مجلة «صور » تجري لقاءً مع المفكر سلامة كيلة
حوار : مجيد محمد
تدخل الثورة السورية عامها الخامس وسط استمرار حالة الاستعصاء وغياب أفقٍ واضحٍ للحلّ السياسيّ، وتأزّم الوضع العسكريّ الذي لا ينبئ بحسمٍ سواءً بالنسبة إلى المعارضة وتشكيلاتها العديدة أو إلى النظام. مؤتمراتٌ انقضت وأخرى يُحضّر لها، فيما تستمرّ القوى العظمى في مصادرة القرار الدوليّ من خلال توازناتها ومصالحها في سوريا خاصّةً والإقليم عامّة. بعد كلّ هذا الكمّ من الضحايا والدمار، ما هي فرص الوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ أو حتى عسكريٍّ؟ وهل نحن أمام سنةٍ خامسةٍ شبيهةٍ بالسنوات الأربع التي سبقتها؟
لا أستطيع أن أجزم أن هناك سنةً خامسةً أم لا، لأن الوضع معقدٌ ومتداخلٌ ومركّب. إذ لا يستطيع أحدٌ أن يعرف السياق الذي تسير فيه الأمور، رغم جملةٍ من المسائل التي تشير إلى إمكانياتٍ للحلّ في البلاد. من المؤكّد أن هناك استعصاءً، سواء نتيجة تشتت الكتائب وغياب الفعلين السياسيّ والعسكريّ المنظم، أو نتيجة إدخال قوىً أصوليةٍ مدمّرةٍ، أُدخلت أصلاً لتخريب الثورة وإدخال الشعب السوريّ في صراعٍ متعدّد.
فحين بدا أن النظام يهوي في نهاية العام 2012، ازداد اعتماده بشكلٍ متسارعٍ على قوىً خارجيةٍ، وأقصد هنا إيران، التي دفعت إلى إرسال حزب الله ومن ثمّ الكتائب الطائفية العراقية ومن ثمّ قوّاتها بشكلٍ مباشرٍ، كالحرس الثوريّ الإيرانيّ، ما جعلها تمسك بالقرار في دمشق. وهذا الوضع يجعل الحلّ في سوريا مرتبطاً بالوضع الدوليّ، أي بدور قوىً دوليةٍ وإقليميةٍ معينةٍ أمسكت بمجمل الأوراق. فأمريكا حاولت أن تجعل من روسيا راعيةً للحلّ السياسيّ في سوريا، وروسيا أيضاً تدعم النظام بالسلاح الذي يقتل الشعب السوريّ، إضافةً إلى إيران والسعودية. ومع هذه الحال، من المفروض أن نتابع إمكانية حدوث تفاهماتٍ بين هذه القوى، وخاصّةً عقب التفاهم الأمريكيّ الإيرانيّ حول الملف النوويّ، ومحاولة الوصول إلى تفاهماتٍ حول دور إيران الإقليميّ، لأن أمريكا تضع التفاهم مع إيران في مقدّمة أولوياتها في المنطقة. لكن هذه التفاهمات يجب أن لا تكون في الحدود التي تطلبها إيران، أي يجب أن لا تكون من خلال الهيمنة الشاملة على الشرق الأوسط، ولذلك يجب أن يكون التفاهم الأمريكيّ الإيرانيّ أساساً في الحلّ السوريّ، إذ إن أمريكا لا تريد أن تمنح إيران دوراً مباشراً في سوريا، لأنها لا تريد إرباك الوضع الصهيونيّ، وخاصّةً بعد رفض الأخير الاتفاق النوويّ.
توضح هذه الخريطة أن الأمور تناقش ضمن هذه الأروقة، أما السؤال حول قرب أو بعد هذا الحلّ فذلك غير واضح. ربما هناك ميلٌ إلى تسريع الحلّ على ضوء التفاهم الأخير، والانتقال إلى جنيف3 للوصول إلى شكل حلٍّ ما في البلاد.
قطعت الثورة شوطاً سلمياً لا بأس به في البداية، ثم بدأت القوى المتطرّفة بشكلها الإسلامويّ تتسلل إلى داخل المجتمعات التي احتضنت الثورة، لتضفي طابعاً مغايراً عليها. ثم ما لبثت هذه القوى أن تصارعت على مناطق النفوذ، وسيطرت على مساحاتٍ كبيرةٍ من المناطق التي انسحب منها النظام، وبدأت بتطبيق مشاريعها. كيف ترى طبيعة الصراع بين هذه القوى؟ وما هي التقاطعات بينها وبين الثورة بطابعها المدنيّ؟ وهل يمكن القول إننا سنرى سوريا مدنيةً في حال آلت كفة الصراع لصالح هذه الجماعات، خاصّة وأن البعض يرى في هذه القوى المتطرّفة وصعودها مرحلة آنيةً ومؤقتةً وحتميةً في ظلّ انغلاق أفق الحلّ؟
أعتقد أن الأمر يحتاج إلى توضيحٍ وتدقيق، لأن الثورة السورية انطلقت سلميةً، وكانت هناك مثاليةٌ عاليةٌ في هذا الموضوع، وكنّا نقدّر الشباب الذين يتظاهرون رغم علمهم أن ما سيقابلهم هو الرصاص، لكن عنف السلطة ووحشيتها وهتكها كلّ القيم جعل الشباب ينتقل من التظاهر إلى حمل السلاح، وهنا كان الخطر كبيراً. لأن الانتقال إلى السلاح يحتاج إلى تنظيمٍ عالٍ وإلى دقةٍ في السياسة والتكتيك، فالأمر ليس سهلاً وهيّناً، لذلك حذّرتُ من هذه الخطوة منذ البداية. ولكن، للأسف، غابت القوى السياسية ودفعت باتجاهاتٍ خاطئةٍ في العمل المسلح، مثل مفهوم التحرير والسيطرة على المدن، دون حساب موازين القوى وما هو أكثر أهميةً في الصراع ضدّ السلطة، أي استمرار الحراك الشعبيّ مع عملٍ مسلحٍ موازٍ يُدعم بشكلٍ مختلفٍ عما حدث، أو الانتقال إلى تحويل الثورة إلى عملٍ مسلحٍ كما حدث بالفعل.
في هذه اللحظة بدأت قوىً تدفع باتجاه الأسلمة، وتمثلت ببعض القوى السورية وبعض الدول الإقليمية، إذ كان واضحاً أن النظام أراد إظهار إسلامية الثورة، كما كانت الدول الإقليمية تدفع بنفس الاتجاه لتشويه الثورة، لأن الأسلمة والتسلح سيؤديان بالضرورة إلى تلك النتيجة. فبدأ النظام بإدخال المجموعات الأصولية، بدءاً من إخراج من كان معتقلاً لديه، وهم كوادر وقياداتٌ في تنظيم القاعدة، الذين يهيمنون الآن على المشهد الأصوليّ، كـ(جيش الإسلام وحركة أحرار الشام وجبهة النصرة وجزءٍ من داعش). وكان جلياً أن الهدف من ذلك هو أن تسيطر هذه القوى على المناطق التي انسحب منها النظام بعد عامٍ من الثورة. فالنظام كان يعي تماماً أن وجود هذه المجموعات سيجعل الصراع الأساسيّ بينها وبين الشعب السوري، لأن هذه المجموعات تسعى إلى إقامة الخلافة.
في الجانب العمليّ، كان هدف هذه المجموعات هو تخريب بيئة الثورة وإرباكها واختراقها عبر تلك المجموعات التي تعمل مع الأجهزة الأمنية لتصفية بنى الثورة الأساسية وتهديمها من الداخل، حتى تظهر كأنها ثورةٌ يقودها إرهابيون، وبالتالي يدفع النظام إلى تحريضٍ عالميٍّ يصبّ في مصلحته.
تمّ هذا السيناريو بمساعدةٍ من الدول الإقليمية، كالسعودية ودول الخليج، التي وفّرت المال والسلاح، لخشيتها من انتقال الثورة إليها في حال انتصرت ثورة السوريين، عبر تحوير منظور الثورة إلى صراعٍ طائفيٍّ وحربٍ دوليةٍ على الإرهاب، وفتح حربٍ بين المجموعات الإسلامية من جهةٍ، والشعب السوريّ من جهةٍ أخرى، والآن هذا هو الوضع العامّ تماماً.
هناك نجاحٌ سلبيٌّ في ذلك، إذ باتت هذه المجموعات شوكةً في وجه الثورة، وبالتالي أصبح الشعب السوريّ يقاتل على عددٍ من الجبهات. فداعش تسيطر على جزءٍ كبيرٍ من المنطقة الشرقية، والنصرة على مناطق شماليةٍ، وجيش الإسلام على جزءٍ من ريف دمشق، وهذا يشكّل خطراً على الثورة ذاتها، كما يحدث في اليرموك بدمشق. هذه القوى مهمتها الأساسية هي تسهيل فاعلية الدول والنظام السوريّ، وهي لا تملك مشروعاً طويل الأمد. وحين يتحقق الهدف السياسيّ من دورها سينتهي وجودها بشكلٍ طبيعيٍّ، كما حدث في أفغانستان والعراق، وسنلمس في سوريا أن دور تلك المجموعات والتنظيمات كان تخريب الثورة. وحين يتمّ الوصول إلى اتفاقٍ عامٍّ، ستتلاشى هذه المجموعات إلى حدٍّ كبير.
لو عدنا قليلاً إلى الوراء سنرى أن القوى التي كانت مرشحةً لقيادة أية عملية تغييرٍ محتملةٍ داخل المجتمعات العربية هي قوى اليسار ذات الطابع العلمانيّ المدنيّ، في ظلّ غيابٍ كاملٍ لليسار الراديكاليّ الذي دُجّن كغيره من القوى إبان حكم الأنظمة الاستبدادية، لكن ما حدث خالف كلّ التوقعات، صعدت تياراتٌ إسلاميةٌ على حساب قوى التغيير المحتملة التي ناضلت طويلاً وذاقت ألوان العذاب من تلك الأنظمة. هل ترى أن مشكلة اليسار العربيّ مشكلةٌ بنيويةٌ، أم أنه لم يتجاوز كونه يساراً اقتصر على مثقفين لم يجدوا أطراً تنظيمية جدّية يعوّلون عليها في الأحداث الكبرى، أم أنه حوصر في شكل أحزابٍ ضعيفةٍ لم تستطع التغلغل في بيئتها الاجتماعية؟
من الأساس، كان اليسار ينقسم إلى شقين، اليسار القوميّ الذي هيمن على السلطة في العديد من البلدان العربية، وأدخل المجتمعات -بعد القليل من التطوّر- في أزماتٍ، نتيجة الطابع الشموليّ والاستبداديّ للسلطة، ولهذا لم تعد بقاياه قادرةً على الفعل وأصبحت قوىً ضعيفةً في العديد من البلدان. وفي المستوى الآخر كانت هناك الأحزاب الشيوعية التي راهنت على تطوّرٍ تقوم به البرجوزاية بالأساس، في الوقت الذي كانت فيه الأخيرة عاجزةً عن القيام بذلك، وحين استلمت الأحزاب القومية السلطة أصبحت تلك الأحزاب ملحقةً بها. وبات واضحاً منذ السبعينيات والثمانينيات، وخاصّةً بعد انهيار المعسكر الاشتراكيّ، أن هذه القوى أمست هامشيةً وتعيش حالةً من الشيخوخة في سياق انفصالٍ كاملٍ عن الصيرورة المجتمعية التي كانت تتشكل، فقطاعٌ منها أصبح ليبرالياً وركّز على الديمقراطية والحرية فقط، وأقسامٌ أخرى ظلت متحجّرةً لا ترى سوى الإمبريالية كقوّةٍ معادية.
لكلّ هذا، حين بدأت الثورة كان واضحاً أن اليسار يكاد أن يتلاشى وليست له رؤىً أو برامج، ولم يكن يعتقد أن الشعوب قادرةٌ على أن تنهض وتقوم بثوراتٍ كبيرة. بالتالي وجدنا، واقعياً، أن هناك فاصلاً جيلياً بين الشباب والكهول، ولكنه، في الواقع، يعبّر عن الاختلاف العميق بين قوىً باتت كهلةً من حيث الفكر والتصوّرات والقدرة على الفهم، وفئاتٍ شابةً تبحث عن أفقٍ ومنظور، لم تكن تعرف السياسة قبل الثورات لكنها دخلتها عبرها، ولا تزال تجرّب وتحاول أن تفهم. هذا الوضع جعل اليسار غير قادرٍ على لعب دورٍ أساسيٍّ كما كان متوقعاً، وأمسى تائهاً لا يعرف الدور المنوط به أو الذي يجب أن يلعبه.
هناك الآن قوّةٌ دوليةٌ تشارك في العمليات العسكرية داخل سوريا، وإن كان تدخلها مقتصراً في هذه المرحلة على قتال تنظيم الدولة الإسلامية وإضعاف قدراته على المدى الطويل. هل يمكن القول إن هذا التدخل الطويل نسبياً قد يجرّ التحالف الدوليّ إلى حربٍ شاملةٍ على طرفي الصراع الرئيسيين (داعش والنظام)، بحيث يشكل هذا الرهان مخرجاً قد تعوّل عليه المعارضة السورية وتبني تصوّراتها الجديدة استناداً إلى هذه القراءة، للوصول إلى تحقيق الغرض الأساسيّ من الثورة ألا وهو إسقاط النظام؟
أكيدٌ أن أطراف المعارضة تراهن على ذلك، وتتوهّم أن أمريكا ستنجرّ إلى صراعٍ مع النظام. وقد أقامت هذه المعارضة استراتيجيتها، منذ البداية، على أن التدخل الخارجيّ وحده هو الذي سيسقط النظام. وهذا التصوّر وهميٌّ، فليست هناك حربٌ حقيقةٌ بين أمريكا وداعش، والأخيرة تلعب دور الورقة التي تسمح بتدخلٍ أمريكيٍّ من أجل فرض أجندةٍ سياسيةٍ بالأساس. ولهذا فإن أمريكا تغطّي حرب داعش ضد أطرافٍ داخليةٍ ولا تقصف مواقعها إلا بشكلٍ عابث، كقصف مواقع وهميةٍ وإنزال أسلحةٍ للتنظيم في العراق وحتى في عين العرب (كوباني).
وكما قلت سابقاً، أمريكا تلعب بالورقة السورية في إطار الحوار مع إيران. هذا السياق الوحيد الذي تتدخل فيه الولايات المتحدة، وهي تدفع باتجاه تحويل الصراع من الصراع ضدّ النظام إلى صراعٍ ضدّ داعش.
إن الوهم بإمكانية التحوّل في الموقف الأمريكيّ يسمح بالقبول بهذه المعادلة والتبرير للقوّة التي دُرّبت لمواجهة داعش، ولكن أمريكا تريد سوريا ورقةً، لأنها ليست معنيةً بمصيرها. وكان هذا واضحاً منذ بداية الثورة، إذ استفادت من كلّ الصراعات التي دارت فيها، وبالتالي أضعفتها من خلال تدعيم أشكالٍ من الأصوليات الدينية، وكلّ هذا للوصول إلى تفاهمٍ مع إيران. وربما سيكون ذلك من خلال تفاهمٍ أمريكيٍّ روسيٍّ إيرانيٍّ، وربما سعوديٍّ، لترتيب وضع سلطةٍ جديدةٍ في سوريا.
تريد أمريكا تكثيف الصراع في العراق لتغيّر معادلة السلطة هناك لمصلحتها، وبالتالي جعل السلطة العراقية بديلاً عن القوة الإيرانية، دون إهمال الوزن الإقليميّ لإيران. أما في سوريا فهي تريد نظاماً قائماً على أساس جنيف1، وأن يكون لروسيا دورٌ رئيسيٌّ فيه، لإبعاد الوجود الإيرانيّ منعاً لخلق الحساسية مع الكيان الصهيونيّ. أما أن تتطوّر الأمور إلى حربٍ بين أمريكا والنظام فهو تفكيرٌ وهميٌّ تماماً، وذلك لأن هناك قطاعاً من المعارضة يرى أنه محتاجٌ إلى من يسقط له السلطة وينصّبه بديلاً عنها، وهذا شائعٌ لدى المعارضة الخارجية، كجماعة الإخوان المسلمين وغيرها.