info@suwar-magazine.org

أنا سوري آه يا نيّالي

أنا سوري آه يا نيّالي
Whatsapp
Facebook Share

وافي بيرم

 

كالعادة، أنهيتُ عملي واستقليتُ الحافلة المتوجّهة إلى محطة القطار. اتخذتُ مقعداً مزدوجاً في مكانٍ مميّزٍ، أملاً أن تجلس بجانبي فتاةٌ تركيةٌ عثمانية، لأحاول فهم الحضارات بشكلٍ أفضل. فأنا سوري وآه يا نيّالي.

 

امتلأ نصف الحافلة تقريباً وانطلقتْ، دون أن يجلس أحدٌ بجانبي. والجميع كان يتحدّث باللغة التركية، فدمدمتُ بصوتٍ خفيضٍ: "اللعنة على الأسد وعلى اللغة التركية".

 

فجأةً، سمعتُ شابين يتحادثان همساً بلغةٍ عربيةٍ ولهجةٍ سورية. وبشكلٍ لا إراديٍّ التفتُّ إليهما وسألتُهما: الشباب من سوريا؟

 

لا أعرف ما الذي دفعني إلى سؤالها، إلا أنني متأكدٌ من أن فرويد وأوديب ليس لهما دخلٌ بهذا الدافع. أجابني أحدهما ببرودٍ واستهزاءٍ بسؤالي: "نعم من سوريا".

 

لم أهتمّ لطريقة الجواب، وكرّرتُ تطفلي راغباً في فتح حديثٍ معهما، وبدأتُ بأسئلةٍ عادية: "من أين أنتما؟ ماذا تعملان؟ وكيف أموركما؟ وما هي وجهتكما؟ إلخ..".

 

ما فهمتُه منهما أنهما صاحبا مشغل خياطةٍ، وهما متّجهان إلى محطة القطار. ولكني فهمتُ أخيراً أنني (غليظٌ)، وأنهما لا يرغبان في محادثتي. فأنا سوريٌّ وقد أطلب عملاً لي أو لأحدٍ من أقاربي، والعياذ بالله.

نزلنا من الحافلة، وكان ما يزال هناك وقتٌ لانطلاق القطار. وبما أني لم أفارقهما لحظةً، اكتشفا أن لا مهرب من فضولي وغلاظتي، فاعتذرا مني قائلين إن لديهما صديقاً سيمرّان عليه حتى يحين موعد القطار، وغادرا.

 

وأخيراً، بذكائي الخارق، فهمتُ أنهما لا يرغبان في مرافقتي. صعدتُ القطار وجلستُ خلفهما مباشرةً، ولكني لم أُعد الكَرّة في التقرّب منهما، فأنا سوريٌّ ولي كرامتي وآه يا نيّالي.

 

في الصباح، وأنا متربّعٌ وراء طاولة عملي وأعمل (كذب، لم أكن أعمل، فأنا سوري آه يا نيّالي، كنت أتصفّح الفيس بوك) اقتحمت المحاسبة مكتبي وقالت لي بدلالٍ: "المدير يريدك في مكتبه". حدّقتُ فيها طويلاً كعادتي وقلتُ لها: "تمام أبلة".

 

لبّيتُ النداء فوراً، كتلبيتي لنداء الوطن (بما أن الكذب شغال)، ودخلتُ غرفة المدير، فإذا بنفس الشابين السوريين اللذين رأيتهما في الحافلة يجلسان عند المدير، الذي طلبني لترجمة حديثهما إلى التركية. (حلوة "أترجم" هذه، مع أني أتأتئ تأتأةً. على كلّ حالٍ أنا سوري، وآه وألف آه يا نيّالي؛ أفهم في الترجمة، وتصليح الحنفيات، جرّات الغاز، البلاستيك العتيق، طبقة الأوزون، الاحتباس الحراريّ، فضلاً عن كوني مبلّطاً، ومهندساً، ونجاراً... علم، فلسفة، سياسة، رئاسة، وهي أهمّ شيء، كلّ هذا أتقنه وأفهمه).

 

استمعتُ إلى أحد الشابين، بعد أن سلّم عليّ بحرارةٍ فوجئت بها، وفهمتُ منه أنه يريد أن يشتري من منتجات الشركة التي أعمل فيها، إلا أن الشركة لا تبيع الكميات القليلة التي طلبها هذا السوريّ ابن بلدي، فطلب مني أن أسأل المدير العثمانيّ عن جهةٍ تؤمّن له طلبه. بدأ المدير سلسلة اتصالاتٍ، وسأل عدّة أشخاصٍ لكي يساعد هذا الشاب، إلا أنه لم يستطع. مع العلم أني، أنا وهذا المدير العثمانيّ، نعرف حقّ المعرفة أن هناك شركةً تستطيع تلبية طلبه، ولكن شركتنا وتلك الشركة ليستا على وفاق، وهما في منافسةٍ غير شريفةٍ فيما بينهما. شتمتُ المدير في نفسي فهو يتجاهل أننا سوريين (سوريين أم سوريون؟ لا أعرف! ويتوقف الأمر حتى يصدر مجلس الشعب الموقّر قراره بهذا الشأن).

 

هنا أحسستُ بأن ابنَي سوريتي قد أصابهما اليأس، فغمزتُ لأحدهما بعيني، وولّدت لديه انطباعاً بأنني سأساعده فيما بعد، وسأدلّه فيما بيننا، فأنا سوري ولك آخخخخخخخ شو نيّالي!

 

استأذنا فوراً، وخرجا من عند ذاك العثمانيّ إلى الشارع، ووقفا في الشمس الحارقة بانتظاري. وأنا، على مهلٍ وبتروٍّ، كأيّ سوريٍّ، خرجتُ إليهما في الشارع، وهما ينتظرانني على أحرّ من الجمر.

دنوتُ من أحدهما وسحبتُه من يده وسألتُه: "هل يلزمكم عمالٌ في معملكم؟ فلديّ أصدقاءٌ بحاجةٍ إلى عمل".

 

نظر إليّ نظرةً من الأسفل إلى الأعلى وبالعكس، وغادر مع صديقه بدون أيّ رد. أحسستُ عندها فعلاً أنني سوري وآه يا نيّالي.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard