info@suwar-magazine.org

مفاتيح سوريّا

مفاتيح سوريّا
Whatsapp
Facebook Share

 

 سعيد قاسم

 

لأنه الوحيد الذي يموت لسبب لا يتعلق به، وإنما في الدور الذي يلعبه في فتح باب أو غيره؛ فهو/المفتاح ينتفي سبب وجوده بغياب القفل، أو غياب الباب لسبب أو لآخر، كعاشق يائس لم يعد يأبه لقصائد الحب والغزل بعد مفارقته لمحبوبه.

 

كذلك يأخذ المفتاح بعداً أوسع بالنسبة لنا وللإحالات والثيمات العديدة، بوصفه ممثّلاً للمعابر كلّها، وليس فقط بالنسبة لقفل الباب، حيث الأقفال في البلدان التي تتشابه مع التجاعيد المبكرة لوجوهنا، لا تقتصر على أقفال الأبواب، فثمة أقفال لغد أفضل، أقفال لحرية التعبير، للأمل، للحب...

 

في سوريا، قبل الثورة، كان المفتاح يحمل دلالاتَ الفساد، أكثر من أي دلالة أخرى، إذ كنتَ تجد العسكري يبحثُ عن مفتاح الضابط؛ المسؤول عن القطعة العسكرية، بهدف الحصول على مكان أفضل للخدمة، أو ربما الاتفاق مع الضابط على منحه إجازة مفتوحة لقاء راتب شهري، وهذا ما كان يطلق عليه في سوريا اسم "التفييش".

 

الجيش كونه المؤسسة الأكثر شهرة بالفساد، لم تكن الوحيدة، بل إنّ مؤسسات الدولة بمختلف اختصاصاتها، وموظفيها كانت تسير وفق ما يريده المفتاح، ولأنّ المفتاح في طبيعته، عادة ما يكون صغيراً فإنّ أقفال مؤسسات الدولة كانت بيد المستخدم! حيث أنّ أي مستخدم في أي دائرة حكومية كان يمتلك مفاتيح الدائرة بأكملها، ابتداءً بمفتاح عيار 50 ل س، وانتهاءً بمفتاح أكبر؛ المناقصات، فيما بقي المفتاح الأكبر بيد متنفذي السلطة، ذلك المفتاح الماستر، الذي كان يقحم الأقفال كلّها ويحصرها بنفسه، بل وكانوا شركاء لكلّ تاجر أراد طرقَ أبواب الثروة.

 

كثرة الإقحام وبقاء الأقفال عبئاً على عامة الشعب أطلق شرارة الثورة، ليحملَ كلّ سوريّ مفتاح السجن الذي وضع نفسه فيه، وزجّ فيها بخوفه، وحقده الدفين على أقفال أصيبت بالصدأ لغياب المفتاح، وما إن عبّر المفتاح عن نفسه حتى فَتحت الشوارع والساحات العامة أقفالها، لتصبح أبواباً مفتوحة وهامشاً للأمل بغد أفضل.

 

شبيحة النظام وأجهزة الأمن وجدوا في مفاتيح الشعب أقفالاً لدورهم ووظيفتهم في الحياة، لتبدأ آلة القتل باصطياد من بحثوا عن مفاتيح للأمل، والكرامة، لتكثر ضحايا المفاتيح بين قتيل، ومشرد، ومعتقل، بل وجُرّدت المفاتيح من أسبابها حين خُلعت الأبواب، ونُهبت الممتلكات، لحين أن أطلقت المفاتيح النار على غاصبيها، لتصبح لغة القتل والدمار هي السائدة في بلد لم تعُد أبوابه تُفتح بمفاتيحها الخاصة، وإنما أصبح المفتاح واحداً وعاماً، مفتاحٌ يخلع البيوت جميعها، أو يمحوها عن بكرة نجّارها، لتصبح المفاتيح فيما بعد بيد المهرّبين، أولئك الذين لديهم ملَكة فتح المعابر غير الشرعية.

 

والآن ما الذي يعنيه المفتاح لحسناء سورية كانت تقول لشاعرها: " يكفيني من أمتلك مفاتيح قلبي"، وأنت، أيها السوري، ما الذي يعنيه المفتاح لك وقد فقَدت البيوت أبوابها؟ ما معنى أن تظل متمسّكاً بمفاتيحك الخاصة، وتتذكر قصيدة درويش " لماذا تركت الحصان وحيداً يا أبي" حين قال: " ويتحسّس مفتاحه كما يتحسّس أعضاءه"، على الولد أن يقول الآن: ارمه بعيداً يا أبي، لم يتبقَ أثرٌ للباب، أو البيت! ربما عليك أيضاً أن تعيد النظر في طريقة تعاملك مع يديك، حين أفضت بكَ المآسي إلى بلاد لا تُقرع فيها الأبواب، أما بابك فقد غدا قطعة قماش ليست بحاجة لأيّ مفتاح، أما بالنسبة لمن ظلّوا في سوريا، فما زالت المفاتيح تُقرع بالأمل حين يهدرُ صوتها خارج أسوار المعتقل.

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard