info@suwar-magazine.org
هذه وصيّتي
Whatsapp
Facebook Share

لست بحاجة لقدّاس الموت، حيث ترتجف أيادي عازفي الأوركسترا، وهم يبحثون عن مفاتيح الخلاص، أو الهلاك، وقد كتب لهم موتزارت ما كتب.

- المسألة أبسط من ذلك، ربّما لأنني أريد ما أعرفه:

- أعرف أشيائي الصغيرة، من مثل، دفتر ملاحظات حياة اليوم والأمس، وتوقّعات عمّا يمكن للغد.. حقيبة كتف، رسائل مؤجّلة لم تُكتب بعد، والكثير من الأسرار تطال الموسيقا، والفِلاحة، والرعي، والخيبة، وأصدقاء المنفى الاختياريّ، وأصدقاء ذاكرات السجون، وكذلك تخطيطات لرواية أو ربّما أكثر، لمجازفات أعرف بالتمام والكمال أنها لن تمنح معناها على الأقل والبشرية منشغلة بالتكاثر، ومن ثم القتل.. روايات ليس فيها أنبياء، ولكن لها أبطال من حمّالي الأوجه، وإن كانت وجوههم محطّمة وشظايا الزجاج تأخذ من حطامها ما تأخذ.

أخاف الموت؟

أخاف مالم أختبره، تماماً كما أخاف ما اختبرته.. إذن، القصة ليست خوفاّ من المجهول، ولا الخوف من الاختبار.
- هل بإمكاني البقاء هنا؟ أعني على الشكل الذي أنا عليه، متحرّكاً، مستلقياً، جالساً القرفصاء؟
- لا.
لم ينجُ أحد من ذلك الرحيل، أتعرفون المتنبّي وهو القائل: أنام ملْءَ جفوني؟ نام نومة أبديّة، وإن كان لميتته جلالة الفارس، وقد اتّكأ على سيفه حتى مزّق منه السيف الأحشاء.

اسكندر المقدونيّ، وقد تساوى مع التراب/ الرمال/ الطحالب/ نبات الأرض والحصى.

وكذلك رحلَ بشرٌ معوزون طاردهم الرغيف حتى القتل.. وكذلك ولاّدات قتلهنّ الجنين، من قال إن الجنين يقوم بفعل القتل؟
بشرٌ يقتلهم الحصار، حصار المكان، انسداد مجرى التنفّس، خفقات القلب، فوضى الشرايين والأوعية وعبث الجسد المنحطّ.

مثل كل أولئك سأموت، لا، بل مثل النملة، الذبابة، خيول البرّ، سأموت، مثل التفاحة سأموت، مثل العصافير وقد حاصرها الصقيع، ومثل الملل الذي يقتل الحيرة سأموت، ومثل كلّ المعاني التي تتدحرج من تعسّف التاريخ إلى حكمة التاريخ وبالعكس سأموت.

كلّ الفارق، أنني أفطن الآن لكتابة وصيّتي، و:

- لست مكتئباً ولم أُصَبْ بالوساوس القهرية بعد.. لست حزيناً كما أمّ ثكلى، أو كما عاشق مخدوع اقتسموا معه السرير، لست حزيناً كما مَلك سقط عن تاجه الملك، ولست من أولئك الذين يلعبون ما بين السلاطين والقياصرة حتى يحسبون للموت.. لست كل أولئك، ولست :"مجرّد رجل"، لا.. أنا لست مجرّد رجل. و: لست ذاك الراقص الذي يتقن الرقص على الجليد.. لا ، لست كلَّ أولئك العظماء، النبَهاء، السيّافين، الخيّالة، مضرمي النيران، فاتحي مغاليق الإجابات الصعبة.

لست أيّاً من أولئك، ولكن لي ما هو لي، لي وصيّة، استباقاً للقادم الذي يقيناً سيأتي وكل ما تبقّى مشكوك فيه، وصيّة تُختزل بكلمتين، هما نقيض ما أكرهه، وما أكرهه:

- المكان المغلق، والسيّدات الندّابات.

والحال كذلك، لا أريد القبر، أبحث عن الرماد، فإذا تبقّى منّي ما يصلح للأحياء: قرنية العين، الرئة، القلب، شيء من العظام، فلتأخذه المشرحة إلى الأحياء، ولا أظن أن ثمّة ما سيتبقّى بي صالح للأحياء، وبعدها فلتكن الأفران، تلك الحمم الصغيرة التي تأخذني إلى الرماد.. كمشة رماد وكفى، يلقيها شخص ما، ليس مهمّاً من سيكون حاملها، ولن أكون منشغلاً بـ: أين سيُلقى ذلك الرماد، المهمّ أن يُلقى بعيداً عن الأماكن المغلقة كالبيوت أو القبور، أو مدارس التلاميذ.

وأكره الندّابات، إذن فلتكنِ الموسيقا، قليل منها، أو كثير، شيء من الغناء الصوفيّ، يكفيني منه الشيخ أحمد التوني، وشيء من آينور، ويكفيني منها أيّ شيء، وشيء من فاغنر، لا لشيء بل لأنه علّمني كيف أرتدي أربعة خواتم في كفّ يدي.

ولتكن الجنازة احتفالاً بالرماد.
أعرف ما أريد، وأعرف ما أعرف، هذه وصيّتي ما بين زمنين، زمن يسمّونه الحياة، وزمن يسمّونه العدم.

بهدوء أعصاب أقول ما أقول، بلغة بائع الترمس، بائع الكعك على الرصيف أقول ما أقول.
هذا الكوكب يقف على عنق الزجاجة، ولا بدّ أن تتحطّم الزجاجة.

- لا أحدَ يظنّ غير ذلك.
هذا الكوكب وقد أصيب بهشاشة العظام، لابدّ أن يُسقِطنا عن كتفيه بعد أن عاف الدوران.. ثمّة لحظة ستنزلنا عن كتفيه.
- مَن يسبق من؟ ليس مهمّاً.
- المهمّ أن نتلافى الأمكنة المغلقة والندّابات.

فيما تبقّى من الوقت، سنسرق من الوقت ما استطعنا.
- نعم سنكون لصوص الوقت حتى نهاية الحياة.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard