حوار مع وائل سواح

وائل السواح: لا يمكن مطالبة منظمات المجتمع المدني بتحقيق معجزة في سوريا
حاوره: مجيد محمد
تمر سوريا الآن بمرحلة حساسة جداً، حيث الصراعات العديدة بين القوى العسكرية بمختلف اتجاهاتها، والعلاقات المجتمعية التي باتت هشة لدرجة مخيفة، كيف يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تجد المخرج، للانتقال بالمجتمع من حالة الصراع الراهن إلى مرحلة جديدة، يمكن فيها الحديث عن بداية تكوين علاقات اجتماعية، تؤسس لسوريا خالية من الصراعات بين مكوناتها؟
في بلد مثل سوريا يمر بهذه المحنة الاستثنائية، لا يمكن للمجتمع المدني أن يُطالَب بإيجاد المخرج. جميعنا يعلم اليوم أن الأزمة السورية صارت لعبة خارجية، ولا يمكن لحل دائم أن يأتي إلا بتوافق سياسي بين الداخل والخارج.
المجتمع المدني يعمل على تحسين الأوضاع، وتقليل الخسائر، وجعل الانتقال أكثر سلاسة وأمناً وأقل كلفة، وتحقيق ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع لمصلحة السوريين عموماً. منظمات المجتمع المدني تعي ذلك. لذلك تراها تبذل كل جهدها لإنجاز ما يمكن إنجازه في مجالات ومناطق محددة. ويتساوى في ذلك من يعمل في مجال الإغاثة أو التعليم أو المناصرة أو التوثيق أو السلم الأهلي. لا يوجد مجتمع مدني يعمل على مستوى الساحة السورية بأكملها، لأن قوى الأمر الواقع تمنع ذلك، فالنظام يمنعنا من العمل في أراضيه، وداعش وشركاؤها يمنعوننا من العمل في مناطقهم. وحين نصرّ على العمل نُعتقل أو نقتل أو نخطف، كما جرى لخليل معتوق على يد النظام، ورزان زيتونة في المناطق التي يسيطر عليها جيش الإسلام. لذلك ترانا نعمل في ظلّ الممكن، دون أن نفرط بالناشطين المدنيين على الأرض.
الحديث عن الصراع في سوريا بات حول مشاريع عسكرية بحتة، تتنافس لإيجاد حواضن اجتماعية لها في مختلف المناطق، لماذا خرجت قوى الثورة السلمية من المشهد، واستحكمت به القوى العسكرية؟
لم تخرج قوى الثورة السلمية، بل أُخرِجَت. فمنذ اليوم الأول للثورة السورية أصرّ النظام على أن المتظاهرين إسلاميون متشددون يريدون إقامة إمارة إسلامية. وعمل على هذا الأساس، فأطلق الرصاص الحي على صدور المحتجين العُزّل. وقتل العشرات في كل يوم، ولكن المتظاهرين كانوا يخرجون من جديد للشارع وينادون: "سلمية.. سلمية..".
الأمر الذي أجبر المناضلين السلميين على الخروج من الساحة، هو القمع المفرط من قبل النظام الدكتاتوري من جانب، وقبول بعض فصائل الثورة التسليح الذي عرضته عليهم بعض القوى الإقليمية من جانب آخر. هذه الفصائل التي كبرت وتسيّدت الساحة صارت مثل النظام، تخاف من المتظاهرين المدنيين السلميين وتلاحقهم وتقمعهم. وأنت تعرف كم من زملائك الصحفيين اعتقلوا على أيدي النظام وعذبوا وقتل بعضهم تحت التعذيب أو تحت القنص. وكم من الصحفيين اختطفوا وقتلوا من قبل الإسلاميين المتطرفين المدعومين من القوى الإقليمية التي تفرض عليهم لقاء التسليح مزيداً من التطرف والغلو.
لقد اعتبر النظام المناضل السلمي أشد خطراً من المقاتل. ولذلك كان يخشى أمثال عبد العزيز الخيّر وفائق المير وخليل معتوق ومازن درويش وأيهم الغزول. ولذلك كان يختطفهم أو يقتلهم أو يسجنهم. وهو لم يفعل ذلك متأخراً. فمنذ الأسابيع الأولى قتل تحت التعذيب غياث مطر الذي كان يحمل الماء المبرد والورد لمقاتلي النظام في داريا، واعتقل صديقه يحيى الشربجي. كما اعتقل النظام طبيباً نفسياً هو جلال نوفل مراراً، فقط لأنه كان يساعد الأطفال المرضوضين نفسياً نتيجة الحرب. كل هذا أدى بالنهاية لإخراج الناشطين السلميين من دائرة الصراع، أما من بقي منهم فقد اختطفه النظام أو القوى الراديكالية الإسلامية ولا نعرف عنه شيئاً.
أنت ترأس منظمة "اليوم التالي"، وهي إحدى منظمات المجتمع المدني، ما الدور الذي يمكن أن تقوم به المنظمة في هكذا ظروف، وكيف تقيّم البيئة الاجتماعية المتاحة للعمل المدني في سوريا، هل يمكن العودة إلى الحديث عن بيئة حاضنة لمفاهيم المجتمع المدني في ظل الصراعات المتعددة؟
اليوم التالي منظمة تعمل على المرحلة الانتقالية، على دعم انتقال سلمي وديمقراطي لسوريا. ونحن نحاول بقدر إمكاناتنا المتواضعة أن نؤثر على مجرى الأحداث في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، حيث نحاول نشر أفكار سيادة القانون في مقابل الفوضى وسياسة القوة؛ العدالة الانتقالية في مقابل ثقافة الثأر والكره بين مكونات المجتمع السوري؛ حماية المدنيين في مقابل تغوّل المقاتلين وهيمنتهم؛ إلى جانب حماية التراث الثقافي السوري، وإصلاح القطاع الأمني، والدعاية لتأمين انتخابات محلية شفافة وديمقراطية، ونشر الوعي بين السوريين حول المرحلة الانتقالية عموماً.
هل يمكن الحديث عن بيئة حاضنة لذلك؟ نعم، ولكن بصعوبة. فقد أدى تدفق المال والدعم إلى شمال سوريا، إلى تغيّر في المزاج السوري عموماً، باتجاه مزيد من المحافظة والانغلاق أمام أفكار مثل الديمقراطية والعدالة الانتقالية وسيادة القانون. ومع ذلك يحاول ناشطونا في الداخل السوري العمل في ظل هذا الواقع. وهم يحققون إنجازات مهمة في هذا الصعيد، فقد باتت الأفكار التي ننادي بها مثل العدالة الانتقالية وضرورة الاحتكام إلى القوانين السورية، أفكاراً مقبولة في بعض الأوساط.
اكتظت الساحة السورية بالعديد من منظمات المجتمع المدني، هل ترى بأن هذا الكم من المنظمات كفيل بإعادة الثورة إلى المسار الذي فقدته بعد العسكرة، أم أنها مجرد رتوش لا تملك القدرة على إحداث تغيير في جوهر الصراع، الذي تحول في عدّة مناطق لصراع أهلي بين شرائح المجتمع ومكوناته؟
كما قلت سابقا، لا يمكن مطالبة المجتمع المدني بصنع معجزة. لا يمكن للنظام وداعش والقوى الإقليمية أن تدمر البلاد ومن ثم نطالب المجتمع المدني بإصلاح ما تهدم. ولكن منظمات المجتمع المدني الحالية كفيلة بإعادة الثقافة المدنية والعيش المشترك وتقبل الآخر، بشرط التنسيق فيما بينها وعدم جعل التنافس عائقاً أمام العمل المشترك. ونحن في "اليوم التالي" نحاول دوماً التنسيق مع منظمات المجتمع المدني على أساس برامج سورية، وعلى أساس مصلحة السوريين أولاً. فكلما التقت منظمات المجتمع المدني وتبادلت الأفكار ونسقت الجهود، كلما تقدمنا أكثر على صعيد استعادة مكانة المجتمع المدني في مواجهة القمع والدكتاتورية والتطرف.
كمثقف وناشط في العمل المدني، كيف ترى سوريا المستقبل، هل هناك فرصة للحديث عن نظام حكم يؤمن بالمدنية والتعددية والحريات والديمقراطية، أم أن الفرصة أكبر لقيام نظام استبدادي آخر، لكن ربما بنكهة دينية؟
ثمة بالتأكيد خشية من قيام نظام استبدادي آخر مكان النظام الحالي. كمثال على ذلك، في إحدى البلدات السورية، أراد مواطن أن يشتكي على قائد عسكري محلي، فأجابه القاضي باستهجان" تريد رفع دعوى على فلان؟". هذه هي الثقافة البعثية الأسدية نفسها، ولكن بلبوس آخر. فضلاً عن ذلك، نحن نرى ما يجري في أوساط المعارضة السورية "المعتدلة" ممثلة بالائتلاف.
ولكن السوريين ليسوا أمة متطرفة عموماً. والإسلام الشامي عموماً هو إسلام وسطي معتدل. وينبغي أن نتذكر دوماً أن السوريين قد خرجوا في ثورتهم ضد نظام الأسد من أجل الحرية والكرامة والمساواة، فلا يمكن أن يستسلموا لنظام استبدادي جديد يحل محله. لكن هذا بحاجة إلى تضافر كل القوى المدنية السورية، واستبدال المنافسة بالتعاون، وقبول نتائج الصناديق داخل هذه القوى، قبل قبولها على الساحة السورية عموماً. كما أننا بحاجة إلى دعم دولي كبير على الصعيدين السياسي والاقتصادي. إن إعادة إعمار سوريا يحتاج إلى مبالغ هائلة، فإن جاءت هذه المبالغ عن طريق السوريين في الخارج (وهم قادرون)، أو عن طريق الأمم المتحدة ونادي أصدقاء سوريا، فسيؤدي ذلك إلى انتشال سوريا من الهاوية، وخلق فرص عمل لجميع السوريين. أما إذا تركت هذه المهمة للقوى الإقليمية المعروفة، فسوف تستمر في فرض شروطها في رفض التحول المدني، ورفض حكم السوريين أنفسهم بأنفسهم، خشية قيام مثال ديمقراطي يهدد مصالحهم.