info@suwar-magazine.org

في تمدّد التصوّر الطائفيّ للصراع في سوريا

في تمدّد التصوّر الطائفيّ للصراع في سوريا
Whatsapp
Facebook Share

 راتب شعبو

 

يحتدم الصراع في سوريا اليوم بين النظام السوريّ الذي باتت قضيته الوحيدة هي الدفاع عن وجوده، وفي سبيل ذلك أطلق لعناصره العنان في ممارسة أبشع أنواع العنف والإذلال ضدّ البشر الواقعين تحت سيطرته، بما في ذلك ترك السجناء يموتون في السجون تحت التعذيب أو بالجوع ونقص التغذية وغياب الأدوية والعلاج الطبيّ، وسمح لنفسه باستخدام القتل العام (السلاح الكيماويّ والبراميل المتفجرة) ضدّ المناطق الخارجة عن سيطرته، وبين تنظيماتٍ إسلاميةٍ قاعديةٍ لا تقيم وزناً لأيٍّ من قيم الثورة التي نهض بها السوريون قبل أكثر من أربع سنواتٍ، فضلاً عن كونها تنظيماتٍ عسكريةً تمجّد فكرة القوّة "ترهبون بها... عدوّكم"، ولا دلالة لتعريف عدوّهم سوى الدلالة الطائفية والمذهبية، كما لا حدود أخلاقيةً أو منطقيةً "للإرهاب" الذي يبتغونه.

 

 

طرفا الصراع اليوم يجتمعان على إنكار الشعب السوريّ الذي لا وجود لمصلحته على أجندة أيٍّ منهما. النظام يفهم الشعب السوريٍّ على أنه كمٌّ بشريٌّ بلا حضورٍ سياسيّ، يردّد صباحاً شعاراً واحداً ويهيم بقائده الملهم ويعتبر كلّ ما يتحقق له من مشافٍ أو مدارس أو طرقاتٍ إنما هو مكرماتٌ وعطايا من زعيمٍ كريمٍ هو صاحب البلاد وصاحب السياسة. والتنظيمات الإسلامية تؤمن برابط العقيدة فوق رابط الوطن الذي لا وجود له في قواميسها، فيبدو لها المسلم السنّيّ في أيّ مكانٍ من العالم أقرب إليها من السوريين أبناء الديانات والمذاهب الأخرى. وعلى هذا لا وجود لمفهوم الشعب السوريّ لديها، الوجود الحقّ تملؤه الأمة المسلمة السنّية، والوجود الباطل يملؤه ما عداها. بين هذين الطرفين اللذين ينكران مفهوم وفكرة "الشعب السوريّ" يتوضّع الصراع العسكريّ والسياسيّ في سوريا اليوم.

 

وإذا كان من طبيعة الأشياء أن يتوسّل النظام السوريّ المجرم أيّ سلاحٍ للحفاظ على وجوده المهدّد، وأن تحدّد التنظيمات الإسلامية الجهادية عدوّها بدلالةٍ طائفيةٍ لأنها لا تملك مفاهيم أخرى، فإن الجديد هو امتداد التصور الطائفيّ ليشمل مناطق جديدةً في طيف الوعي السوريّ كان المرء يظنها بعيدةً عن الاستسلام لهذا التحليل. أقول "استسلام" لأن التحليل الطائفيّ سهلٌ من جهةٍ، ولأنه، من جهةٍ أخرى، يفرّغ شحنةً عدائيةً تريح "المحلل" إذ تُجسّد له عدوّه على هيئة "جماعةٍ" يقع هو خارجها بالهوية، فضلاً عن أن هذه "التحليلات" لها عددٌ جاهزٌ ومتزايدٌ من المعجبين.

 

على كتابات المتكلمين في الشأن العامّ في سوريا -من غير الإسلاميين- ممّن تحوّلوا إلى التحليل الطائفيّ، سواءً على صفحات الفيسبوك أو على صفحات المجلات والجرائد ومواقع الرأي، يمكن وضع الملاحظات التالية:

 

1 تغييب السياسيّ لصالح الطائفيّ.

 

لمن استساغ التصور الطائفيّ، يبدو الصراع الدائر في سوريا اليوم (حرب وجودٍ) كما عبّر أحد روّاد الفيسبوك هؤلاء. وفي حرب الوجود هناك عدوٌّ واحدٌ ويفترض بالبقية أن يكونوا أصدقاء، كما يضيف صاحب البوست. هكذا إذن نحن أمام تفكيرٍ انفعاليٍّ (لا تفكير) ينحطّ إلى مستوى تفكيرٍ قاعديٍّ يستعيد فسطاطي بن لادن. حرب الوجود هي بالتعريف حرب إبادة، وهذا النوع من الحروب لا علاقة له بالسياسة بما هي إدارة الصراع داخل المجتمع وإن بوسائل عنيفةٍ أحياناً. هذا التعبير استخدمه القوميون العرب ذات يومٍ في الكلام عن الصراع العربيّ الإسرائيليّ حين كانوا يريدون رمي اليهود في البحر، ولكنه سحب من التداول بسبب خراقته وعدم ملاءمته، ليأتي من يحييه في سياق صراعٍ داخليٍّ سوريٍّ، ثم يحوز على مئات الإعجابات.

 

2 محاولة "الإقناع" بالترهيب.

 

يتمتع النظام السوريّ، بعد كلّ إجرامه وإفلاسه السياسيّ، بجمهورٍ يسانده ويقدّم تضحياتٍ في معركة بقائه. هذا واقع. ويشمل هذا الجمهور سوريين من كلّ الأديان والمذاهب، هذا أيضاً واقع. وتبقى الكتلة البشرية الأكثر "تماهياً" بالنظام هي العلويون، هذا صحيح. بدلاً من أن يسعى الكاتب إلى فهم هذه الظاهرة وتقديم اقتراحٍ لطريقة كسب جمهور النظام وعزله بناءً على هذا الفهم، يستسهل الكاتب لغةً إنذارية: إما أن تنفكّوا عن الأسد أو تتحمّلوا النتائج. منذ وقتٍ مبكرٍ من الثورة مارس هذا الترهيب، وفي فيديو مصوّر، رجلٌ لا يمتلك مهارة التعبير "الفلسفيّ" عن فكرةٍ منحطّة، رجلٌ اسمه "مأمون الحمصي". واليوم يكتب أحد الصحفيين "الديموقراطيين"، دون تردّدٍ، على صفحته بعد "تحرير" جسر الشغور: (يطلب العلويون منا الآن أن نحميهم، نقول لهم انتفضوا ضدّ الأسد أولاً الآن وليس بعد ساعة). ينخرط في هذه الإنذارات معارضون علويون أيضاً ظانين أنهم يقومون بدورٍ تنويريٍّ، فيكتبون ويسجلون الفيديوهات التي تقول ابتعدوا عن النظام قبل أن يفوت الوقت وتندموا. لا يصعب على المرء أن يدرك أن هذا "النشاط" ينمّ عن عدم فهم سبب تمسّك العلويين بالنظام، ويدفعهم إلى المزيد من التمسّك به، وإلى المزيد من عزل المعارضين العلويين في بيئتهم. ولكن الأهمّ هو أن هذا "النشاط" ينتمي إلى استبدادٍ محضٍ يقول الناشطون إنهم يقومون ضدّه.

 

3 عدم فهم طبيعة علاقة النظام بجمهوره.

 

يفهم الكثير من المعارضين تمسّك العلويين بالنظام على أنه دفاعٌ عن امتيازاتهم، أو أن في الأمر استلاباً للأسد إلى حدّ العبادة. يجب أن يتمتع المرء بقدرٍ غير قليلٍ من الجهل أو من الانفصال عن الواقع كي يتكلم عن امتيازاتٍ للعلويين كأفرادٍ أو كمناطق تواجد. من عاش في هذه المناطق يدرك ذلك، ومن قرأ الكتب الرزينة التي تتناول هذا الموضوع سيدرك ذلك. طوال فترة حكم الأسد لم يجنِ العلويون فوائد ماديةً تمييزيةً من النظام، ما خلا فئةً صغيرةً بسبب علاقتها بأجهزة الدولة ولا سيما أجهزة القمع، وهؤلاء كانوا عموماً وبالاً على محيطهم العلويّ وأسياداً حديثين غالباً ما يترجمون سلطانهم استعلاءً ونذالةً تجاه محيطهم. أما عن "الدين الأسديّ" فهو ابتكارٌ لفظيٌّ فارغٌ يصلح فقط كستارٍ للجهل بالموضوع. الواقع أنه لا شعبية لآل الأسد بين العلويين، دع عنك الاستلاب لهم. هذه العائلة، في أعين الغالبية العظمى من العلويين وغيرهم، هي نموذج الفساد وأكل الحقوق وإنكار القيم. غير أن النظام بات يشكّل، بالنسبة إلى العلويين، جبهة المواجهة الوحيدة ضد غولٍ إسلاميٍّ يبدو أنه عدوٌّ مباشرٌ لهم كجماعة. هذا سرّ التراجع الحادّ في نسبة المعارضين العلويين للنظام، وهذا سرّ تمسّك العلويين بالنظام الذي لو سقط على يد هذه القوى الإسلامية سنشهد، على الأرجح، نشوء تشكيلاتٍ عسكريةٍ علويةٍ تتعامل مع الوجود الإسلاميّ المتطرّف في مناطقهم كاحتلالٍ، تماماً كما يتمّ التعامل مع قوّات النظام في المناطق المعارضة.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard