حكومات سورية نفّذت مشاريع لزيادة الفقراء
حكومات سورية نفّذت مشاريع لزيادة الفقراء
ثلاثة أرباع المواطنين فقراء والدخول تقلّ عن 75 دولاراً شهرياً
ثلث السكان غير آمنين غذائياً، ونحو نصفهم مهدّد
تمكّنت أربع حكومات سوريّة خلال الحرب المستمرّة منذ 2011 حتى الآن، من زيادة عدد فقراء البلاد بنحو ثمانية أضعاف، مقارنة بأرقام ما قبل الحرب. كما ساهمت الإجراءات القاصرة بالتضافر مع تداعيات الحرب، في تحقيق انكشاف غذائي مريب، وتعمّق الجوع. إذ بات ثلث عدد السكان غير آمنين غذائياً، فيما صنّف أكثر من 30% حصولهم على الكهرباء وغاز الطهي والدواء بالسيء، وشكّك نصفهم بجودة المواد الغذائية، وفقاً لمسح إحصائي حكومي.
صمت مريب
تسكت الحكومات السورية عن الفقر، تتجاهله قصداً، ترفض مواجهة عدوّ الاقتصاد والتنمية. فيما ينبري المسؤولون لرسم واقع اقتصادي ورديّ، تحمله مؤشّرات وهمية، كقصتي التعافي المبكّر وإعادة الإعمار. ويبدو أن المحافظة على الفقر في سورية هو خطّة حكومية مُحكمة، ورغبة عليا، وهدف سام، سعت الحكومات المتعاقبة إلى تطبيقه. إذ لايمكن تخيّل سورية بلا فقر، وخالية من الفقراء. لحظتئذٍ، تسقط كل المقولات التاريخية المعتمدة في البلاد، منذ انقلاب 1963، كما تتبدّد الأراء التي تجهد في خلق المبرّرات الكافية لحالة الركود الفكري والعقائدي والاقتصادي، وتصمت الأصوات التي تعلّق كل الأخطاء على "الخصوصية السوريّة"، التي يتلطّى خلفها مسؤولون حكوميون وحزبيون، لتأجيل حلّ الملفات الشعبية.
حكومات الفقر
ليس من المعقول أن تلتزم كل الحكومات السوريّة بخططها، الرامية لتحسين المستوى المعيشي، ومن ثم نشاهد كل هذا السخط الشعبي عليها، وتوجيه الانتقادات اللاذعة لعملها، دون أن يتبدّل شيء ما، من قبيل تصويب الاختيار، والتفضيل بين الخيارات الأحسن. حالة الركود هذه، التي بات عمرها عقود، يمكن اختزالها، بحجر الزاوية الذي يمكن من خلاله المحافظة على مشروعية تسيّد حزب البعث المشهد السياسي السوري منذ ستة عقود، ليكون حزب العمال والفلاحين والطبقات الكادحة، الواجهة الحقيقية لكل الخيبات التي تعصف بالسوري.
أنجزت حكومة محمد ناجي عطري( 2003 /2011)، خارطة الفقر في سورية، وحدّدت مئة القرى الأفقر في البلاد، من أصل ألف منطقة تنطبق عليها معايير الفقر. وآنذاك كانت نسب الفقر المتداولة حكومياً تتراوح بين 11% فقر شديد( في الريف وصل إلى 16%)، و30% الخط الأعلى للفقر. الآن معدّلات الفقر الرسمية تتجاوز 80%. السؤال: لماذا لم تنجز تلك الحكومة هدفها المنشود؟ يرى الخبير الاقتصادي إبراهيم حمدان: أن حكومة عطري والحكومات اللاحقة لم تمتلك الأدوات الحقيقية، والقرار لتحقيق هذا الهدف. مشيراً إلى أن القضية ليست اقتصادية بحتة، بل هي في جوهرها سياسية، ترتبط مباشرة بنهج رسمي، يعمل على المحافظة الدائمة على الخيط الرفيع بين الحكومات السوريّة والناس، بحيث تحافظ هذه الحكومات على تمثيلها لهؤلاء الناس، بصفتهم طبقات كادحة، وبالمعنى الاقتصادي فقراء.
سكّان غير آمنين غذائياً
أكثر ما يهدّد سورية، بعد ويلات الحرب، هو التشظّي المجتمعي، وانتشار الفقر، وحصول جوع لم تعترف به حكومة. نفّذ المكتب المركزي للإحصاء مسح تقييم الأمن الغذائي الأُسري 2017، بالتعاون مع هيئة التخطيط والتعاون الدولي وبرنامج الأغذية العالمي WFP ، وشمل أكثر من 5 آلاف أسرة في 11 محافظة( ماعدا دير الزور والرقة وإدلب)، وخلص المسح الذي رصد الأمن الغذائي في سورية، لنتائج أبرزها: أن 31% من عدد السكان غير آمنين غذائياً، وأن 45.6 معرّضون لانعدام الأمن الغذائي، مقابل 23.4% آمنون غذائياً. وفي المؤشّرات الفرعية، حيث احتسبت كل محافظة على حدة، تتصدّر السويداء المحافظات غير الآمنة غذائياً بنسبة 46.5%، وهو ما يسقط تبرير أن الحرب هي السبب، فالسويداء مقارنة بغيرها ظلّت أكثر أمناً. فيما الصدمة الحقيقية أن 20% من القاطنين بدمشق غير آمنين غذائياً، وأن 32.5% من سكّانها فقط آمنون غذائياً، ونحن نتحدّث عن العاصمة، البالغ عدد قاطنيها أكثر من سبعة ملايين نسمة، وهي المركز الذي يحظى وفقاً للعرف السوري بالاهتمام والرعاية، ما يعكس حالة من التراخي الحكومية الشديدة، في تأمين مقوّمات الحياة الكريمة، ويسهم في زيادة حزام الفقر الذي ينزلق إليه المجتمع السوري، في أكبر عملية ممنهجة لزيادة عدد الفقراء وسحق الطبقة الوسطى.
ومن مؤشّرات الأوضاع المعيشية التي نشرها المكتب المركزي للإحصاء، اعتبر 32.5% من السكان أن حصولهم على غاز الطهي خلال الأزمة سيّئ، ورأى 32.8% بأنه وسط، و 34.4% جيد، فيما 3% لايعرفون، واللافت أن 100% من سكان الحسكة اعتبروا أن حصولهم على الغاز كان سيّئاً.
وفي مجال الحصول على الكهرباء خلال الأزمة، صنف 44.3% من السكان بأنه سيء، ورأى 41.1% بأنه وسط، ووجد 14.3% أنه جيد، ولم يحدد 3% موقفهم. وفي مؤشرات الصحة والتغذية، اعتبر 32.7% أن توفر الدواء المناسب خلال الأزمة كان سيئاً، و54.2% وسطاً، و 12.9% جيداً، و 1% لا يعرفون. أما الحصول على المواد الغذائية الأساسية فصنف 12.6% بأنه سيء، و 35.4% وسط. وأكد 14.8% أن جودة المواد الغذائية سيئة، واعتبرها 53% وسط.
تتضافر هذه المؤشرات لترسم واقعاً أسود يعيشه السوريّ، عنوانه الكبير الفقر، لكن تفاصيله اليومية تختزن مأسيَ محزنة، وتتضمّن قصصاً مبكية. فالقضية ليست كما يتصوّر البعض مجرّد سعرات حرارية يجب الحصول عليها، أو رغيف خبز يسند البطون، القصة هي مشهد متكامل، صنعته الحكومات.
جمهور الحكومة الفقير
وجود الفقراء والمعدمين في سورية أمر ضروري، حاجة ملحّة للاستمرار في الثوابت التي يتربّى عليها كل جيل، وهي ثوابت مستقرّة وساكنة، لا تجديد جوهري فيها، وما يجري أحياناً، مجرّد استبدال عبارات وشعارات مرحلية بأخرى أكثر حداثة لغوياً.
وظهرت الحاجة الماسّة لهؤلاء خلال الحرب الطاحنة المستمرّة، وأُميط اللثام عن هذه الضرورة المرحلية، بوصف رئيس الحكومة الحالية عماد خميس حكومته عند تشكيلها في صيف 2016 ـ وهي الحكومة الرابعة عقب الحرب ـ بأنها "حكومة الفقراء". توصيف خميس، كان محاولة لدغدغة مشاعر الشارع السوري، فيما ظهر خميس مؤخّراً، مرتدياً ساعة يد قدّرت قيمتها بأكثر من 9 آلاف دولار، ووزراؤه يركبون أفخر أنواع السيارات.
الوحش الاقتصادي
المعادل الموضوعي لكل هذا، أن حكومة خميس تعمل جاهدة للمحافظة على الفقراء، كما هم، بلا تغيير جذري، أو محاولات تبديل نمط حيواتهم، لينضمّوا إلى الطبقات الأخرى. وبالمسطرة ذاتها، لم تقدّم الحكومة عقب عامين ونصف العام على تشكيلها، مشاريع وخططاً تنموية، تسهم في وقف الفقر، والحيلولة دون انزلاق شرائح جديدة إليه، ومنع هذا الوحش الاقتصادي المرعب من التمدّد. فخلال فترة تولّي هذه الحكومة، لم تحدث أي زيادة في الرواتب والأجور، ولم تتحسّن الأحوال المعيشية.
تزعم الحكومة أن لديها أكثر من مليوني موظف، لكن رواتبهم في أحسن أحوالها لا تتجاوز 75 دولاراً شهرياً للفرد الواحد، ما يعني أن جمهور حكومة خميس، هم الذين يعيشون تحت خطّ الفقر المدقع. كما لم تدعم الحكومة القطاعات الإنتاجية كالزراعة، وتهدّد بشكل مبطّن وصريح أحياناً، بأن خزينة الدولة باتت تئنّ من كلفة الدعم الذي تقدّمه. يؤكّد الباحث ناصر زين الدين لـ (صُوَر) أن ما تزعمه الحكومة من كلفة كبيرة للدعم الاجتماعي غير حقيقي، هو محاولة خجولة للمحافظة على فساد كبير ينطوي تحت هذا الدعم، وإسكات الأصوات المطالبة بتحسين الظروف المعيشية، فيما معظم دول العالم تخلّصت من هذا الدعم غير الموضوعي، واستهدفت شرائح بعينها. ويبيّن زين الدين أن حكومة خميس لم تقدّم مشروعاً تنموياً واحداً، وكل ما تقوم به لا يخلق تنمية اقتصادية، فلا توجد استثمارات بالقطاعات الحيوية، خاصة القطاعات المولّدة للدخل.
منفصلة عن الواقع
خلقت الحكومات السوريّة الأربعة خلال الحرب أزمات معيشية خانقة، لكن تبقى لأزمة سعر الصرف المتلاحقة الوقع الأكبر، والتأثير الذي لم ينجُ منه سوري على الإطلاق. وهدّد تراجع سعر الصرف، وانخفاض القدرة الشرائية لليرة السورية بما يعادل عشرة أضعاف، هدّد الحياة الاجتماعية، ودفع بالناس لاتّباع أساليب لم يعتادوها في الإنفاق، أو في كسب الرزق. وتشير المعطيات إلى تزايد عمليات النهب والسرقة، وانتشار عمليات الخطف مقابل الفدية، وفي المقلب الآخر افتضح المجتمع المستور نفسه على مهن مرفوضة، فالدعارة ازدادت، والاتّجار بالأعضاء البشرية أخذت حصة متزايدة. مقابل ذلك تراجعت القطاعات الإنتاجية الحقيقية كالزراعة والصناعة والأعمال الحرفية. لم تعد هذه القطاعات تطعم خبزاً، فالإجراءات الحكومية مهّدت الطريق أمام اقتصاد الخدمات، ونصبت الحواجز أمام اقتصاد الإنتاج الحقيقي.
لم تسعف حكومات سورية في الفترة 2011 ـ 2018 السوريين، ولم تكُ الدواء المرّ لهم أو البلسم الشافي، في حقيقة الأمر كانت هذه الحكومات من خلال نشاطاتها وقراراتها منفصلة عن الواقع المأساوي. وعلى سبيل المثال، نشطت تلك الحكومات في مجال استيراد مواد لا لزوم لها، ومنها السماح باستيراد طعام القطط والكلاب، والمكسّرات والعسل وغيرها، مقابل تقتيرها الشديد وتقصيرها الواضح في استيراد الأدوية والمحروقات و مستلزمات الإنتاج وفقاً للباحث زين الدين، الذي يتساءل: ماهذه الحكومة التي تزعم أنها حكومة حرب (أي حكومة وائل الحلقي)، أو خليفتها التي صنّفت نفسها بأنها حكومة فقراء، وتقوم بهذه الإجراءات المنفصلة عن الواقع؟
الخيبات الهائلة
أتت حكومة عادل سفر (2011/2012) تحت ضغط توسّع الاحتجاجات الشعبية، كان همّها الوحيد الاستماع لمطالب الناس، التي وصفت آنذاك "بالمحقّة". ورثت تلك الحكومة خيبات هائلة، وحصيلة سنوات طويلة من إدارة ظهر الحكومات المتعاقبة ومسؤوليها للمواطنين. ولم يكن باستطاعتها، أن تعيد بناء الثقة بسرعة مع المواطن، أو تلزمه بعقد جديد اجتماعي واقتصادي، أو أن تحقّق مطالبه. كانت سرعة الأحداث تفوق البطء الحكومي الاعتيادي، ولم تستطع اللجان المشكلة لمكافحة الفساد ودراسة الواقع الاقتصادي والاجتماعي، والزيادة في الرواتب والأجور، أن توقف توسّع مروحة الحراك السلمي، الذي سرعان ما انزلق إلى حراك مسلح وعنف منظّم، واشتعلت الحرب. غادرت حكومة سفر ليرث رياض حجاب تركة ثقيلة، تسلّم منصبه الجديد في حزيران 2012، قادماً من وزارة الزراعة، محمّلاً بصلاحيات تهدف لوضع حدّ للانحدار الحكومي والتراخي العام. حجاب لم يستمرّ بمنصبه سوى شهرين، وأعلن انشقاقه السريع في مطلع آب 2012، مغادراً إلى الأردن، منضمّاً إلى صفوف المعارضة، ليخفت تأثيره ودوره رويداً رويداً.
عُيِّنَ وائل الحلقي رئيساً للحكومة، خلفاً لحجاب، وهو الذي كان يشغل حقيبة الصحة، واستمرّ بمنصبه إلى 2016، في أسوأ فترة تمرّ بها البلاد على مختلف الصُّعُد، لم تتمكّن تلك الحكومة من عمل شيء، ولم تنفّذ خطة ما، أو برنامجاً معيّناً، يردم فجوة الفقر المتّسعة. عانى السوريون من الانحدار الشديد للفقر، وانهيار في سعر صرف الليرة، التي فقدت تسعة أضعاف قيمتها، توقّفت المعامل، دُمّرت المنشآت، وبلغت المواجهة العسكرية ذروتها. في تلك الفترة قدمت إيران القرض الإئتماني بقيمة 3.5 مليارات دولار، الذي أمّن المواد الغذائية الأساسية، وربما جزءاً من الرواتب للموظفين. عاش السوريون أياماً عصيبة في عهد تلك الحكومة، التي وجهت ضربات قاسية للناس عبر رفع أسعار المحروقات والخبز، وقفزت أسعار المواد الغذائية بشكل كبير، فيما الدخول انخفضت. وكانت اللازمة اليتيمة لتلك الحكومة: نعمل على تعزيز مقوّمات صمود المواطن. جاء الحلقي بمشروع "عقلنة الدعم" وهو امتداد للأفكار التي طرحتها حكومة محمد ناجي عطري، حول إعادة توزيع الدعم وإيصاله لمستحقّيه، وهو ماقابلته القوى اليسارية والشعبية بالرفض، واستمرّت حكومة الحلقي تتحدّث بهذا المشروع على وقع تفاقم الأزمة المعيشية، والنزوح والهجرة، لحين إقالتها.
سورية غير الفقيرة
اختزلت حكومة خميس المسألة بكلمة واحدة، في معرض توصيفها لنفسها، أي أنها حكومة الفقراء. هي الحكومة التي تمثّلهم، وليس لتقليل عددهم، بل في مقولة يتداولها السوريون بأن "أبناء الفقراء هم من يدافعون عن الوطن"، نقطة تحوّل في تفسير المحافظة الحكومية الدائمة على الفقراء وزيادة فقرهم. فالمؤكّد أن سورية لن تستغني عن الفقراء، وحكوماتها مكلّفة بذلك، وتخطّط لبقائهم ضمن دائرة الطباشير المرسومة لهم، فقراء بامتياز في دولة غنيّة.