info@suwar-magazine.org

البوكمال (النحامة) .. مدينةٌ مَنْسيّة قاتلت النظام وغرّر داعش بأبنائها فنَحَرهم

البوكمال (النحامة) .. مدينةٌ مَنْسيّة قاتلت النظام وغرّر داعش بأبنائها فنَحَرهم
Whatsapp
Facebook Share

 

 

البوكمال (النحامة) .. مدينةٌ مَنْسيّة قاتلت النظام وغرّر داعش بأبنائها فنَحَرهم

(القصّة الكاملة في رحلة الساعات الخمس)

 

 

 

بِضعة أطفالٍ يركلون كرةً ممزّقة، امرأةٌ مسنّة تتّكئ على عصا ملتوية وهي تجرّ خلفها سنواتها الثمانين، ورجالٌ ملتحون ينفثون دخان سجائرهم، وهم يمشون بخطواتٍ سريعة في شارعٍ بـ حيّ (الطويبة) أحد الأحياء الشرقية لمدينة البوكمال /140/ كم شرقي محافظة ديرالزور السوريّة.

 

أجواءٌ هادئة لا تبعث على الهدوء والطمأنينة البتّة، في مدينةٍ تعيش الرعب، الخوف والدمار منذ ستّةِ أعوام، بدءاً من سيطرة فصائل المعارضة المسلّحة مروراً بتواجد تنظيم الدولة الإسلامية- داعش، وانتهاءً بإعادة السيطرة من قِبل قوات النظام السوريّ.

 

وَصَلَتْ حافلة الركاب الصغيرة- التي انطلقت من ديرالزور وكانت تُقلّ /14/ راكباً- إلى البوكمال عند الساعة الثانية عصراً، في رحلةٍ استغرقت نحو /5/ ساعات بسبب كثرة حواجز التفتيش على الطريق، بعدما كان المسافر يحتاج قبل عام /2011/  إلى ساعةٍ ونصف الساعة للوصول إلى وجهتهِ المقصودة من وإلى ديرالزور- البوكمال.

 

ترجّل "عبد الوهاب أبو خليل" /48/ عاماً وهو يتأبّط كيساً أسود اللون يبدو وكأنه يحتوي بعضاً من الملابس، ثم غادر باقي الركاب أماكنهم ضمن الحافلة في حركةٍ سريعة، فيما علامات الذهول والاستغراب باديةٌ على وجوههم وهم يمعنون النظر في تفاصيل مدينتهم المنكوبة التي يدخلونها أول مرّةٍ بعد /3/ أعوام من مغادرتها هرباً من بطش تنظيم داعش.

 

«كل شيءٍ تغيّر، لا شيء في مكانه، الوجوه، الأبنية السكنية، حتى حِجارة الرصيف التي كانت متراصّة قَدْ تغيّرت» يقول "أبو خليل" وهو يتحدّث من تلقاء نفسه بصوتٍ مسموع دون أن يكون كلامه مخصّصاً لأيٍ من الأشخاص الذين ترجّلوا لتوّهم من حافلة الركّاب.

 

ثُكْنةٌ عثمانيّة توثّق تاريخ المدينة الحديثة:

 

تأسّست مدينة البوكمال سنة /1864م/ على يد الدولة العثمانية التي كانت تحكم المنطقة آنذاك، وقد أنشأت حينها ثكنةً عسكرية لحماية القوافل التجارية العابرة من وإلى العراق، وعيّنت (درويش أفندي أبو كمال) مسؤولاً عنها، وفي موقع الثكنة العسكرية بُنيت المدينة الحديثة وسُمّيت بـ (البوكمال) نسبةً إلى مسؤول الثكنة، في الوقت الذي كسبت المدينة اسماً آخر لمّا يزل بعضهم يتلفّظ به (القِشلة Kişla) وهي كلمة تركية تعني (الثُكنة)، لكن قبل تلك التسميات كانت البوكمال عبارة عن قرية تسمّى (النحامة) ولا تزال أرض (النحامة) موجودةً حتى الآن وتحمل الاسم ذاته.

 

«بعد خروج الأتراك من المنطقة إبّان انتهاء الحرب العالمية الأولى، تناوبت بريطانيا وفرنسا  السيطرة عليها؛ إذ حكمها البريطانيون أولاً حتى أُخرجوا منها في ديسمبر/كانون الأول 1919 بثورةٍ قادَها الأهالي، ليُخلفهم الفرنسيون من عام 1921 وحتى انسحابهم من سورية 1945».

 

 

(فيزا بوكماليّة) للسماح بالدخول إلى المدينة:

 

يحتاج أبناء البوكمال النازحون إلى مدنٍ سوريّة أخرى، إلى موافقةٍ أمنية للسماح لهم بزيارة مدينتهم التي استعادتها القوات النظام من قبضة مسلّحي داعش  صيف 2018.

 

(تمكّن كاتب التحقيق من دخول مدينة البوكمال بصفته تاجراً وليس صحفيّاً، خوفاً من استجوابه أو ربما توقيفه.  أربعة أيامٍ انتظرها «الصحفيّ التاجر» لحين حصوله على ورقة عبور من محافظ ديرالزور بغية السماح له بالتّوجّه إلى البوكمال).

 

تحرّكت حافلة الركّاب من كراج ديرالزور في الساعة /9/ صباحاً باتّجاه البوكمال، ورقة العبور التي يحصل عليها المسافرون من مبنى المحافظة، هي بمثابة (فيزا) حقيقية تحمي راكب الحافلة من التعرّض للاستجواب من قِبل عناصر الحواجز أو منعه من الوصول إلى مقصده في أقصى الشرق السوري عند تخوم الحدود العراقية على بُعدِ /8/ كيلومتراتٍ فقط عن  مدينة (القائم) العراقية.

 

على طول الطريق المُعبّد بين ديرالزور والبوكمال، ثمّة تبدّلاتٌ طرأت في غياب مَنْ نزحوا عن المدينة وريفها، فالحواجز التي تضجُّ بعناصر قوات النظام وأخرى يُديرها مُسلّحون ترفرف فوق رؤوسهم راياتٌ مغايرة عن العلم السوري، كانت أكثر ما يُثير انتباه العابرين نحو ولاية  داعش المنسيّة- البوكمال.

 

يُحدّق أحد عناصر حاجز قرية (الدّوير) /40/ كم غربي البوكمال،  في أوراق العبور التي في يُمناه ويقارن بين الأسماء الموجودة فيها وبين بطاقاتٍ شخصية حَمَلَها في يُسراه، دون أن يتلفّظ بأيّة كلمة، وبعد انتظارٍ دام نحو /20/ دقيقة، سلّم البطاقات والأوراق إلى سائق الحافلة وفي حركةٍ من يده، أمَرَه بالتّحرّك وإكمال رحلته.

 

البوكمال تنتفض في وجه النظام ثم تُجْبَر على حَمْلِ السلاح:

 

خَرَجَ أبناء البوكمال في تظاهراتٍ سلميّة ضد النظام السوري في آذار/ مارس 2011، وهتفوا للحرّية وطالبوا بالإفراج عن المعتقلين، لكن قوات الأمن قمعت تلك التظاهرات كباقي المدن السوريّة الأخرى، واعتقلت العشرات.

 

«في الجمعة الأولى تدخّل وجهاء العشائر لفضّ التظاهرات التي شارك فيها نحو مئتي  شخص معظمهم من الشباب، وكانت عناصر الأمن حذرةً من استخدام العنف حينها» يقول "أبو علاء" /35/ عاماً، أحد أبناء البوكمال وقد رفض مغادرة منزله وتعرّض للاعتقال فيما بعد لدى جميع الكتائب التي تناوبت السيطرة على المدينة. 

 

"أبو علاء" وهو اسمٌ مستعار، اعتمده كاتب التحقيق خشيةً على حياة الشخص الحقيقي الذي التقى به في منزل أحد وجهاء المدينة، يقول: «نجحنا في التظاهرات اللاحقة، ربما الجمعة الرابعة، من تحطيم مجسّمٍ نصفي لـ حافظ الأسد وتمزيق صُوَر بشار الأسد، بعد أن هاجمنا شعبة حزب البعث».

 

حَمَلَ أبناء البوكمال- كغيرهم من المحتجّين في المدن الأخرى- السلاح ضدّ قوّات النظام، بعدما استخدمت الأخيرة الرصاص الحيّ ضد المتظاهرين السلميين، لتتحوّل المدينة برمّتها إلى ساحة حربٍ خلّفت قتلى وجرحى من الطرفين، قبل أن يُعلن الأهالي سيطرتهم على المدينة والاستيلاء على المؤسّسات الحكومية، بعد أن فرّ مَنْ تبقّى من قوّات الجيش والأمن.

 

«ظهر السلاح بشكلٍ مفاجئ عقِب استشهاد أحد المتظاهرين على يد الأمن العسكري الذي تلقّى أوامر إطلاق الرصاص الحيّ من رئيس الشعبة العقيد غسان، في بداية الأمر لم يكن الهجوم على المقرّات الأمنيّة مخطّطاً له، لكن بوجود شبابٍ متهوّر، بدأ الهجوم على مقرٍّ للشرطة العسكرية، وطردوا عناصره دون الدخول في مواجهاتٍ دامية». يؤكد "أبو علاء" على هذه الحادثة باعتباره شاهداً على الواقعة، يقول: «جرت العادة أن يرافق جموعٌ من المدنيين العُزّل هؤلاء المسلّحين لمراقبة ما يجري من بعيد دون المشاركة في أية مواجهات، فهي عادةٌ لدى أبناء المدينة في أية مناسبةٍ كانت، أناسٌ يشاركون في الحدث وآخرون يراقبون».

 

وقبل أن يُكمل حديثه، يأخذ لفافة تبغٍ من علبة سجائره الملقيّة بفوضوية أمامه، ثم يُشعلها ويأخذ نَفَسَاً عميقاً وينثر دخانها في الهواء، يقول: «الهدف الثاني للهجوم كان شعبة المخابرات الجوّية، والذي يترأسه المساعد أول "أبو شوكت"، استمرّت الاشتباكات عدّة ساعات بعد أن قُتِل /5/ عناصر وجُرح آخر، فيما فضّل آخرون الاستسلام والانضمام للمحتجّين، أمّا رئيس الشعبة، فلم يُعرف مصيره، بعض المشاركين في الهجوم أكّدوا نبأ إصابته ثم هروبه، وبعضهم خمّن عدم تواجده ضمن الشعبة لحظة الهجوم».

 

البوكمال أول مدينةٍ سوريّة تنتزعها المعارضة من النظام:

 

تلالٌ مرتفعة من الأدوات المنزليّة (برّادات- غسّالات- أفران غاز ومراوح وأشياء أخرى) كان مدخل قرية (الصالحية) يزدان بها على جانبي الطريق، وتلالٌ أخرى احتوت على أشكالٍ مختلفة من الأبواب والنوافذ، قال عنها سائق الحافلة بصوتٍ خافت: «إنها غنائم الجيش المغْوار، لقاء تحريره المدينة من مسلّحي داعش، إنها بانتظار الشاحنات لحمْلها إلى مدن الداخل والعاصمة لبيعها في أسواق الأدوات المستعملة» قالها وهو يرفع من مستوى صوت المُسجّلة بتمرير إصبعي الإبهام والسبّابة على مفتاح الصوت باتّجاه اليمين، في حركةٍ أوحت للجميع بلزوم الصمت وعدم الخوض في تفاصيل ما رأوه  لتوّهم.

 

 

بعد تحوّل الاحتجاجات السلميّة إلى صراعٍ مسلّح، حاصرت قوات النظام مدينة البوكمال من كل الجهات لإخماد ثورة الأهالي المسلّحة، واستقدمت جنوداً من الوحدات الخاصة وكتائب دبابات، ليصير الصراع علناً بين الحكومة وبين المحتجّين المسلّحين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الجيش الحرّ، بعد أن انضمّ إليهم بعض العسكريين ممّن أعلنوا انشقاقهم عن جيش النظام خوفاً على حياتهم من فوضى الثورة المسلحة.

 

سيطرة الجيش السوري الحرّ على كامل البوكمال، جاءت منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، وبذلك كانت المدينة السوريّة الأولى التي نجحت المعارضة المسلحة في انتزاعها من القوات الحكومية، بعد معارك دموية مترافقة مع قصفٍ جوّي ومدفعي دمّرت عدداً كبيراً من بيوت المدنيين الذين اضطرّوا للنزوح باتّجاه الريف المجاور.

 

 (الجيش الحرّ) فجبهة النصرة ثم داعش.. يَرِثونَ البوكمال:

 

((قبل التوجّه إلى مدينة البوكمال، التقى كاتب التحقيق في مدينة قامشلي شمال شرقي البلاد، أحد أبناء البوكمال النازحين ويُدعى "أبو محمد" /اسمٌ مستعار/ وهو من بين الشباب الذين قاتلوا إلى جانب الكتائب المسلحة ضدّ قوّات النظام، قبل أن يُصاب في قدمه اليمنى ليتوجّه إلى قامشلي بقصد العلاج)).

 

يقول "أبو محمد": «لجأ المحتجّون إلى حمل السلاح، بعد أن أقدمت قوات الأمن على إطلاق الرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين العُزّل، في بداية الأمر، كان أبناء المدينة يقاتلون ضمن مجموعاتٍ صغيرة وجميع أفرادها كانوا يعرفون بعضهم الآخر، لكن بعد انسحاب جميع الوحدات العسكرية النظامية من المدينة وريفها، بدأت كل مجموعة بوضع قوانين مختلفة لإدارة مناطق سيطرتها، وباتت تقبل ضمن صفوفها جميع مَنْ يودّون القتال دون أخذ معلومات كاملة عنهم، حتى بات أفراد المجموعة الواحدة لا يعرف أحدهم شيئاً عن الآخر، سوى اسمه الشخصي، وهو غالباً ما كان اسماً وهميّاً».

 

«اختُطِفَت الثورة  المسلحة من أيدي أبناء البوكمال مرّتين، مرّةً عندما نجحت جبهة النصرة (الفرع السوري لتنظيم القاعدة) من الاستيلاء على المدينة وأمرت فروض الطاعة، ومرّةً ثانية، عندما نجح داعش في  استمالة بعض عناصر (النصرة) التي بايعت التنظيم ومهّدت الطريق أمامه لاجتياح المدينة والسيطرة عليها بداية يوليو/ تموز 2014، بعد قتالٍ لم يستمرّ سوى /4/ أيام، وعلى رأس هؤلاء المتعاملين مع التنظيم والذين أمسَوا خونة في نظر أبناء المدينة، "صدّام البخيته" المعروف بـ "صدّام الجمل" الذي صار فيما بعد أحد أبرز  قيادات داعش المطلوبين قبل أن تلقي المخابرات الأميركية القبض عليه وتسلّمه للقوات العراقية».

 

«قبل أن يدخل مسلّحو داعش المدينة، أرسل التنظيم عدداً من عناصره برفقة قائدٍ من قواده ليقرأ بياناً أمام حشودٍ غفيرة في ساحة النخلة وسط البوكمال، يدعوهم لمبايعة الدولة الإسلامية، و فَوْرَ دخوله عَمَدَ التنظيم إلى فصل رأس أحد أبناء المدينة عن جسده وتعليقه، في محاولةٍ منه لزرع الخوف والرعب في قلوبهم، كان هذا الرجل يُدعى حمّاد، رجلٌ وَرِع يُحبّ الخير ولا يفارق المساجد» يقول "أبو محمد".

 

أسواق المدينة إلى دوّار (المصريّة).. والدخول إلى حيّ (الجمعيّات) ممنوع:

 

وَصَلَت حافلة الركّاب- التي كانت تُقلّ /14/ راكباً من بينهم كاتب التحقيق- إلى البوكمال، هدوءٌ يحبس الأنفاس كان يُخيّم على المدينة، وأصوات قذائف ورشاشات متقطّعة تأتي من بعيد كانت تكسر رتابة الهدوء الملبّد بالخوف.

 

«إنها اشتباكاتٌ بين الديمقراطي (أي قوات سوريا الديمقراطية) وداعش في الجانب الشرقي من النهر» يقول "أبو قصي"، هكذا ناداه راكبٌ آخر كان برفقته، بينما يهمّ بترتيب هندامه وهو يرمي بنظره إلى البعيد حيث لا شيء يبدو جليّاً.

 

في الماضي، قبل 2011، كان بانتظار زوار البوكمال في المدخل الغربيّ للمدينة طائرةٌ حربية من طراز /ميغ 21/ تستقبل القادمين وتودّعهم، تلك الطائرة التي نَصَبَتها بلدية البوكمال وسط دوّارٍ عند شعبة الأمن العسكري لم تعد موجودةً الآن، فقد (طارت) رغم أنها لم تكن سوى هيكلٍ حديديّ عاجزٍ عن التحليق، طارت وطار معها مبنى الأمن العسكري جرّاء المواجهات المستمرّة بين عناصره وبين مسلّحي المعارضة.

 

جميع أسواق البوكمال توقّفت عن عمليّات البيع والشراء في أماكنها المعتادة (سوق النوفوتيه- سوق المقبي- سوق الخضار- سوق الصاغة..إلخ) بعد أن انتقلت إلى دوّار "المصريّة" في الجهة الشرقية من المدينة.

 

«توقّف.. ممنوع الدخول أو الاقتراب» قالها رجلٌ بلحيةٍ سوداء كثيفة الشعر عند حاجزٍ عسكري في مدخل حيّ (الجمعيّات) عندما حاول كاتب التحقيق دخول الحيّ.

 

«تحوّلت هذه المساكن جميعها إلى نقطةٍ عسكرية تُقيم فيها كتائب وميليشيات شيعية إيرانية، ولا يحقّ لأحدٍ المطالبة بمنزلهِ الموجود ضمن هذا الحيّ»، قالها رجلٌ ستينيّ بعدما لاحظ وجود الشخص الغريب في حيّ ٍ قلما يتّجه أحد أبناء المدينة أنفسهم إليه.

 

«معظم بيوت المدينة التي رحل عنها أهلها، صارت هياكل جرداء من محتوياتها  رغم عدم تأثّرها بعمليات القصف الجوّي والمدفعي، فعناصر قوات النظام والميليشيات المرافقة لها، لم تدّخر أي جهد في (تعفيش) تلك البيوت»، يسرد الرجل الستينيّ، وهو يشير بأصبعه إلى بيوتٍ على جانبي الطريق، ويسمّي أصحابها ممّن غادروا المدينة.

 

عند حلول المساء، تحوّلت البوكمال بأكملها إلى مدينة أشباح، لا وجود للتيار الكهربائي، ولا مولّدات تغذية كهربائية، لا مصابيح مُنارة، لا مارة يتجوّلون في الطرقات كما في الماضي، لا أصوات سوى أزيز رصاصٍ يُسمع من بعيد مجهول الاتّجاه، وهدير طائراتٍ حربية لا تغادر السماء العالية، حتى ضوء القمر كان غائباً في تلك الليلة التي قضاها كاتب التحقيق لدى أحد الأهالي.

 

تصفية حساباتٍ بينيّة للأهالي بإلصاقِ تُهَمٍ غيابية بالانتماء إلى داعش

 

ليس بإمكان أحدٍ من أبناء المدينة النازحين خارجها العودة إليها، إلا إذا تأكّد من أن اسمه ليس مُدرجاً ضمن قائمة المطلوبين لدى أجهزة الأمن.

 

فقد بدأ أبناء هذه المدينة بتصفية حساباتهم ضدّ بعضهم الآخر بطريقةٍ أقلّ ما يمكن وصفها بأنها لاأخلاقية، فالتعامل مع داعش قد يكون أقلّ تهمةٍ يمكن أن يُلصقها أحد الموجودين في المدينة بشخصٍ أو عائلة نازحة انتقاماً من ثأرٍ قديم سَبَبُه مشاكلٌ اجتماعية، وذلك كافٍ بألا يتجرّأ أحدٌ من تلك العائلة على التفكير بالعودة، وبذلك يكون قد خَسِرَ كل ما يملك في مسقط رأسه، منزله، مكان عمله، إضافة إلى محتويات المنزل التي عادةً ما تصير غنيمةً للعسكريين.

 

(بتاريخ 15/8/2018 التقى كاتب التحقيق في منطقة المزرعة بدمشق بـ "عبد العزيز طه" رجلٌ في عقده الخامس من أبناء حيّ المساكن بمدينة البوكمال، نزح إلى العاصمة السوريّة بعد عامٍ من دخول تنظيم داعش مدينته).

 

«كنت مُجبراً على الهروب مع زوجتي وطفلَيّ "قيس ورانيا" إلى أي مكان يكون خارج سيطرة التنظيم، نجحتُ في الوصول إلى دمشق عن طريق مهرّبين بعد أن دفعت لهم مبلغ /800/ دولار ، ما يعادل /400/ ألف ليرة سورية ».

 

يقول الرجل قصير القامة: «بعد سيطرة الجيش السوري وهزيمة داعش، قرّرتُ العودة إلى البوكمال للاطمئنان على منزلي ومحلّي الخاص ببيع الأدوات المنزلية، لكن تمّ اعتقالي في ديرالزور عند أولِ حاجز تفتيش بسبب تطابق اسمي مع اسمٍ مطلوب بتهمة التعاون مع داعش، وتمّ تحويلي إلى شعبة المخابرات العامّة في دمشق».

 

يؤكّد "عبد العزيز طه" أنه سُجِن مدة /6/ أشهر في فرع فلسطين، وكان يمكن أن يبقى فترةً أطول لولا تدخّل بعض أفراد عائلته التي دفعت مبلغ /3/ ملايين ليرة سورية، ما يعادل 6 آلاف دولار، لبعض الوسطاء مقابل إطلاق سراحه، بعدها قرّر السجين السابق عدم التفكير بالعودة نهائياً إلى مدينته.

 

مع بزوغ فجرِ يومٍ جديد، عادت الحياة مجدّداً إلى البوكمال، بعد ليلةٍ مظلمة عاشتها وتعيشها المدينة منذ سنوات، هي لحظة التّأمّل، التفكير واتّخاذ القرار لكل شخصٍ رفض ترك منزله، لحظة اّتخاذ القرار بالبقاء للأبد أو الهروب من مدينةٍ كانت منسيّةً في الماضي منذ عهد (الحركة التصحيحية)، وبقيت كذلك حتى اليوم، رغم أن معاناة أبنائها من بطش مَنْ تناوبوا على احتلالها، لم تكن بأقلّ من معاناة باقي السوريين في المدن السوريّة الأخرى.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard