info@suwar-magazine.org

في المواطنة والعدالة وما بينهما من اتصال

في المواطنة والعدالة وما بينهما من اتصال
Whatsapp
Facebook Share

 

جاد الكريم الجباعي

 

لا بدّ أن يتّجه السوريون والسوريات، في قادمات الأيام، إلى عقدٍ اجتماعيٍّ، لن يكون عقداً جديداً يضمن استقرار المجتمع ونموّه وازدهاره، ويمهّد لتحوّلٍ جذريٍّ إلى الديمقراطية، إن لم يتأسّس على مبادئ العدالة. إذ نعتقد مبادئ العدالة وثيقة الصلة بمبادئ المواطنة الحديثة. ومع أن الحرب الدائرة اليوم تشير إلى أن موازين القوى هي التي ستحدّد العقد الاجتماعيّ، نراهن على إمكانية عقدٍ اجتماعيٍّ يقوم على مبادئ الحقّ والأخلاق المشتركة بين الجميع، ويعترف بها الجميع، وهو رهانٌ على أن الفرد الإنسانيّ عاقلٌ وأخلاقيٌّ، وأن بوسع الأفراد والجماعات أن يدركوا أهمية تحقيق مصالحهم الخاصّة في إطار المصالح الوطنية المشتركة. وهذا مما يجعل المصالح الخاصة مستنيرةً، ويضفي عليها مشروعيةً قانونيةً وأخلاقية.

 

 

العدالة في اللغة من العدل وهو ضدّ الجور، وتعني المساواة والتكافؤ. ومن أحد وجوهها تعني الإنصاف، أي أخذ الحقّ وإعطاءه، ويقال انتصف منه، وانتصف له، أي أخذ حقّه منه. والنَّصَفة: اسم الإنصاف، وتفسيره أَن تعطيه من نفسك النَّصَف أَي تُعْطيه من الحقّ كالذي تستحقّ لنفسك. ويقال: انتصفتُ من فلان أَخذْتُ حقّي كاملاً حتى صرتُ أَنا وهو على النَّصَف سَواءً. وأنصف فلان عدل. وتناصفوا أنصف بعضهم بعضاً وأنصف كلٌّ منهم الآخر من نفسه.

 

هذا المدخل اللغويّ، على أهميته، لا يمضي بنا نحو مفهوم العدالة الحديث، ومن ثمّ إلى مفهوم العدالة الاجتماعية، كما أنضجه وأرهفه الفكر الإنسانيّ الحديث. لكن المهمّ في هذا المدخل أن العدالة تحيل على الفضيلة الأخلاقية، على الصعيد الفرديّ، وتؤسّس مفهوم العدالة الحديث الذي يحيل على الفضيلة السياسية، أو "الفضيلة المدنية"، على صعيد المجتمع والدولة ونظام الحكم. والفضيلة في اصطلاح الفلاسفة وسطٌ بين رذيلتين. والفضيلة المدنية هي المواطنة المتساوية والاحتكام إلى قانونٍ عامٍّ.

 

تكتسب فكرة العدالة أهميتها النظرية والعملية، اليوم، من ارتباطها الوثيق بالحرّية والاستقلال الذاتيّ، والمساواة في الحقوق المدنية والسياسية، وتكافؤ الفرص، أو تساوي الشروط، والمشاركة المتساوية في الحياة العامة وحياة الدولة، أي بمبادئ المواطنة من جهةٍ، وارتباطها بمفهومي الخير والحقّ من جهةٍ ثانية. ولعلّ ارتباطها بمفهومي الحق والخير مما يجعلها موضوع تأويلاتٍ شتى واجتهاداتٍ مختلفة، سواء من جهة تعيين حقوق الأفراد وحقوق الجماعات والمجتمع وتعارضها، أو تعيين ما هو خيرٌ لكلّ فردٍ على حدةٍ ولكلّ جماعةٍ على حدةٍ، وما هو خيرٌ للمجتمع كله، أو تعيين علاقة الحقّ بالحقيقة واختلاف رؤى الأفراد والجماعات لما هو حقٌّ، ولما هي الحقيقة.

 

ولكن الجوهريّ في هذا كله هو التأليف بين الحرّية والمساواة، وتقيّدهما بقيود العقل (العمليّ) والخير العامّ والمصلحة/ المصالح المشتركة والأهداف أو الغايات المشتركة، وتعيّن الحدود بين الحيوات الشخصية للأفراد وبين الحياة النوعية (العامة)، أي الحياة الاجتماعية والسياسية بما هي الحياة الأخلاقية للأفراد والجماعات. فهي، أي العدالة، حدٌّ أخلاقيٌّ على الاستئثار والاحتكار والتسلط والاستبداد والظلم والتعسف، وشرطٌ ضروريٌّ للتشارك الحرّ في الحياة العامة وحياة الدولة. فالطابع العموميّ للمؤسّسات الاجتماعية والسياسية، والطابع العموميّ للدولة لا يتأسّسان إلا على مبادئ وقيمٍ إنسانيةٍ مشتركة، لا بين أفراد المجتمع المعنيّ والدولة المعنية فقط، بل بين أفراد النوع. فالقيم الاجتماعية والسياسية (الوطنية) التي تستحقّ الدفاع عنها هي قيمٌ كونيةٌ أو عالمية، وهذا معنى كونها عقلانية.

 

الحرّية وحدها، مطلقةً من أيّ قيدٍ ومشرَّعةً ذاتياً، قد تفضي إلى الفوضى وتفكيك العلاقات الاجتماعية والروابط الإنسانية، و"حرب الكلّ على الكلّ"، بتعبير توماس هوبز. الحرّية المطلقة من أيّ قيدٍ والمشرَّعة ذاتياً هي مبدأ الجماعات الإرهابية، في كلّ زمانٍ ومكان. والمساواة وحدها، مطلقةً من أيّ قيدٍ، تقتل الحرّية وتعصف بالكيان الإنسانيّ للأفراد والجماعات والمجتمعات، وتجعل منهم مجرد قطعانٍ بشرية. لذلك ننظر إلى العدالة اليوم على أنها تأليفٌ أو تركيبٌ من الحرّية والمساواة، على ما بينهما من تناقضٍ، كتناقض الهيدروجين والأوكسجين، اللذين يتركّب منهما الماء، فإذا فُصل أحدهما عن الآخر صار الهيدروجين ساماً والأوكسجين حارقاً، وكذلك المساواة والحرية. من هنا تقترن العدالة بالمواطنة اقتراناً ضرورياً، بحيث تبدو كلٌّ منهما شرطاً لإمكان الأخرى.

 

نذهب دائماً، في هذا المجال، إلى أن الحرّية هي ماهية الفرد الإنسانيّ وجوهره، ذكراً كان الفرد أم أنثى، وهي بالضبط قوام إنسانيته أو كونيته. الحرّية المؤسّسة في الاختلاف وعليه هي ما يجعل المساواة والتكافؤ ممكنين، على اعتبار المساواة هنا مساواةً في الحيثية الإنسانية وفي عضوية المجتمع والدولة ومؤسّساتهما، أي في المواطنة المحلية والعالمية، وإلا كانت المواطنة انتماءً عصبوياً وعنصرياً. لذلك لا تزال النزعات الوطنية أو القومية ملوّثةً بالعنصرية والميول الإمبريالية، وهاتان العنصرية والإمبريالية متلازمتان.

 

في ضوء الاختلاف والتفاوت، اللذين لا يمكن حذفهما أو حذف أيٍّ منهما، تبدو لنا العدالة صيغةً عقلانيةً وأخلاقيةً، بالتلازم الضروريّ بين العقل والأخلاق، للتوفيق أو التوليف أو التسوية بين رغباتٍ مختلفةٍ وبواعث أو دوافع مختلفةٍ وإراداتٍ مختلفةٍ ومصالح مختلفةٍ وغاياتٍ مختلفةٍ، وجماعاتٍ متفاوتةٍ في القدرة والثروة على أساس ما هو عامٌّ ومشتركٌ فيما بينها، على وجه الإنصاف. التسوية على وجه الإنصاف هي التسوية التي يربح فيها الجميع، على اختلافٍ في نسب الربح، وهو ما نعنيه بالتوليف بين الحقّ والخير، وفق مبادئ وإجراءاتٍ مقبولةٍ من الجميع. وليس ربح الفئة (س) دوماً خسارةً للفئة (ص) إلا بمنطق الحرب.

 

 

ونذهب دوماً إلى أن اختلاف الأفراد، واختلاف الذكور عن الإناث، هو شكل تعيُّن الحرية وشكل ممارستها، فالحرّية، في نظرنا، ليست "مشكلةً فلسفيةً"، وليست مجرّد قيمةٍ أخلاقيةٍ أو مقولةٍ ميتافيزيقيةٍ، بل معطىً وجوديٌّ (أنطولوجيٌّ) يتعلق بالطبيعة الإنسانية. الحرّية هي ماهية الكائن الإنسانيّ، ماهية الفرد الإنسانيّ وجوهره، هي إنسانيته، إذا تجرَّد منها ينتكس إلى ماضيه الحيوانيّ، وإذا جُرِّد منها، بأية صورةٍ من صور التجريد، يتحوّل في نظر من يجرِّده إلى موضوعٍ لسلطته ومادةٍ لإظهار صلفه وغطرسته. لذلك نصِفُ العلاقات الاجتماعية بصفتين متداخلتين ومتجادلتين: علاقاتٌ ضروريةٌ، كالعلاقة بالأسرة والدولة، بالتحديد؛ إذ ليس بوسع الفرد أن يعيش لا خارج الأسرة، وهي مؤسّسةٌ طبيعيةٌ، ولا خارج الدولة، وهي مؤسّسةٌ/ مؤسّساتٌ صنعيةٌ، وعلاقاتٌ طوعيةٌ أو حرّةٌ هي شبكة العلاقات الأفقية التي تنسج المجتمع المدنيّ وينسجها، مثالها الأبرز علاقات العمل وعلاقات الصداقة والحب الجنسيّ والعلاقات التعاونية والتشاركية، القائمة على الثقة والمودّة والاحترام والتكافؤ، وما يشوبها من أوضارٍ وما يعتريها من اضطراب. العلاقات الأسرية مبدأ العلاقات الطبيعية، الأولية، وعلاقات المواطنة هي أفقها وذروة تطوّرها. بعبارةٍ أخرى، للعلاقات الاجتماعية شكلان: علاقاتٌ فرديةٌ، أو ذات طابعٍ فرديٍّ، تنسج الحياة الشخصية للفرد، وأخرى نوعيةٌ، أو ذات طابعٍ نوعيٍّ، تنسج الحياة العامة للفرد نفسها أو نفسه، في إطار الجماعة أو المجتمع الصغير، وفي إطار المجتمع الكبير أو الكليّ.

 

العلاقات الضرورية والعلاقات الطوعية لا تعيِّنان شيئين مختلفين لفردين مختلفين أو جماعتين مختلفتين، بل هما صفتان مختلفتان لعلاقات الفرد ذاته والجماعة ذاتها، صفتان لعلاقات كلّ فردٍ ذكراً كان أم أنثى بغيرها أو غيره من الأفراد، ولعلاقات كلّ جماعةٍ بغيرها من الجماعات. وهكذا تندرج العلاقات الاجتماعية في جدل الحرّية والضرورة، ولنا فيه قولٌ مختلفٌ أيضاً عن القول السائد، الذي مفاده أن "الحرّية هي وعي الضرورة"؛ إذ نعتقد أن الحرّية تضع الضرورة أو تنتجها، وتتعيَّن فيها، أي إن الحرّية تنتج نفسها في صيغة ضرورةٍ، وتعمل، بلا كللٍ، على تفكيكها من داخلها ومن خارجها، فتعيد إنتاجها مرّةً تلو مرّةٍ؛ وتلكم هي قوّة السلب أو النفي الملازمة للكائن.

 

ويجوز القول إن الضرورة هي الحرّية مموضعةً أو متعيِّنةً، وكلّ تعيُّنٍ سلبٌ أو نفيٌ، حسب اسبينوزا، ولذلك رأى هيغل في الدولة حرّيةً موضوعيةً أو تجلياً للروح الموضوعيّ، وكان على حقّ، وإن قلَبَ مقولة اسبينوزا لتصير: كلّ سلبٍ هو تعيّنٌ، وفقاً لمذهبه المثاليّ القائم على مصادرةٍ مسيحيةٍ، وعبّر ماركس عن ذلك بطريقةٍ مختلفةٍ وصورةٍ مختلفةٍ حين اعتبر أن الدولة هي "الحياة الأخلاقية للشعب" أو حياته النوعية، كما سبقت الإشارة. رأى هيغل أن الروح الموضوعيّ هو الروح وقد خرجت من جوّانيتها، وأوجدت نفسها في العالم الخارجيّ، وليس المقصود بالعالم الخارجيّ عالم الطبيعة، لأن هذا العالم موجودٌ بالفعل، ولكن العالم الذي يظهر فيه الروح الموضوعيّ، وهو عالمٌ تخلقه (الروح) بنفسها، لكي تصبح موضوعيةً. وهذا العالم هو، بصفةٍ عامةٍ، عالم المؤسّسات والتنظيمات الاجتماعية، كالقانون والأسرة والمجتمع والدولة. وهو لا يشمل هذه المؤسّسات وحدها، ولكنه يشمل كذلك العرف والعادات والتقاليد والحقوق والواجبات والأخلاق.

 

ومن ثمّ، فإن جوهر التراجيديا الإنسانية هو الانفكاك من قيود الضرورة شيئاً فشيئاً ومرّةً تلو مرّة، بدءاً بالضرورة/ الضرورات الطبيعية. ولذلك لا نضفي على الحرّية قيمةً إيجابيةً مطلقةً، ولا نضفي على الإنسانية قيمةً إيجابيةً مطلقةً، فاللاحرّية أو التبعية و"العبودية الطوعية"، واللاإنسانية المرادفة للعنف والاغتصاب والعدوان والاحتلال والاستعمار.. حقيقتان بشريتان وتاريخيتان. ونجادل في أن ما تعدّ نزعةً عدوانيةً متأصّلةً في الطبيعة البشرية، ليست سوى راسبٍ من رواسب المرحلة الحيوانية من مراحل تطوّر النوع، توقظها ظروفٌ وأوضاعٌ اجتماعيةٌ اقتصاديةٌ وسياسيةٌ لاإنسانيةٌ، أي إن ما تسمّى "نزعةً عدوانيةً" هي، في الواقع، غريزةٌ طبيعيةٌ في الحيوان، لا في الإنسان الذي قطع حبله السرّيّ الذي كان يربطه بالطبيعة غير العاقلة وغير الأخلاقية. فليس التمدّن سوى ابتعادٍ أو نأيٍ متواترٍ ومطَّردٍ عن الغرائز الطبيعية، التي يتشارك فيها الإنسان والحيوان، وأنسنةٍ مطَّردةٍ لهذه الغرائز. الطبيعة الإنسانية عاقلةٌ وأخلاقيةٌ، لا ينفصل فيها العقل (الذاتيّ والموضوعيّ) عن الأخلاق (الذاتية والموضوعية). لأن العقل هو عقل الفرد أساساً، والأخلاق أخلاق الفرد أساساً، لا يظهران إلا في الحياة الاجتماعية.

 

الشرط الأوليّ للعدالة هو أن يكون بمقدور الأفراد والجماعات أن يقولوا، أو أن تقول، (لا) من دون أن يتعرّضوا، أو تتعرّض، للمساءلة أو القمع أو الاستبعاد. أي إن الشرط الأوليّ للعدالة هو اعتبار قوّة السلب أو النفي على درجةٍ واحدةٍ من الشرعية مع قوّة الإيجاب والإثبات أو التوكيد، وتلكم هي العلامة الأبرز على الحرّية والشرط الرئيس لحرّياتٍ متساويةٍ للجميع. يتضمّن هذا الشرط أنه لا يحقّ لفردٍ أو لجماعةٍ ثقافيةٍ أو لفئةٍ اجتماعيةٍ أو لقوّةٍ سياسيةٍ أن يقرّر وحده، أو تقرّر وحدها، مبادئ الحقّ والأخلاق، ويفرضها، أو تفرضها، على الآخرين. كما يتضمّن أن الحقّ لا تقرّره القوّة، بل تقرّره الحقيقة/ الحقائق الواقعية التي يدركها الجميع، وإن من زوايا مختلفةٍ ومواقع مختلفة، ويمكن التوصّل إلى اتفاقٍ عليها بالمناقشة العامّة والحوار المفتوح.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard