info@suwar-magazine.org

صناعة التوحّش السوري

صناعة التوحّش السوري
Whatsapp
Facebook Share

 

 

في مقالة ضمن المجلة الأميركية لعلم الاجتماع يقول البروفسور رالف: لكي تَنتج الإبادة يجب أن يتوفّر فيها الشروط التالية :

 

أولاً: أن يكون منفّذو الإباِدة على اقتناع تامّ بصحّة عملهم، وأنهم يتّصفون بالامتياز العنصري والإنساني عن غيرهم.

ثانياً: أن يكون أمام المنفّذين مجموعة تستحقّ الإبادة من وجهة نظرهم.

ثالثاً: أن تتوفّر الأسلحة القادرة على التنفيذ بالسرعة المطلوبة.

رابعاً: أن تتمّ العملية وسط جوّ سياسي ومعنوي خاصّ لا يكترث بعملية الإبادة، وإنما يقابل هذه العملية بالتفرّج عليها.

 

هل توضّحت لنا معالم الإبادة الحاصلة والتي تحصل في الغوطة ؟!

 

لقد استطاع النظام السوري خلال سبع سنوات من الثورة تحويل هذه الشروط إلى منهج مدروس في حرب الإبادة على السوريين، وقد ظهرت على السطح كافة المؤشّرات التي تؤكّد أن صناعة التوحّش والعنف بين السوريين كان مطلباً أساسياً للنظام، ممّا يسهّل عليه ضرب أي شكل من أشكال التوحّد والامتثال بين شرائح الشعب.

 

مع بداية الحراك الثوري في الغوطة, حاول النظام السوري الالتفاف على مطالب الناس بالحرّية، وذلك من خلال إرسال وفود عسكرية (وليس مدنية) من أجل التفاوض مع الأهالي لسماع مطالبهم، محاولةً منه لإظهار أن ما يحدث، هو عبارة عن مطالب فردية، ولا تخصّ ثورة مجتمعية ضدّه، وبالفعل انجرّ بعض الأهالي لهذه المسرحية، فهذا الذي يطالب بأن يمتلك بيتاً، وتلك التي تريد تزويج ابنها، وذاك الذي يريد أن يمتلك سيارة كأبناء الضباط ... لكن هذه المحاولة اصطدمت بمثابرة الحراك الجمعي في أغلب مناطق ريف دمشق، وخاصة دوما التي كانت النواة لانطلاق شرارة الثورة في جميع مناطق الغوطة الشرقية.

 

وقد استفاد النظام من ترويج فكرة بين عناصره أن ما يحرّك هؤلاء الناس، هو الجشع والحقد على الطائفة الحاكمة، وكثيراً ما أصبح يتردّد بين أفراد الجيش مثل هذا النوع من الكلام، وبدأ يتشكّل الخوف من إمكانية سيطرة (السُّنة)، وبهذه الطريقة خُلقت أول معادلة لصناعة التوحّش, أصبح هناك "نحن" وأصبح هناك "هم".

 

 

ولأن "هم" هي الفئات الشعبية الثائرة، فقد كان لا بدّ من إظهار وجهها العنيف للطرف الأول، وما هي إلا فترة وجيزة حتى أخرج النظام الإسلاميين من السجون، وقد سرّبت قناة الجزيرة أوراق التوقيع على خروجهم التي كان قد تمّ تهريبها من محكمة أمن الدولة، وعلى رأسهم "زهران علوش" مؤسّس جيش الإسلام. وفي ذات الوقت بدأ النظام بتصفية واعتقال كافة نشطاء الحراك السلمي والمدني، والجميع بات يعلم بقيّة القصة.

 

ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي منذ ذلك الوقت في تبادل الفيديوهات بين الطرفين، وكان النظام يعتمد هذه السياسة اعتماداً منهجياً من أجل تأجيج الحقد بين فئات الشعب، وخاصة فيما يتعلّق بالفيديوهات المهرّبة من الأفرع الأمنية، وفي ذات الوقت بدأت بعض فصائل جبهة النصرة سابقاً وجيش الإسلام، تمارس ذات السلوكيات المستبدّة تجاه الشعب، بالإضافة لمهزلة الفيديوهات التي كانت تُنشر من قِبَلهم والتي استغلّها النظام كي يؤكّد لمؤيّديه أن كل من في الغوطة هم عبارة عن مجموعة من الموتورين والإرهابيين، وسيصبح الإعلام وسيلة تحريض شعبية من أجل إبادتهم قبل أن ينسلّوا إلى العاصمة دمشق، وكما يقولها سارتر إن أردت أن تبيد جماعةً ما فقط ألصق بها كل الصفات غير الإنسانية، حتى تصبح إبادتهم أخفّ وطأة، وهذا ما تمّ تتويجه في القصف الكيماوي على غوطة دمشق في 8/ 2013.

 

استمرّ الدعم الدولي للنظام الذي رُفعت عنه جميع الخطوط الحمراء، وصار شعار النظام استخدام القوة، والقوة المفرطة, وبالرغم من الهدوء النسبي الذي عاشته غوطة دمشق، فقد كانت الجبهات الأخرى تشتعل، وخاصة في داريا وبرزة, وبدأت تظهر على السطح الانقسامات الفصائلية والسياسية الحادّة لدى المعارضة والتي تحوّلت إلى حروب شتّتت جهود الثوار على الأرض, وكل ذلك كان مترافقاً بزيادة تدفّق الميليشيات الطائفية، وتوسّع سيطرة داعش على مناطق واسعة -التي استفادت منها جهات دولية ومحلية من نظام ومعارضة-،  وبالرغم من ذلك فقد استطاع (الجيش السوري الحرّ) والشعب السوري مقاومة كافة هذه التداعيات بعد دفع ضرائب عالية من حصار وقصف وتجويع، وتقهقرت العديد من الميليشيات وقِطَع الجيش السوري على  حساب تقدّم (الجيش السوري الحرّ)، حتى طلب رأس النظام السوري من الجيش الروسي التدخّل في أيلول من عام 2015، والذي قلب المعادلة رأساً على عقب من خلال سياسة الأرض المحروقة التي خلَّفت العديد من المجازر.

 

 

ومع بداية تطبيق تكتيكات خفض التصعيد، بدأ الاستفراد في المناطق السورية التي تقع تحت سيطرة القوى المعارضة واحدة تلو الأخرى والتي اشتركت بها قوى إقليمية وعربية، وأبرزت مدى ارتباط المال العسكري للمعارضة بسياسات الدول. للأسف تخاذل الجميع ولم يبقَ في الميدان سوى الغوطة، فهي المحيط الذي يُعتبر شوكة في حلق العاصمة السياسية للنظام، وبعد صمود هذه الجبهة لأكثر من خمس سنوات، وإسقاط العديد من الاتفاقيات والتي كان آخرها سوتشي، أصبحت حرب الإبادة والتغيير الديمغرافي هما الهدف الإستراتيجي للمشروع الروسي الذي أصبح النظام أداةً في يده، وذلك كله من أجل خلق مجتمع أكثر صحّةً بالمعنى الطائفي للكلمة كما عبّر عنه بشار الأسد، لذا كان لا بدّ من استنزاف كافة ما يمكن استنزافه من صواريخ وبراميل وقذائف وأسلحة كيميائية وفسفورية، يبدو أنها "محلّلة" دولياً أمام مشاهد تعرض يومياً في عشرات الفيديوهات، ولا تحرّك ساكناً في أحد، وهي تخلق شرخاً في المجتمع السوري سيطول مداه، وسيصبح من الضروري أن نتساءل: ماذا سيحصل إن أصبحت الضحية في مكان السيطرة؟

 

في العودة إلى كلام البروفيسور رالف عن أن تحقيق الإبادة يتمّ في وسط جيوسياسي دولي لا يكترث بها، ويكتفي بالتفرّج عليها، سنجد أن هناك إرادة دولية لإبادة الثورة السورية عن سابق إصرار وتصوّر، فأمام مشاريع النفط والغاز واستمرار اسرائيل في المنطقة، يصبح الخطر الأكبر على المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، هو نشوء أية محاولة ديمقراطية في المنطقة تشكّل مثالاً جيداً لما حولها، وعلينا كسوريين إن هُزِمنا أن نفكّر مليار مرة قبل أن نرفع صوتنا مرةً أخرى في وجه المستبدّ ونصرخ كفى.

 

الطائرة الآن فوق غوطة دمشق، يتذكّر قبطانها أحد ألعاب البلاي ستيشن، يحدّد الهدف ويطلق.

هو الآن لا يرى إلا موقعاً تمّ إصابته بقنابل الغاز بلا أية دقّة متناهية، وعلى أهل الغوطة أن يتنفّسوا هذا الهواء المليء بالكلور، وأن يزفروه كزفرة الثوري الأخيرة .. ربّما !!

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard