التحرّش الجنسيّ بالأطفال في مدارس الجزيرة
مسعود أومري
دخلت تلميذة الصف الأوّل الابتدائيّ إلى شعبتها مذعورةً، مصفرّة الوجه، ومبللة الثياب. لاحظت المعلمة شمس عنتر، التي تعمل في إحدى مدارس الحيّ الغربيّ بمدينة قامشلو، حالة الطفلة المضطربة، فاقتربت منها وسألتها: لمَ بللت بنطالك؟ فأجابتها الطفلة بالبكاء والصمت.
أدركت المعلمة أن بكاء الطفلة نذير حدثٍ جلل، فأرسلت تلميذاً إلى حمّامات الأطفال في المدرسة ليستطلع الأمر، فعاد سريعاً إلى معلمته وأخبرها أن تلميذاً في الصفّ السادس يمنعه من الدخول إلى الحمّامات.
حين لمح طالب الصفّ السادس المعلمة تتوجّه نحوه ترك موقعه أمام باب الحمّامات، بعدما أعطى إشارةً لزميله في الداخل، الذي خرج مرتبكاً، وهمّ بالفرار لاحقاً زميله الأوّل.
تابعت المعلمة سرد قصّتها بالعامية: "دخلت الحمّامات، وفتحت كلّ الأبواب، بس ما شفت شي. وأنا طالعة؛ كان في مكان للمغاسل والحنفيات متل الصالون، وأبواب التواليتات بداخله، حسّيت كأني سمعت صوت. بصراحة ارتعبت، ورجعت فتحت الأبواب، وفتشت من جديد".
لم يكن الصوت الذي سمعته المعلمة وهماً، أو ضوضاء هواء، وإنما كان صوت طفلةٍ في الصف الأوّل، عمرها ستّ سنواتٍ، عاريةً من ثيابها تقريباً، كما وصفتها المعلمة التي أضافت: "بس ما كانت تبكي، ولا مبيّن عليها الخوف. لبّستها ثيابها، وجبتها لعندي للصفّ".
بعد جهدٍ كبيرٍ بذلته المعلمة في الحديث مع الطفلة لتكشف خفايا الحدث تبيّن أن طالبَي الصفّ السادس يتناوبان على التحرّش بها داخل حمّامات المدرسة، دون مقاومةٍ من الطفلة الصغيرة، التي رضيت بقطعٍ من البسكويت والسكاكر كان الطالبان يعطيانها لها كإغراءٍ للموافقة والسكوت.
ظاهرة التحرّش الجنسيّ بالأطفال موجودةٌ في كلّ المجتمعات البشرية. وكشفت دراساتٌ حديثةٌ أن 22% من الأطفال في العالم العربيّ يتعرّضون للتحرّش الجنسيّ، وأن 90% من هؤلاء لا يصارحون آباءهم بالموضوع خوفاً من العقاب، وأن أكثر من 75% من المعتدين هم من معارف الضحية، و50 % من هؤلاء المعارف هم ممن تربطهم بالضحية صلة قربى وثيقة.
وأكد مدير مركز سمارت للتنمية والصحة النفسية في مدينة قامشلو، محمد علي عثمان، هذه الإحصائيات، مضيفاً أن طفلاً من كلّ 4 أطفالٍ يتعرّض لشكلٍ من أشكال التحرّش الجنسيّ، بحسب دراساتٍ اجتماعية.
اللعب الجنسيّ
تروي المعلمة نجاح أمين، من مدينة قامشلو، قصةً جرت في المدرسة التي تعمل فيها، حين ضبطت بالصدفة مراسلاتٍ ورقيةً بين تلميذٍ وتلميذةٍ في الصفّ الثاني الابتدائيّ، بالكاد يعرفان الكتابة. وكشفت المراسلات عن وجود حالةٍ عاطفيةٍ بين الطفلين، يتعهد فيها الطفل بالزواج من الطفلة في ختام مراسلاته لها.
واعترض ذوو الطفلين على اعتبار تلك المراسلات فعلاً بذيئاً أو منافياً للأدب، على اعتبار أنهما طفلان لا يدركان ما يكتبانه. لكن المعلمة نجاح رأت أن مضمون الرسائل يشير إلى ميولٍ جنسيةٍ غير سويةٍ عند الطفل، وقرّرت إدارة المدرسة نقله إلى مدرسةٍ أخرى، تجنباً لتطوّر الأحداث إلى مستوياتٍ أكثر خطورة.
إلا أن المرشد النفسيّ محمد علي عثمان تحدّث عن ظاهرةٍ أخرى قريبةٍ في محتواها من التحرّش الجنسيّ، ومن المرجّح أن تكون قصة الطفلين أحد أشكالها، وهي ظاهرة اللعب الجنسيّ بين الأطفال من فئة الأعمار المتقاربة.
وتابع عثمان توضيحه لظاهرة التحرش الجنسيّ بقوله: "إنها كلّ إثارةٍ جنسيةٍ يتعرّض لها الطفل عن عمدٍ، سواء أكانت تعريضه لمشاهدة الصور الجنسية والعارية، أو إرغامه على ملامسة أعضائه التناسلية، أو حثه على ملامسة أعضاء شخصٍ آخر، أو الاعتداء الجسديّ عليه، أو اغتصابه".
تحرّشٌ جنسيٌّ وشذوذٌ في مدارس الذكور
أكّد محمد علي عثمان أنه، من خلال عمله كمرشدٍ نفسيٍّ في إعداديةٍ بقامشلو، تبيّن له "وجود ظاهرة التحرّش الجنسيّ بين بعض الطلاب داخل المدرسة وخارجها". وأوضح عثمان أنه، بحسب اعترافات بعضهم، تبيّن أن "بعض الطلبة يُرْتَكَب بهم فعل التحرّش الجنسيّ من قبل زملائهم في المدرسة تحت ضغط التهديد بالضرب، أو نشر إشاعاتٍ سيئةٍ عنهم في الحيّ والمدرسة".
وروى عثمان أن "والدة أحد الطلاب جاءت لزيارته في مكتب عمله بالمدرسة، وأخبرته أن ابنها وزميله دخلا غرفةً في البيت بقصد الدراسة، إلا أنها -حين دخلت عليهما لترى ما إن كانا بحاجةٍ إلى شيءٍ- وجدتهما عاريين وعلى وشك التواصل الجنسيّ".
وتبيّن لعثمان، من خلال المتابعة، أن أحد الطالبين من المتفوّقين في الصفّ، إلا أنه يتيم الأب، أما أمه فمتزوّجة، ويعيش الطفل عند جدته. الأمر الذي يشير إلى علاقةٍ وثيقةٍ بين التفكك الأسريّ وظهور الميول الجنسية غير السوية عند الأطفال.
تحرّشٌ جنسيٌّ وشذوذٌ في مدارس الإناث
تشهد المدارس الثانوية الخاصّة بالبنات نوعاً آخر من التحرّش، وهو التحرّش البصريّ واللغويّ من خلال مشاهدة صورٍ إباحيةٍ ومقاطع فيديو جنسيةٍ عبر الهواتف الذكية وشبكة الإنترنت، أو التلفظ بألفاظٍ نابيةٍ فيما بين الطالبات، التي تصنّف أيضاً كنوعٍ من أنواع التحرّش الجنسيّ، بحسب ما قال عضو فريق سمارت للصحة النفسية محمد علي عيسى.
من جانبه، ذهب محمد علي عثمان إلى أبعد من هذا في حديثه عن التحرّش الجنسيّ في مدارس الإناث بمدينة قامشلو، مؤكداً أن هذه الظاهرة منتشرةٌ فيها، وأنه "بناءً على معلوماتٍ أفاد بها الكادر التدريسيّ في مدرسة زكي الأرسوزي فإن أنماطاً من التحرّش الجنسيّ، ومستوياتٍ من الشذوذ الجنسيّ، تُمارس بين بعض طالبات المدرسة المذكورة".
وأوضح عثمان سبب ذلك بأن "المدرسة تضمّ طالبات المرحلة الإعدادية والثانوية"، مما يجعل مستويات الأعمار متفاوتة، ويسمح للطرف الأكبر باستغلال الطرف الأصغر. إلى جانب أن "طالبات هذه المدرسة من بنات المسؤولين، والضباط، والأغنياء، ويعجز الطاقم التدريسيّ في المدرسة عن ضبطهنّ".
وتعدّ الهواتف الذكية، التي باتت بحوزة أغلب طالبات المدارس الثانوية والإعدادية في الجزيرة، إحدى الوسائل التي تساعد على انتشار ظاهرة التحرّش الجنسيّ في المدارس، من خلال الاستخدام غير المنضبط لوسائل التواصل الاجتماعيّ؛ كواتس أب، وفايبر، وسكايبي، وفيسبوك.
كوادر تدريسيةٌ في قفص الاتهام
كلما مرّ مسؤول النظافة في المدرسة، أو ما يعرف في مدارس الجزيرة بـ(الآذن)، بجانب ذلك الصفّ وجده مغلقاً. الأمر الذي أثار في نفسه الشك، فأبلغ إدارة المدرسة التي داهمت الصفّ لتجد أحد المعلمين يتحرّش بطالبةٍ، بحسب ما قالت نظيرة أم ييريفان، المعلمة في تلك المدرسة.
وأضافت أم ييريفان: "بعد التحقيق تبيّن أن المعلم هدّد الفتاة بنشر أكاذيب وإشاعاتٍ عنها إذا لم تقبل بأن يفعل بها ما يريد، وأن الإدارة ستصدّق كلامه إن هي فكرت بتقديم شكوى عليه".
وأكد أكثر من مصدرٍ محليٍّ تورّط أعضاء من الطاقم التدريسيّ في بعض مدارس الجزيرة بجرم التحرّش الجنسيّ بالتلاميذ والطلاب في المدارس الابتدائية والمتوسّطة والثانوية. وقال عضو فريق سمارت للتنمية والصحة النفسية محمد علي عيسى: "إننا، كمعلمين في المدارس، وأعضاء فريق سمارت، نلاحظ زيادة ظاهرة التحرّش الجنسيّ في المدارس بشكلٍ واضحٍ، سواءً بين الطلاب أنفسهم أو بين الكادر التدريسيّ والطلاب".
وفي مدرسةٍ أخرى بمدينة قامشلو حاول مسؤول النظافة (الآذن) التحرّش بطفلةٍ في الصفّ الثاني، إلا أنها تملصت من بين يديه وأخبرت أهلها على الفور. وقامت الإدارة بحلّ المشكلة، بحسب ما قالت المعلمة منى عبد السلام، التي تعمل أيضاً في منظمة سارا لمناهضة العنف ضد المرأة.
ومؤخراً تعرّض مدير ثانوية ميشيل صليبا للبنات للضرب المبرّح من قبل مجموعةٍ من الشباب دخلوا المدرسة واقتادوه إلى جهةٍ مجهولةٍ وبرّحوه ضرباً.
وقال المرشد الاجتماعيّ (م، ع) إن "مدير تلك المدرسة كان يتحرّش بطالباته مراراً وتكراراً، ويهددهنّ بالفصل والرسوب في الصفّ. وعلى ما يبدو فإن إحدى الطالبات لم تأبه لتهديداته، وأخبرت أهلها بتحرّش المدير بها، فما كان منهم سوى ضربه في وضح النهار".
وأكدت (م، س)، الأم لطالبتين في المدرسة المذكورة، أن تعامل مدير المدرسة مع الطالبات كان سيئاً للغاية، وأنه كان يشتمهنّ باستمرار.
وبناءً على معلوماتٍ أفادت بها معلمةٌ تعمل في المدرسة المذكورة فقد تمّ عزل المدير المذكور من الإدارة، ونقله إلى مدرسةٍ أخرى. وزادت المعلمة أن "المدير الجديد يحاول ضبط المدرسة من خلال منع الطالبات من حمل الهواتف المحمولة، والتقيّد باللباس المدرسيّ، ومنع المكياج والتزيّن وإكسسوارات التجميل".
أسباب انتشار ظاهرة التحرّش الجنسيّ في المدارس
تشير القصّة التي روتها المعلمة شمس عنتر إلى أن الإغراء الماديّ للطفلة، من خلال إعطائها بعض الحلويات، كان السبب في وقوعها ضحيةً لفعل التحرّش الجنسيّ. وفيما يخصّ الفاعل أضافت عنتر أن "الفاعل يكتسب دوافع التحرّش من بيته، بحكم وجود جميع أفراد الأسرة في غرفةٍ واحدة، الأمر الذي يعرّض الأطفال لمشاهدة الفعل الجنسيّ بين الوالدين، فيحاولون تقليده".
وزادت المعلمة منى عبد السلام، عضو منظمة سارا لمناهضة العنف ضد المرأة، على هذه الأسباب بقولها إن "غالبية التلاميذ لا يبدو عليهم أثر العوز الماديّ، إلا أنه ينقصهم التوجيه التربويّ. فغالباً لا يكون الأب موجوداً في المنزل بسبب العمل، وتكون الأمّ مشغولةً عن أطفالها بأمورٍ أخرى، مما يبقي الأطفال دون توجيهٍ وتربيةٍ ورعاية، ويدفعهم إلى البحث عن بيئةٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ خارج المنزل، والالتقاء بمن يهتمّ بهم".
ونوّه المرشد النفسيّ محمد علي عثمان إلى "دور الإعلام، والمسلسلات التركية والهندية، وحتى السورية في إنتاجاتها الأخيرة، في نموّ ظاهرة التحرّش الجنسيّ، من خلال المضامين الجنسية التي تعرضها، أو مشاهد الإغواء التي تحتويها، وما ينتج عنها من حثٍّ على الأفعال الجنسية. إلى جانب الرسائل الجنسية التي تبثها الأغاني عبر كليباتها، وما ينتج عنه من إثارةٍ للدافع الجنسيّ، ولا سيما عند المراهقين، وكلّ ذلك في ظلّ غياب الرقابة الوالدية على الأطفال".
كما تحدّث عثمان عن غياب القانون، وأثر ذلك في تفشّي هذه الظاهرة، من خلال الشلل الذي أصاب محاكم الدولة، وتساهلها في معاقبة الجناة أو إلقاء القبض عليهم، وعدم وجود برامج إصلاحيةٍ في سجن الأحداث التابع للإدارة الذاتية في الجزيرة.
ولفتت المعلمة نجاح أمين الانتباه إلى الفوضى والتسيّب اللذين طرأا على مدارس الجزيرة، وعجز الإدارة والكادر التدريسيّ عن ضبط سلوكيات التلاميذ والطلبة، ولا سيما بعد صدور قانون منع الضرب في المدارس. كما أشارت أمين إلى تداعيات حركة النزوح إلى الجزيرة على مدارسها التي باتت صفوفها تضمّ أطفالاً من بيئاتٍ ثقافيةٍ مختلفة، الأمر الذي يصعّب أكثر مهمة الكادر التربويّ، من إدارةٍ وموجّهين ومعلمين، في التعامل مع الطلبة، وضبط سلوكيات الأطفال في الصفّ.
كيف نحمي أطفالنا من التحرّش الجنسيّ في المدارس؟
تقول المعلمة شمس عنتر، بحكم تجربتها: "من المفروض أن نعزل حمّامات الإناث عن حمّامات الذكور. وأن يكون الأهالي والمعلمون على وعيٍ بما قد يحدث مع أطفالهم في المدارس"، التي تفتقر -بحسب رأيها- إلى أبسط مقوّمات السكن المدرسيّ، من النواحي الصحية والتربوية والتعليمية. وركّزت عنتر على الدور التربويّ للمعلم في المدرسة، بحيث "يكون يقظاً ومنتبهاً لتلاميذه في الصفّ، وأن يُثني على الأخلاق الحسنة، وتفعيل دور الإرشاد النفسيّ في المدارس، وملء فراغ الطفل بالألعاب".
من جانبها، حمّلت منى عبد السلام المعلمين في المدارس قسماً من المسؤولية، باعتبار أنهم مربّو أجيالٍ، وينبغي عليهم أن يهتمّوا بالأطفال في المدرسة، ويقوموا "بواجباتهم التربوية إلى جانب التعليمية، ويفرضوا الانضباط على الطلاب في الصفّ"، داعيةً إلى "تخصيص ساعةٍ تربويةٍ من البرنامج التعليميّ في المدارس كلّ أسبوعٍ لإسداء النصح للأطفال والوقوف على المشاكل التي تواجه بعضهم".
واقترحت المعلمة نجاح أمين على "قوّات الأسايش في الجزيرة وضع دورياتٍ على مدارس الإناث، وخاصّةً حين انتهاء الدوام، لمنع الشباب من الوقوف أمام مدارسهنّ وملاحقتهنّ والتحرش بهنّ"، مطالبةً بمزيدٍ من التنسيق بين الأسرة والمدرسة. وهو ما أكّد عليه أيضاً عضو فريق سمارت للصحة النفسية محمد علي عيسى، الذي رأى أن الحلّ يكمن في "المزيد من التكاتف بين الأسرة والمدرسة والمتخصّصين النفسيين، وتعزيز الثقة بين أفراد الأسرة، ولا سيما الأطفال الصغار مع الأب والأم، لننجح في مواجهة ظاهرة التحرّش الجنسيّ، والتخفيف من آثارها".