقادم.
3- كلّ شخصٍ يُقبض عليه يجب أن يُبلَّغَ خلال 24 ساعةً أسبابَ توقيفه، ولا يجوز استجوابه إلا بحضور محامٍ عنه إذا طلب ذلك، كما لا يجوز الاستمرار في توقيفه لأكثر من ثمانٍ وأربعين ساعةً أمام السلطة الإدارية، إلا بأمرٍ من السلطة القضائية.
عند دراسة هذه المواد من الدستور، وإسقاطها على واقع ما يجري في سوريا بعد اندلاع الأزمة عام 2011، نجد أن ظاهرة الاختفاء القسريّ تشكل خرقاً لالتزامات الدولة السورية التي تكفلت بها وفق دستورها، وتتجاهل بشكلٍ كاملٍ مبدأ سيادة القانون الذي اعتبر أساسياً في الدولة والمجتمع.
وكانت الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسريّ، لعام 2006، قد عرّفته، في المادة الثانية منها، بأنه: "الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف، أو أيّ شكلٍ من أشكال الحرمان من الحرّية، يتمّ على أيدي موظفي الدولة أو أشخاصٍ أو مجموعاتٍ من الأفراد، يتصرّفون بإذنٍ أو دعمٍ من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته، أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون".
وتنصّ هذه الاتفاقية، في المادة الأولى منها:
1- لا يجوز تعريض أيّ شخصٍ للاختفاء القسريّ.
2- لا يجوز التذرّع بأي ظرفٍ استثنائيٍّ كان، سواءً تعلق الأمر بحالة حربٍ، أو التهديد باندلاع حربٍ، أو بانعدام الاستقرار السياسيّ الداخليّ، أو بأيّ حالة استثناءٍ أخرى لتبرير الاختفاء القسريّ.
وقد اعتبرت الاتفاقية أن الاختفاء القسريّ جريمةٌ ضدّ الإنسانية.
وليس الاختفاء القسريّ في سورية ظاهرةً جديدةً مرتبطةً بحراك عام 2011 ضد حكم بشار الأسد، إنما يعود تاريخها إلى حقبة الثمانينات من القرن المنصرم، إبان حكم الأسد الأب، الذي اختفى في عهده ما يزيد عن سبعة عشر ألف مواطنٍ سوريٍّ، لم يُعرف مصيرهم حتى الآن.
وبعد عام 2011 ازدادت هذه الظاهرة بشكلٍ كبيرٍ جداً، نتيجة تغوّل الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الحكم في دمشق، والتي باتت تستميت في الدفاع عن وجودها المرتبط جملةً وتفصيلاً بوجود نظام آل الأسد. فقد اختفى آلاف السوريين قسراً دون أثر، إذ يتمّ احتجازهم من قبل الحكومة والجماعات المسلحة المختلفة، في مواقع سرّيةٍ على امتداد الأرض السورية، في ظروفٍ بالغة القسوة، يتعرّضون فيها للتعذيب، ومنهم من يواجه القتل والموت من الجوع وانتشار الأمراض.
ووفق تقارير منظمات حقوق الإنسان، فإن آلاف الرجال والنساء، وحتى الأطفال، تعرّضوا للخطف من الشوارع والمنازل وأماكن العمل، قبل أن يتمّ نقلهم إلى سجونٍ رسميةٍ أو مراكز اعتقالٍ سرّيةٍ. ومنهم من يبقى قيد الاحتجاز لفتراتٍ طويلةٍ، دون الحصول على أيّة مساعدةٍ قانونيةٍ أو اتصالٍ بأسرهم.
تتعدّد أنماط الاختفاء القسريّ في سوريا؛ فالحكومة هي المتهم الأكبر بتنفيذ هذه العمليات، واحتجاز العدد الأكبر من الضحايا، كما أن الجماعات المسلحة على اختلافها باتت تتّبع هذا الأسلوب، وإن كان ذلك يتمّ على نطاقٍ ضيقٍ بالمقارنة مع ما تقوم به الحكومة السورية.
وتتفاوت تقديرات أعداد المختفين قسرياً بين منظمةٍ وأخرى: فالشبكة السورية لحقوق الإنسان تقدّر عدد من يحتجزهم النظام بطريقةٍ قسريةٍ بنحو خمسةٍ وثمانين ألف شخص. أما مركز توثيق الانتهاكات في سورية فيقدّر عدد المختفين قسرياً بعشرات الآلاف، من بينهم 1100 شخصٍ تمّ اختطافهم من قبل مجموعاتٍ مسلحة، على رأسها تنظيم الدولة الإسلامية. كما سجّل المركز أسماء 2300 مفقودٍ، دون ظهور أيّ أثرٍ لهم.
أما الهيئة السورية للعدالة الانتقالية، والتي تمثل جهازاً مستقلاً من أجهزة الحكومة السورية المؤقتة، فكشفت عن ما لا يقلّ عن ثلاثةٍ وستين ألف حالة اختفاءٍ قسريّ، بين مفقودٍ ومعتقلٍ وقتيلٍ تحت التعذيب. واعتمدت في ذلك على أعمال التوثيق الجنائيّ للعديد من مراكز التوثيق، ومن خلال تحليل البيانات وإسقاطها على النصوص القانونية، والأركان التي ترسم حدود هذه الجريمة.
ولكن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يعتقد أن العدد الحقيقيّ لحالات الاختفاء القسريّ في سوريا لن يُعرف بالكامل إلا بعد انتهاء الصراع. فالاختفاء القسريّ، الذي تعتمده السلطات السورية كأداةٍ لسحق المعارضة، لا يزال مستمرّاً، على الرغم من مطالبة الأمم المتحدة هذه السلطات بوضع حدٍّ لهذه الممارسات البغيضة، كما وصفتها.
وفي النتيجة، تضرب السلطات السورية بمطالبات أعضاء مجلس الأمن الدوليّ عرض الحائط، مما يدلّ على الفشل الذريع للأمم المتحدة وأجهزتها في حماية السوريين من هذه الظاهرة، ما أطلق العنان للحكومة السورية لمواصلة حملاتها المحمومة في التغييب القسريّ دون عقاب.